[su_quote cite=”محمد إقبال”]لقد صرفت أغلب أوقات حياتي في دراسة الفلسفة الغربية. وغدت رؤية هذه الفلسفة شيئا مألوفا لدي الآن. وعن وعي، و عن لاوعي أيضا، أخضع وقائع الإسلام إلى التحليل من زاوية نظر هذه الفلسفة. وكان من نتيجة ذلك أنني قد لاحظت في العديد من المرات أنني لا أستطيع التعبير عن هذه الإشكاليات بلغة الأوردو.[/su_quote]
لقد وعى جيل النهضة لحد كبير أسباب التخلف وأسسوا فقه محاربته والخروج منه، إلا أن جيلنا من الاسلاميين والاسلامويين لما يستوعبوا طرح رواد النهضة، لذلك كان سؤالهم اشد بؤس واكثر إمعانا في الذات المنغلقة، وكان سؤالهم رهين سياج الانغلاق الايدلوجي يفتقد الى فهم المعاني والمقاصد. فلست افهم كيف نكون “خير امة” ونحن في اسفل درك الحضارة، هل تعنى الخيرية مجرد انتمئنا الى الاسلام ام تعني قيامنا بمقومات الخيرية وتكريس قيم الحضارة الانسانية التي نادت بها الشرائع السموية؟
لعلي أسمح لنفسي أن أتجرأ وأتساءل عن حقيقة ما نسميه الحضارة الاسلامية (!!!…): هل حضارة أمة ما تعنى التوسع الجغرافي لهذه الامة في اصقاع الارض، ام انها تعنى الاسهامات الفكرية والمادية لتلك الامة وما تضيفه للثرات الانساني؟. الحقيقة هذا السؤال مرعب ومخيف، لانه قد يغير بعض تصوراتنا حول كل الحضارات القديمة والمعاصرة. فالتوسع الجغرافي هو احد اهم مؤشرات الحضارة وسيمة من سيماتها، وكل حضارة تتكون تسعى فيما تسعى اليه إلى التوسع الجغرافي والامتداد خارج محيطها الاقليمي، واستعمار الشعوب الاخرى تحت مبرارت كثيرة تقدمها كحجج لفرض هيمنتها. وليس من الضروري ان تفرض الامم المنتصرة قيمها الحضارية على الامم المهزومة، بل عملية انتقال قيم الامم الغالبة وقبولها من قبل الامم المهزومة هي عملية نفسية يفرضها امرين: اما الانبهار بالغالب باعتباره غالبا او انبهار بالقيم التي يعتنقها.
وإذا تناولنا الحضارة الاسلامية: فهل نعني بها الارث العلمي والفكري الذي ساهمت به الامبراطورية الاسلامية في الثرات العالمي او هو الدين الاسلامي؟ هل نستطيع ان نفصل بين الدين الاسلامي كعقيدة وبين الفكر الاسلامي كناتج حضاري نتج كارهاصات لهذا الدين؟ الحقيقة البحث في هذين السؤاليين سيجرنا الى رؤية بصيص النور في الانحطاط الذي وصلنا اليه. لانه بالفعل ثم في القرن الرابع للهجري الانفصام بين الدين والعلم، وارتدى الدين لباس الكهنوات وانفصل عن العلم الذي نتج عن تحرير الفكر المسلم. ولست اقصد هنا الدين المنزل الذي ارسل الله به الانبياء، وانما فهم الناس لهذا الدين، اقصد الدين والعلم كنتاج بشري.
الكثيرون من اعلام الفكر الانساني نشئو وتربوا في حضن الاسلام وعلى تعاليم هذا الدين، وقد نكتفي بالاسماء اللامعة في سماء العلم كأبن حيان وابن المقفع والكندي والخوارزمي في القرن الثاني للهجرة، والطبرى والرازي والفارابي والأصفهاني من علماء القرن الثالث، والبيروني وابن سيناء وابن الهيثم من علماء القرن الرابع، وابن رشد والغزالي من علماء القرن الخامس، والكثيرون غيرهم من علماء القرون الاربعة الاولي للهجرة التي إزدهرت فيها البشرية بما انتجه نبوغ هؤلاء. المفارقة ان المسلمين يفتخرون بانتاج هؤلاء ويعتبرونه اسهاما من اسهامات الحضارة الاسلامية التي بنيت على اطلالها حضارة الغرب الحديثة، الا انهم في نفس الوقت يتنكرون لصناعها، بل وصل الامر أن كفرو هؤلاء النوابغ الذين اسسو لهذه الحضارة، ولا نبالغ اذا شئنا ان نقارن بين الاحكام الجائرة التي صدرت في حق هؤلاء المنارات من قبل الكهنوت الديني والسياسي حينذاك وبين احكام محاكم التفتيش في اورباء اثناء عصور انحطاطها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، كفرت محاكم التفتيش الراهب البولندي كوبرنكس لانه صاغ نظرية مركزية الشمس ودوران الارض حولها، وكفرت القسيس الكاتوليكي الايطالي غاليليو لانه دافع عن نظرية كوبرنكس التي تتعارض مع تفسير الكنيسة للكتاب المقدس، وكفرت نيوتن وديكارت وفولتير وحرمت قراءة كتبهم. كذلك الشأن بالنسبة للـ”الكهنوت” الاسلامي بشقيه الديني والسياسي، فقد اتهم الطبرى مفسر القران الكريم بالالحاد من قبل الحنابلة حين غفل ذكر الامام احمد في مصنفاته ونكر قولهم بجلوس الله على العرش وتعرض للمضايقة منهم حتى مات او ربما قتل، وكفر ابن سيناء والكندي والفاربي، وحرقت كتب الغزالي وإبن رشد، وقطعت اوصال ابن المقفع وشويت امامه قبل ان يفارق الحياة، وفي حين رفع المامون والمعتصم فكر المعتزلة واضطهد الاشاعرة قام المتوكل باضطهاد المعتزلة والتشيع للاشعرية. وربما لا يفكر المسلمين الذين يتغنون بالحضارة الاسلامية ان الحضارة الاسلامية تفقد قيمتها كحضارة انسانية ان ازيحت هذه الكواكب المشرقة وانتاجهم الفكري من سمائها، فالدين من صنع الله وليس لنا يد في انتاجه، لكن الحضارة من صنع الانسان ولنا كل الحق ان نفتخر بمن ساهم فيها.
وإذا تمعنا فيما يحدث بيننا الآن فسنجد أن العناصر التي كبلت انطلاق دولنا نحو الغد هي نفس العناصر التي أدت إلى تقويض الحضارة الاسلامية في ماضيها، لا زلنا أسرى الاستبداد السياسي والانغلاق الايدلوجي والدغمائية الفكرية، وهذه آفات اصابت الامة الاسلامية منذ ان سال دم عثمان مخلفا التأسيس للاستبداد بالحكم على يد معاوية وانتهاء بعصر الجمود الفكري نتيجة الحجر “الالكليريكي” على الفكر. ويتكلس العقل المسلم في القرن العشرين.. عن عجز في الفهم.. ويرى العودة للدين سببا للإرتقاء وكأن أمم الاسلام قد ارتدت عن دينها، ويغيب عنه ما ادركه الكواكبي من أن الإرتقاء والحضارة سببا في العودة للدين والفضيلة وليس العكس. ولم يدرك هؤلاء جدلية الزمن، ويضنون أن الزمن ثابت لا يتقدم، وان العصور تتطابق ولا تتطور، متناسيين ان سنة الله في الارض هي الحركة، فلم تتوقف الرسالات السموية الا بنزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كانت العصور تتطابق لم كان هناك حاجة لتجديد الاديان، وكانت البشرية اكتفت بما انزله الله على آدم عليه السلام.
كما يتماهي العقل المسلم في الانغلاق على القدسية التي اكتسبها التاريخ والنصوص الثراتية والسلف، لدرجة انه من المبكي والمضحك معا ان تقراء في بعض كتب التاريخ الاسلامي أن سيدنا فلان (رضي الله عنه) قتل سيدنا علان (رضي الله عنه)، وهذا.. بالاضافة على انه دليل وحجة دامغة على عدم افضلية سلف عن خلف كما يدعي البعض فالكل يقتل الكل.. هو ايضا من مؤشرات غياب العقل المسؤل، العقل الذي لا يتخد موقفا واضحا من مسألة الصواب والخطاء. وقد ناصبت العقلية التقليدية العداء للعقل، ورأت في العقل عدو للدين، ورأت في عدائها للعقل حارسا لهذا الدين. كذلك تميزت بالعقل الدغمائي، لذلك عملت على تجريم كل من يخالف ارائها، والامثلة في التاريخ الاسلامي كثيرة. وقد التقى هذا العقل الدغمائي مع السلطة السياسية التي رأت فيه سياج يحميها ويبرر استبدادها، لذلك فشعوبنا عاشت وتعيش في قبضة هذا الاستبداد داخل هذا السياج.
لا اعلم كيف تفاعل القاري مع عبارة محمد اقبال الصادمة التي ابتداء بها هذا المقال، ان تصريحه هذا فيه اختصار لكل الازمة التي تمر بها شعوبنا، انه باختصار يقول اننا ما عدنا قادرين على فهم ما يجرى حولنا، لاننا فقدنا القدرة على الانتاج الفكري، فقصور لغاتنا في التعبير عن الاشكاليات التي تواجهنا.. بسبب غيابنا عن الحضارة.. هو قمة الشلل الفكري الذي ابتلت به امتنا فتسبب في الازمات التي تعاني منها شعوبنا.
على المستوى الشخصي اجد ان السؤال ما كان يجب أن يطرح أصلا، إذ لا اجد لثنائية “نحن وهم” معنى، ذلك أن الاسلام دين دعوة، والدعوة الى الله لا تستوجب قيام محيط معزول عن الاخر، فالبشر واحد والاصل في الحياة التكامل بين البشر وليس القتال مصداقا لقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”. الدعوة لا تتم في محيط الكراهية بل في بساتين المحبة، ولا تسور بسور العداوة بل بجسور الرحمة، واني ارى ان هذا الزمن قد ابتلي بفريضة سوق على انها غائبة عوضا عن فريضة غيبة قصرا، وبالتالي تكونت هذه الثنائية الغريبة عن الدين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً