ندرك كم هو ثقيل وقع هذه التهمة بعدم “النزاهة والوطنية” على أي انسان مهما كان موقفه السياسي الآن أو في العهد السابق. خصوصاً ممن لم يرتكب جرماً سوى أنه كان يشغل وظيفة ما. وبالفعل نشعـر بالأسى من أجل أولئك الذين وقعوا ضحية التشهير بالفساد والخيانة وعدم الوطـنية من قبل ما يسمى بهـيئة “النزاهة والوطنية”، لمجرد أن النظام الحاكم السابق قد استعان بهم لتولي مناصب سياسية أو ادارية بحكم اختصاصهم وخبراتهم. ليجد نفسه اليوم متهماً بالخيانة وعدم الوطنية، رغم أننا ندرك بأنه ليس كل من تولى منصباً هو بالضرورة انسان فاسد وخائن.
بل ولعل الحكم بالإعدام أخف وطأة وأهون من أن تنعت مواطناً ما بأنه يفتقر “للنزاهة والوطنية”. أي وبشكل مباشر هو “خـائن وفاســد” خصوصاً وأن هذا الشخص قد اكتسب هذه الصفة بقرار رسمي ومن جهة اعتبارية بدولته، فهو ليس فقط لم يعد يصلح لتولي أي وظيفة رسمية بالدولة بل ويتحول الى كائن منبوذ اجتماعياً وسياسياً وساقط اخلاقياً. هذا إذا لم يصل الأمر إلى حد تصفيتة الجسدية بإعتباره خائن ومن أعوان النظام السابق خصوصاً مع انتشار السلاح وكثرة الشباب الغيورين والمتحمسين للإنتقام من كل ما يمت للنظام السابق بأي صلة.
إن مثل هذه الأحكام أقل ما يمكن أن توصف به أنها أحكام جائرة وتعسفية وانتهاك صارخ لأبسط الحقوق الانسانية لضحايا ما يُسمى بهيئة “النزاهة والوطنية”. ولا يختلف عاقلان من أن وجود مثل هذه المؤسسة من الأساس هو مسلك انتقامي وديكتاتوري فج لا يليق بدولة تدعي أنها تتجه نحو بناء دولة العدالة والديمقراطية وتحترم حقوق الانسان وحرياته. وقد كان الأجدر بأن يكون القضاء هو الفيصل وهو من يقرر نزاهة المواطن أو إدانته ان ارتكب جرماً يعاقب عليه القانون. وليس من حق اي جهة أو مؤسسة غير القضاء لتولي مثل هذه المهمة.
ولكن في الحقيقة أن ما يسمى بـ “هيئة النزاهة والوطنية” ما هي إلا امتداد لدور ما كان يدعى بـ “مكتب الإتصال باللجان الثورية” ولكن بصيغـته الفبرايرية. ليتم منح صكوك النزاهة والوطنية لمن تشاء وتنزعها عمن تشاء. وهي جزء من عـقـلية الاقـصاء وتصفية الخصوم والتي دامت أكثر من أربعة عقود وها هي تعود بحلتها الفبرايرية الجديدة. فقبل 17 فبراير يعرف الليبيون جيداً بأن ما كان يُسمى بـ “مكتب الاتصال باللجان الثورية” هو من كان يمنح تلك التزكيات وصكوك الوطنية للمواطنين لشغل الوظائف العامة والتعيينات في المؤسسات والجامعات والشركات وغيرها. لتحل محله اليوم “هيئة النزاهة والوطنية” نتاجاً للحمى الثورجية الجديدة.
ونتساءل لماذا لم نشهد لمثل هذه المؤسسة وجود في دول من سبقنا فيما يسمى بـ “الربيع العربي” مصر وتونس مثلاً؟ لماذا لم يستحدثوا مؤسسات لمنح صكوك “النزاهة والوطنية” ولماذا لم يصيبهم ما أصابنا من حمى وهوس العزل والإقصاء؟ هل لأننا نملك فائضاً من الخبرات والقدرات العلمية أكثر مما تحضى به مصر وتونس لذلك لم يستطيعوا تطبيق حملات الاجتتاث مثلما نفعل نحن؟ أم لأنهم لا يملكون ما نملك من حقد وروح انتقامية واقصائية !؟
ولا ندري لماذا كل هذا الإصرار على اعادة تطبيق السيناريو العراقي بكل تفاصيله والسير على خطى الاحتلال الأمريكي بإستصدار وانشاء الهيئات والقوانين التعسفية التي طبقها الاحتلال الامريكي في العراق فهيئة “النزاهة والوطنية” معروف أنها إحدى المؤسسات التي انشأها الاحتلال الامريكي بالعراق وكذلك قيام الاحتلال باستصدار قانون “اجتثات البعث” وهو ما يقابله لدينا ما يسمى “بقانون العزل السياسي”؟ في مقابل تهميش دور القضاء والتعطيل المتعـمَّد للمحاكم.
فما هو القاسم المشترك بين ليبيا والعراق المُحتل وما الذي يلزمنا بإقتفاء أثرهم واعادة تطبيق قوانين الاحتلال الأمريكي حرفياً. رغم ما رأيناه من انعكاسات سلبية وما جرته هذه الممارسات على العراق طيلة عشر سنوات أو أكثر من الاحتلال؟ أم أنها املاءات علينا قبــولها والرضــوخ لمشــيئتها؟؟
إن لم يكن الأمر كذلك .. فعلينا أن نحكم العقل وأن نوقف حمى الإقصاء وحروب تصفية الخصوم وأن نلجأ للقضاء النزيه والعادل وأن نجعله الفيصل الأول والأخير وأن نتوقف عن تخوين بعضنا بعضا. فليبيا لم تعد تحتمل المزيد من البغضاء والحقد والكراهية … ولنجتمع على كلمة سواء.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً