قبل الثورة كنا نتناقش مع البعض حول الأوضاع السياسية في ليبيا، فأجبناهم بصراحة أن الحل الأمثل هو وضع ليبيا تحت وصاية دولية لإدارتها لمرحلة انتقالية يتم فيها بناء مؤسسات الدولة، وبناء الإنسان. الرد كان هجوما نارياً علي الفكرة. وبالطبع ذات الجمل العاطفية الخداعة. الوطن، الوطنية، الاستعمار، ليبيا بها كفاءات، هذا الشعب عظيم!!!! بالتأكيد هذا كلام لا يسمن ولا يغني من جوع على أرض الواقع، لأن السياسة تقوم على الواقع، والوقع كفيل برش الماء على وجه كل حالم.
كان تركيزنا على الإنسان في هذا النقاشات الحادة أحياناً كثيرة. نعم منذ صغرنا ونحن نلحظ كمية الجهل والتعالم و غياب الوعي وفقدان الثقة المتبادل والرياء والتكاذب وتقديس القوة والنفاق والمصلحية، وكمية الحقد والحسد والغل وحب والانتقام والتشفي والظهور باستعلاء على الناس في أي مناسبة كانت ولو كانت شهادة نجاح!!!
لقد كان بين جلي أن نسب الإنسانية في انخفض حاد، وأن الأخلاق و المبادئ بضاعة غير رائجة إلا بقدر ما تحقق لنا أهداف خاصة، وإذا أضفنا إليها غياب العلم والثقافة والوعي، وإذا أضفنا إليها مقدار العصاب النفسي و كمية السلاح المنتشر، وإذا أضفنا مقدار الثارات والانتهاكات والمآسي التي حدثت قبل وأثناء وبعد الثورة ، فالنتيجة ستكون مأساة، والبناء، إن تم البناء، في غياب دولة قوية ومؤسسات راسخة قد يحتاج لعقود إن لم يكن قرون.
وللأسف حتى كثير من النخب تفوه بمثل هذا الكلام العاطفي الانفعالي الآنف الذكر، والذي يثبت أننا مجتمعات في طور الطفولة الإنسانية – إن كانت كلمة إنسانية تعني هنا فعلاً مضمونها – لم نصل بعد لمرحلة النضج والوعي بالواقع والآم الناس و مالآت الأمور.
فمثلاً الدكتور علي الصلابي والإعلامي محمود شمام كانا في بداية الثورة يشجبان كل دعوة للتدخل الخارجي، وكان يصرحان ويلمحان إلى خيانة من يتفوه بمثل ذلك، في ردود انفعالية، وأن هذه مبادئ وخطوط حمراء للشعب الليبي!ّ!!!ّ
ثم ماذا حدث ؟ نعرف كلنا ما حدث، وللأسف ما زال البعض يريد تكرار هذه الخطابات الانفعالية!! ولكن كما قلنا الواقع خير معلم.
نخبنا لا زالت في معظمها على هذا الخطاب الطفولي الانفعالي، وهو أمر غير مستغرب، فمن يكن مؤدلجاً اسلاميا أو قومياً، أو ابتلعته بيئة هذا المجتمع وثقافته وخطابه العاطفي، أو يكن هدفه السلطة، أو إرضاء غريزة تأكيد الذات، يكن في الغالب شعبوياً، محاولا قول كل ما يخيل له أنه يزيد أسهمه لدى الناس وتلميع صورته، أو لدى جماعته، صورة المثقف المناضل الذي لا يجمجم في الحق. صورة المضحي في سبيل الناس والوطن.
كذلك لا يمكن للبعض الآخر أن يفرطوا في فرصة انفرادهم بالأمور السياسية، ولو كلف ذلك البلاد عشرات السنين من الفوضى والقتل والدماء وانعدام الأمن، وانهيار التعليم، وتفشي الجريمة، وانهيار هيبة الدولة!!! طبعاً ما دام الأمر ليس فيه تهديد جدي له ولعائلته ولمشروعه.
نحن نستعين بالغريب في كل شؤون حياتنا، حتى تدريب أنديتنا ومنتخابتنا،!! فلا ندري نحن الذين لا نعرف حتى تدريب الأندية نصبح فلاسفة وعلماء في بناء الدولة وإدارتها!!! إحدى التناقضات الناتجة عن تلكم الحالة.
الشعب الليبي، في غالبية كبيرة منه ، تعلم من درس الثورة وبعدها، وواجه الواقع، ووجد أن المجتمع الدولي أكثر حرصاً وأمنا على البلاد والليبيين من أنفسهم . لأننا كشعوب نعيش حالة من الازدواج الأخلاقي والقيمي، لقد شاهد الليبيون كيف أن المجتمع الدولي يفكر ألف مرة في المدنيين (الليبيين) من الطرف الآخر، فيما نحن لا نكترث لهم البتة، فيكون أفضل لو قتلوا مع الكتائب . وجد الشعب الليبي أن الصادق الوحيد في الوضع الليبي كان المجتمع الدولي، وكل من شارك من الليبيين في هذا القتال، إلا من رحم ربي، تبين زيفه وخداعه، وأن الأمور ما كانت إلا انتقامات وحزازات شخصية وسعي للسلطة والمال والتشفي والثارات.
في الثورة سألنا أحدهم عن أرصدة ليبيا في الخارج، فقلنا له لا تقلق عن أرصدة ليبيا في الدول المتقدمة ومن هي على طريقها، فأنت ربما ستجدها مضاعفة بسبب نظام الفوائد، أنت يجب أن تقلق على ليبيا نفسها وأموالها التي بين الليبيين، وأولهم من يدعي حب الوطنية ويمتهن الخطابات العاطفية الانفعالية.
في بدايات الثورة، كنا على طول الخط ضد عسكرة الثورة !! لأن الواقع كان يقول أن عسكرة الثورة من مصلحة النظام، ولأننا ضد الحرب وندرك مآسيها وما تخلفه على المدى القريب والمتوسط. ولأننا ندرك أن مجتمعاً بهذه الصفات يكون من الانتحار أن ينتشر السلاح بين صفوفه، فأنت كمن تعطي مجنوناً سكيناً.
نحن على ثقة ويقين بأن الشعب الليبي لو تم استفتائه في الموضوع لأختار الاستعانة بقوات دولية، مختلطة كانت، أو عربية أو إسلامية، أو حتى من كائنات فضائية، حتى يتم بناء الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية في بناء ليبيا الحديثة.. لماذا؟
الواقع أثبت لليبيين، والذين في أغلبهم متضررين أمنياً وحياتياً، ويلفهم الخوف والرعب من حاضر مرعب ومستقبل مجهول حقيقة هؤلاء ممن يسمون ثوار ومن يدعمهم سياسياً وفكرياً ! أدركوا أن هؤلاء لا إنسانية لهم، يبررون كل شيء من أجل الوصول إلى السلطة، أو تحقيق منافعهم المادية من نهب للأراضي وأموال الدولة وممتلكاتها، ينشرون الرعب والقتل والتعذيب والابتزاز يمنة ويسرة من أجل أشياء هم يدركون قبل غيرهم أنها ضد رغبة الليبيين.
رغم صغر سنا، ولكن مررنا بأحداث ومواقف أثبتت لنا بأن العاطفة شيء نبيل في الإنسان، والانفعالات شيء فطري في الإنسان، ولكن تأكد لنا بأن العاطفة والانفعالات التي تصادم الواقع وتصب في مصلحتي الآنية القصيرة المدى، أو في مصلحتي في مقابل مصالح جمهرة من الناس ما هي إلا تصرفات بدائية وأنانية سلطوية أو مادية تعكس نفوس ملتاثة بأمراض وعقد نفسية واجتماعية وتعليمية وثقافية.
ارتفعوا فوق الخطابات التي شبعنا منها، كالشعب العظيم، يمتلك كفاءات، العالم يتساءل، شعب محافظ، وضعوا نصب أعينكم شيء واحد ، ماهي أسرع طريقة لبناء الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة؟ ولكن يجب أن تضعوا في أذهانكم ان هناك جيوش موازية من مليشيات الجهلة والمجرمين، ومن لديهم أحقاد و ثارات متبادلة، وقطاع طرق ونهابي الأراضي والفاسدين والمرتزقة واللصوص والملتاثين نفسياً والارهابين والمنظرين لكل هؤلاء باسم الحق والدين والقبيلة والإقليم، والباحثين عن إرضاء شهوة الانتقام والتشفي مدججين بالأسلحة عدوهم الأول قيام دولة القانون، دولة المؤسسات، وهو يسعون ليل نهار لهدم ما تبقى من هذه الدولة، وإفلاسها وتدمير نسيجها الاجتماعي.
نحن بصدد مرحلة تاريخية، نرجوكم أن تأخذوا خطوة للخلف وتتعالوا على أنفسكم وهذه الخطابات العاطفية الانتقامية والأيدلوجيات الدينية والجهوية.
ربما لا يكون الحل بتدخل دولي أو عربي أو إسلامي، ولكن يجب أن نشرك المجتمع الدولي، فنحن شعب قاصر ونخب قاصرة بها من الإشكاليات ولعقد النفسية والأمراض النفسية ما يكفي لأن نأكل لحم بعضنا البعض.
البلاد تضيع، وجيوش من ذكرنا سابقاً في قوة كل يوم ويتغلغلون في مفاصل ما تبقى من هذه الدولة المسكينة. وما تطرحونه وردي ويحتاج لعشرات السنين، وليت النتائج كانت مضمونه حتى. لديكم تجربة كوسفو وتجربة ليبيا الحديثة وعديد التجارب. نرجوكم لا تظلموا هذه الأجيال والأجيال التي بعدها لتسلموها بلد متشظي مليء بالسلاح والعصابات والمليشيات وبالخوف والرعب والقتل والتعذيب وانتشار الجهل وانعدام الأخلاق والوعي.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً