مخاطر وتحديات الفساد.. لتحقيق الاستقرار العادل 

مخاطر وتحديات الفساد.. لتحقيق الاستقرار العادل 

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

في هذه الورقة ساختصر حديثي على مفهوم “الفساد السياسي” وعلاقته بالأزمات والتحديات التي يواجهها شعب ما وما هي أهم الآليات المطلوبة لتحقيق الاستقرار العادل.

أنواع الفساد

طالما أن هناك تعريفات عديدة للفساد، فسيكون هناك أيضا أنواع عديدة لعل من أهمها:

(1) محاولة فهم ظاهرة الفساد من خلال مستويات (أو ركائز) المجتمع الأربع، وهي – السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

(2) العديد من الباحثين يصنفوا الفساد إلى نوعين رئيسيين هما: الاختيار العقلاني والاختيار الوظيفي.

قد ظهرت نظرية الاختيار العقلاني للسلوك البشري كنتيجة للتفضيلات الفردية والمصلحة الذاتية، ووفق لهذه النظرية فإن “الأفراد يعتمدون على حسابات عقلانية لتحقيق النتائج التي تتوافق مع أهدافهم الشخصية، وأن الهدف النهائي لهؤلاء الأفراد هو تعظيم المنفعة، وتحقيق الهدف الذي يجعلهم أكثر سعادة وأكثر رضاءً”. (راجع: بيتر هول و روزماري تايلور، 1996).

أما نظرية الاختيار الوظيفي للفساد فقد ظهرت وانتشرت، في العلوم السياسية، في أعمال مجموعة من العلماء أهمهم البروفسور صموئيل هنتنغتون (1927-2008)، عالم في السياسة ومفكر استراتيجي أمريكي، الذي اعتبر “الفساد وسيلة لـ”تشحيم العجلات” لإنجاز الأمور وخاصة للمستثمرين والشركات، واعتبر الفساد وسيلة للتغلب بسرعة على المتطلبات التنظيمية والمرهقة، ولتوزيع الموارد وتوليد النمو الاقتصادي، واعتبر ايضا الفساد شكلاً من أشكال “حل المشكلات”، وخصوصا في مرحلة الازمات والتغيرات السريعة”، (راجع: كندرا دوبوي، 2009).

ففي بداية الستينات، ابتكر هنتنغتون فكرة “الثورة البيضاء”، كشعار لتطبيق المنهج “الوظيفي” في تحليل ظاهرة الفساد، وتم تطبيقها لأول مرة في المجتمع الايراني في يناير 1963، عندما قام شاه ايران، بمساعدة المخابرات الأمريكية، باسقاط حكومة رئيس الوزاء محمد مصدق، والعودة إلى الحكم، وقام بما اسمه النوايا الحسنة للاصلاحات التقدمية، واطلق على هذه المجموعة من الاصلاحات اسم “الثورة البيضاء.” وسُميت بالثورة البيضاء لأنها كما قال كانت بدون دماء. وكان يفتخر بأن إصلاحاته كانت أكثر حداثة من أي إصلاحات أخرى”. (راجع: جيفري روبرت كوب, 2012).

وفي نهاية الستينات، استخدم هنتنقتون مصطلح اخر هو “الفساد الوظيفي” (Functional Corruption) لتحليل ظاهرة الفساد. في هذه المرة حاول التفريق بين ما اسماه “الفساد الفعال والفساد غير الفاعل”. وفي هذا الصدد يقول هنتنقتون، أن مكافحة الفساد تتطلب من صانعي السياسات الاعتراف بالحسنات والفوائد التي يمكن أن يجلبها الفساد والاستجابة لها، وقد دافع بقوة على هذه الفكرة وعن المزايا والفضائل الاقتصادية والاجتماعية للفساد، وأشار إلى أن الفساد يوفر منافع للجماعات التي تكون بخلاف ذلك بعيدة عن المشاركة السياسية في المجتمع. وفي هذا الصدد يقول: “إن الشيء الوحيد الأسوأ في مجتمع به بيروقراطية جامدة مفرطة المركزية وغير شريفة، هو وجود بيروقراطية جامدة مفرطة المركزية وصادقة”. (هنتنقتون، 1968، ص 386).

وقد ساد هذا الأسلوب لتحليل ظاهرة الفساد خلال الحرب الباردة، وغضت القوى الكبرى الطرف عن الفساد بكل أنواعه، واستمر ذلك التغاضي حتى بداية التسعينيات، عندما نأى الكثير من الباحثين في ظاهرة الفساد بأنفسهم عن هذا الأسلوب في التحليل، مفضلين إظهار المشاكل والاضرار التي يسببها الفساد”. (راجع: قرانت وولتن، 2018).

وفي عام 1993، وبعد نهاية الحرب الباردة، ابتكر هنتنقتون أسلوب جديد لتفسير نظرية الاختيار الوظيفي للفساد، وقد أطلق على هذا الاسلوب الجديد مصطلح “صراع الحضارات”. وفي هذا الطرح الجديد حاول القول أن الحروب المستقبلية لن يتم خوضها بين الدول، ولكن بين الثقافات، وأن التطرف الإسلامي سيصبح أكبر تهديد للهيمنة الغربية على العالم، وتوقع بأن تكون “الهويات الثقافية والدينية” للناس المصدر الأساسي للصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة، بمعنى آخر، أن الحروب المستقبلية لن تكون بين الدول بل بين ثقافات الشعوب.

(3) إلى جانب التصنيفات المذكورة أعلاه، قدم البروفسور أرنولد جيه هايدنهايمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة واشنطن في سانت لويس، طريقة جديدة لتصنيف الفساد هو التصنيف حسب اللون، وبذلك قسمه إلى ثلاث فئات ملونة: “الفساد الأسود، والفساد الرمادي، والفساد الأبيض”. فالفساد الأسود هو فساد سلبي وضار بالوضع المالي والاقتصادي، ولا يمكن تبريره لأي سبب من الأسباب. أما الفساد الأبيض هو فساد وظيفي له تأثير إيجابي، وهو فساد من الممكن تحمله، ومن جهة أخري، الفساد الرمادي هو الفساد بين النوعين الآخرين. (راجع: تودونغ موليا لوبيس، 2013).

أسباب الفساد

بمعنى ما هي العوامل التي تؤثر في انتشار الفساد في مجتمع ما؟ الحقيقة أن هناك أسباب عديدة لعل من أهمها:

1. عدم الاستقرار وفشل المنظومة الحاكمة

تشير الأدلة إلى أن ظاهرة الفساد مرتبطة بشكل كبير ومباشر بالتغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية السريعة في كل الدول، وأن الفساد يكون أكثر انتشاراً في مراحل الثورات والانقلابات، وبذلك تسود الرشوة والمحسوبية والمحاصصة، وهذا الوضع يوفر المناخ المناسب لكل أشكال الفساد ويصبح بذلك شرط أساسي في التعامل بين الأفراد.

2. ضعف الأجهزة الرقابية وعدم استقلاليتها

فعلى سبيل المثال، (أ) الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد عاجزة – حتى الآن على الأقل – على وضع خطط واستراتيجيات واضحة للقيام باعمالها. (ب) هيئة الرقابة الادارية – لم تستطع تطبيق القوانين الخاصة بالفساد باسلوب عادل وعلى الجميع، وتقف عاجزة على محاسبة ومعاقبة كل من يثبت تورطه بتهم الفساد. و(جـ) ديوان المحاسبة – لم يستطع تحقيق المراجعة المالية وتقييم الاداء لكل مؤسسات الدولة.

3. غياب القوي القادرة على تطبيق وانفاد القوانين وفرض الأمن والاستقرار في الدولة، ومعاقبة كل من يثبت تورطه في عمليات فساد.

4. تبني نظام محاصصة عشوائي مقيت في تولي المناصب السيادية للدولة.

أدوات الفساد

للفساد أدوات واساليب عديدة ومتنوعة لعل من اخطرها: الرشوة، والمحسوبية، والاختلاس، والابتزاز، واستغلال النفوذ، وإهدار المال العام، والكسب غير المشروع.

مخاطر الفساد

مخاطر الفساد كثيرة وضارة لعل من أهمها:

1. الخطورة الأولى تكمن في “صعوبة الاتفاق على تعريف الفساد”.

2. الخطورة الثانية تكمن في “صعوبة التفريق بين الفاسد والمُفسد”. اي بين “أدوات الفساد وصُناع الفساد”. ففي الوقت الذي ننظر فيه لظاهرة الفساد على أنها “مستنقع قذّر” لابد من تجفيفه والتخلص منه، تراه المجموعات النفعية والانتهازية كاداة ضرورية لتحقيق مصالحهم واطماعهم خاصة.

3. الخطورة الثالثة تكمن في “درجة تفشي الفساد بين المواطنين”. الحقيقة إن تفشي الفساد يضر بالأشخاص الأكثر ضعفاً في المجتمع، ويعيق الاستثمار، ويضعف النمو الاقتصادي، ويقوض سيادة القانون.

4. الخطورة الرابعة تكمن في “تكلفة الفساد على الأفراد والمجتمع ككل”. ان الفساد اداة سهلة ورخيصة لهيمنة الاقوياء على الضعفاء. وفي هذا الصدد يقول الخبير الاستراتيجي الامريكي هنتنغتون، “إن الفساد هو العامل الرئيسي المسؤول عن إنشاء أنظمة سياسية ديمقراطية مستقرة مُعيبة”.

آليات مكافحة الفساد

الفساد هو ظاهرة مرضية استشرت في مفاصل الدولة بدرجة مقيتة، وهو سبب للكثير من المشاكل والأزمات التي يواجها مجتمعنا هذه الأيام. والحقيقة ان حجم الفساد قد فاق كل التوقعات وتجاوز كل الاعتبارات. فحسب تقارير منظمة الشفافية الدولية خلال الـعشرين (20) سنة الماضية (أي منذ 2003)، قد تم ترتيب ليبيا ما بين أسوأ خمس دول فسادا في العالم، ومن المؤسف أكثر انها ازدادت سوءا منذ 2011. وقد وصف السيد غسان سلامة، رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (من 16 يونيو 2017 الي 03 مارس 2020)، ظاهرة الفساد بالأخطبوط الذي أصبح فيه المليونيرات يتوالدون كالأرانب.

وعليه فقد أصبح من الواجب على كل مواطن غيور معرفة هذا الأخطبوط، وأسباب هذا المرض الاجتماعي الخطير والخبيث، والسعي الجاد لتسخير كل الإمكانيات والقدرات للقضاء عليه بكل الوسائل الممكنة والمشروعة. وعليه لابد على كل السلطات في الدولة أن تتعاون وتوحد جهودها لفضح الفاسدين مهما علت مكانتهم، وخصوصا الذين أكلوا أموال الناس بالباطل، واستغلوا وظائفهم وسلطاتهم لتحقيق مصالحهم الخاصة. ولعل من أهم آليات مكافحة الفساد الآتي:

أولا: إصلاح التربية والتعليم

الحقيقة التي لا جدال فيها أن الفساد هو قضية ثقافية بالدرجة الأولي، فقد كان لنا، في بداية تاسيس الدولة، مؤسسات تربوية وتعليمية، ولكن اليوم لا توجد لنا للاسف لا تعليم ولا تربية! وكنتيجة لذلك انتشرت ظاهرة “القابلية للفساد” – أي استعداد الأفراد لممارسة الفساد والرغبة في استخدامه كوسيلة لتعظيم مكاسبهم الشخصية، إلى أن اصبحت قيمة الإنسان الليبي هذه الأيام تقدر بالدولار وليس بالأفكار! وأصبح بعض الليبيين ينظرون لمفهوم الفساد، على أنه قضية نسبية ذات بُعد وظيفي فقط. فعلي سبيل المثال، منذ انتصار ثورة 17 فبراير في 2011 – والتي كان من أهم اهدافها التخلص من النظام الدكتاتوري والقضاء على براثن الفساد – ها نحن اليوم وبعد عشر سنوات عجاف، نجد العديد من الليبيين، وخصوصا من الطبقة المحرومة، يترحمون على ذلك العصر الدكتاتوري الذي كان فيه: “سعر الخبز – العشر فردات بربع دينار، و”البيت لساكنه”، و”الأرض ليست ملكاً لأحد”، و”العربة لمن يقودها”!.

ولعل المثال الآخر الذي يوضح أن الفساد ثقافة هو ما حدث في نيجيريا بعد ما تم انتخاب الرئيس محمد البخاري عام 2015، تحت شعار “مكافحة الفساد”، وبعد محاولات عديدة للاصلاح وتحقيق بعض الانجازات، إلا أن هذه الإصلاحات “قوبلت بردود غامضة داخل البلاد وخصوصا عند الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وفي الواقع نشأت حركات مضادة غريبة يقودها الشباب ومؤسسات المجتمع المدني باسم “أعيدوا فسادنا”. وقد توصلت الأبحاث التي أجراها مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة إلى أنه “… على مدار عام دفع ما يقرب من ثلث البالغين النيجيريين رشاوى عند الاتصال بالمسؤولين الحكوميين”، (راجع: قرانت والتون، 2018).

ثانيا: الحوكمة والقوانين

المقصود هنا هو الحوكمة الإلكترونية التي تعني وجود إدارة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الدولة. وتعني وجود نظم تحكم للعلاقات بين المؤسسات في الدولة بهدف تحقيق الشفافية والعدالة ومكافحة الفساد ومنح المواطنين حق مساءلة المسؤولين، وبذلك يتمكن المواطنون من ممارسة الديمقراطية الحقيقية، والمشاركة الفاعلة في اتخاذ القرارات، والحق في مساءلة الجهات المعنية.

وإلى جانب تطبيق الحوكمة الإلكترونية، لابد من قيام السلطات التشريعية بإصدار قوانين خاصة لمحاربة الفساد وتطبيقها بشكل صحيح وعادل. ولعل في مقدمة هذه القوانين – قانون من أين لك هذا؟ وقانون حق الوصول للمعلومات العامة؟ وقوانين للجرائم الاقتصادي والمالية.

ثالثا: الشفافية والمعلومات

بمعنى ضرورة تحلي مؤسسات الدولة بالشفافية والنزاهة، وبوضوح علاقتها مع كل المنتفعين من خدماتها. لان عدم وجود شفافية في المؤسسات سينتشر فيها الفساد كانتشار النار في الهشيم. وإلى جانب ممارسة الشفافية، لابد من إعطاء الحرية للصحافة ومؤسسات المجتمع المدني وتمكينهم من الوصول إلى المعلومات العامة التي لا تشكل تهديدا للأمن الوطني. ولابد من تشجيع الدور الشعبي في مكافحة الفساد من خلال برامج توعوية تفضح الفاسدين وتشجع المواطنين على رفع قضايا أمام المحاكم ضدهم.

رابعاً: المحاسبة والمساءلة

المقصود بالمحاسبة هنا عملية جمع وتصنيف وتسجيل المعاملات المالية المتعلقة بالمؤسسات لغرض معرفة نسبة أدائها والتدفقات النقدية لأعمالها، واستخدام المعلومات لمساعدة السلطات للوصول إلى قرارات مناسبة حول كيفية إدارة أعمالها بنجاح.

وإلى جانب ممارسة المحاسبة، لابد من خضوع الأشخاص الذين يتولون المناصب العامة للمساءلة القانونية والإدارية والأخلاقية عن نتائج أعمالهم. وهي عملية يتحمل فيها المسؤول نتائج أعماله واستعداده للمحاسبة عليها. ومن أهدافها، عدم إفلات المسؤول من العقاب، والتخلص من الوقت والجهد الذي يبذل في الأنشطة غير المُنتجة أو المناسبة.

الخلاصة

في نهاية هذه الورقة لعله من المناسب التأكيد على الآتي:

أولا: لا بد أن تبدأ محاربة الفساد من اعلى الهرم السياسي، فالسمكة، كما يقول المثل الصيني، “خاربة من رأسها”، ولا بد أن تبدأ هذه العملية بإصلاح المرتبات والمزايا والمكافآت، وذلك بـاعطاء أصحاب المناصب السيادية مرتبات فقط كغيرهم من المواطنين، ولا يحق لهم تحديد مرتباتهم أو تعديلها إلا بعد استفتاء شعبي على ذلك.

ثانيا: لابد أن نعي بأن القوي الدولية لا تنظر للفساد بالطريقة التي نراها ولا تفهمه كما نفهمه نحن. ولعل خير مثالين على ذلك هما: موقف الأمم المتحدة والقوى الدولية من التقرير الأممي لكشف دفع رشى لمشاركين في الحوار السياسي الليبي، والذي جمع 75 مشاركًا ليبيًا، وانعقد من 7 إلى 15 نوفمبر 2020 في العاصمة التونسية وبإشراف بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، واللقاء الثاني الذي انعقد بالعاصمة السويسرية (جنيف) من 13 الي 20 يناير 2021، لإعداد قاعدة دستورية للانتخابات المقبلة وتشكيل سلطة تنفيذية انتقالية تضطلع بتنظيم الانتخابات المرتقبة في 24 ديسمبر2021.. المؤسف أن الأمم المتحدة والقوى الدولية تجاهلت هذا التقرير وتم إخفاءه؟.

أما المثال الثاني الذي يوضح حقيقة موقف الأمم المتحدة والقوى الدولية من القضية الليبية هو تقرير التدقيق الدولي لأداء المصرف المركزي الليبي، وقد لخصت المستشارة الخاصة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا، ستيفاني وليامز، هذا الموقف عندما قالت ان إخفاء تقرير التدقيق الدولي لأداء «المركزي» خطأ فظيع، وذكرت الليبيين بان الطريقة التي تدار بها عائدات النفط في ليبيا، هي المحرك الأساسي للصراع (راجع موقع بوابة الوسط, 11 نوفمبر 2022).

وعليه يجب فهم أن أغلب القوى الدولية تنظر لظاهرة الفساد في الدول النامية على أنها “فساد وظيفي” (Functional Corruption) ليس إلا، بمعنى آخر، لابد من التفريق بين “الفساد الفعال والفساد غير الفعال”، أو كما يقول البروفسور هنتنقتون، عند مكافحة الفساد يتطلب من صانعي السياسات الاعتراف بالفوائد التي يمكن أن يجلبها الفساد والاستجابة لها.

ثالثا: لا بد من إعادة تفعيل الهيئة الوطنية العامة للمعلومات والتوثيق (الإحصاء والتعداد) ودعمها بكل ما تحتاجه من إمكانيات مالية ومادية ومعنوية وأمنية للقيام بــ إحصاء سكاني وإعداد “بطاقة الرقم الوطني” بالأسلوب العلمي والصحيح.

بمعنى آخر، لا بد أن يكون الإحصاء السكاني هو نقطة الانطلاق، لأنه ضرورة وطنية واستراتيجية لإعمار وإعادة بناء الدولة الحديثة التي يطالب بها الجميع، فلا يمكن القيام بأي خطط استراتيجية أو إعادة إعمار أو توزيع عادل للثروة دون معرفة العدد الحقيقي لكل المقيمين (مواطنين وغير مواطنين) في الدولة، ولا يمكن القضاء على الغش والاختلاس والفساد والاستغلال في مؤسسات الدولة دون وجود منظومة رقمية دقيقة تحتوي على كل المعلومات الضرورية لتحقيق ذلك.

فمن المؤسف أن تستند دولتنا هذه الأيام في توزيع سلطاتها وثروتها ومعاملاتها على قاعدة بيانات قديمة (آخر إحصاء سكاني رسمي كان عام 2006) وغير دقيقة. وهناك أمثلة عديدة تثبت عدم دقة ومصداقية قاعدة البيانات الوطنية المستخدمة الآن. فعلى سبيل المثال لا الحصر كشف السيد محافظ مصرف ليبيا المركزي عام 2018 عن اختلاف كبير في إحصاء المواطنين خلال عملية بيع النقد الأجنبي، وطالب بالتحقيق وضرورة اتخاذ إجراءات صارمة وعاجلة تكفل التحقق من قواعد البيانات في مصلحة الأحوال المدنية التي بيّنت اختلافات كبيرة في إحصاء المواطنين الليبيين خلال عملية بيع النقد الأجنبي لأرباب الأسر التي بدأت منذ عام 2017، وطالب بفتح تحقيق عاجل في هذا الملف الحساس الذي يمس الأمن القومي الليبي.

رابعا: لا بد من العمل على إيجاد سلطات نظيفة ونزيهة، وذلك بأصلاح النظام السياسي واستخدام آليات مكافحة الفساد التي ذكرتها أعلاه.

خامسا: لابد من الاسراع بدعم وتطوير المؤسسات التربوية والتعليمة حتي يستطيع المجتمع محاربة الفساد بكل انواعه (وليس مجرد الفساد الاقتصادي والمالي فقط)، وحتي نستطيع فهم واصلاح عملية تفكير الفاسدين والمُفسدين الذين يقومون بارتكاب الفساد مُعتقدين أن الافراد “سيئ الحظ” هم من يتم معاقبتهم فقط.

سادسا: لا بد أن نعي بأن “تكلفة الفساد باهضة” على الافراد والمجتمعات ككل. فعلي المستوي العالمي قدر المنتدى الاقتصادي العالمي في عام 2022, التكلفة العالمية للفساد بـ 2.6 تريليون دولار سنويًا ، أو ما يعادل 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي”. (راجع: موقع مجموعة كلاود بيرست, 2022). وعلينا ان نعي بأن عملية محاربة الفساد طويلة وشاقة وتحتاج الي تكاثف كل الجهود. وأن نعي أنه إذا لم نقم باصلاح ما يمكن اصلاحه فسيكون الفساد اداة سهلة ورخيصة لهيمنة الاقوياء على الضعفاء. وعلينا أن نتذكر ما قاله الخبير الاستراتيجي الامريكي البروفسور هنتنقتون في هذا الصدد بان “الفساد هو العامل الرئيسي المسؤول عن إنشاء أنظمة ديمقراطية مستقرة ولكنها معيبة وفاشلة”.

سابعاً وأخيراً: لا بد أن يكون الهدف الأساسي من محاربة الفساد ليس مجرد تحقيق الاستقرار، وإنما تحقيق “الاستقرار العادل”، والذي يعني تحقيق وطن يشعر فيه كل إنسان (وليس مجرد المواطن) بالثقة في النفس، والأمن والأمان، والرضا بما لديه، وأن علاقاته مع الآخرين على ما يرام، وأن تتاح له الفرصة لتحقيق السعادة التي يبحث عنها.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً