هل جاءت إحاطة المبعوث الأممي يوم 8-11-2018 إلى مجلس الأمن حول الملف الليبي متأخرة؟
البعض يصفها بذلك وينحى باللائمة عليه معتبرين أن مواقفه وتصريحاته في بعض الأحيان متناقضة.
البعض الآخر يرى لتأخرها أسبابا موضوعية من ضمنها التعرف عن كثب على حدة وتشعب الصراعات سياسيا وعسكريا أسبابها وأهدافها.. وكذلك إعطاء المهلة تلو الأخرى للايفاء بالوعود التي تُقطع له من المتربعين على سدة الأمور تشريعيا وتنفيذيا.. ومنها من كان يمارس خُدعا سياسية ضد مشروع قيام الدولة ظاهرها الحرص على رفع المعاناة عن المواطنين وضرورة العمل على توحيد الأجهزة المنقسمة والمتوازية وباطنها شراء مزيد من الوقت وتكريس الانقسام لأحداث أمر واقع للوصول الى الهيمنة الكاملة على مفاصل الدولة أما بإخضاع الخصم أو إجباره على التنازل.
من الطبيعي أن تعمل منظمة دولية على إعطاء الفرص اللازمة لإثبات حسن النوايا وحسن التنفيذ، وهو ما عانينا منه نحن كليبيين وبالذات أيام المؤتمر الوطني العام فقد كنا كلما ضغطنا على حكومة زيدان كلما تحججت بأنها في حاجة الى مزيد من الوقت، ولذلك أصبحت أقول أن المدد القصيرة للمجالس التشريعية والتنفيذية غير عملية لأنها تحمل بذرة التنصل بحجة عامل الزمن القصير.
كانت تلك المحطة الأولى: التي أخفق فيها المؤتمر الوطني العام في تقديم أداء جيد . فقد كان عمره 18 شهرا.. وقد دخلنا للمؤتمر لا نعرف بعضنا البعض من حيث التوجهات السياسية . وبفعل الاعتداءات الكثيرة على المؤتمر التي بلغت أكثر من 200 اعتداء فان أكثر من سنة ضاعت في التعارف وبناء الثقة ومقاومة المعتدين.
المحطة الثانية: كانت انتخابات مجلس النواب التي رتب لها قانونيا وأشرف عليها وصدق على نتائجها المؤتمر الوطني العام . الا أن كبير سنهم دعاهم للاجتماع في طبرق للتشاور فاذا بالحقيقة ينصب لهم فخا بنقل مقر مجلس النواب من بنغازي ليكون تحت مراقبة واشراف بل وتدخل عملية الكرامة التي كانت حينها تسيطر على مدينة طبرق فقط.. فمن النواب من أدرك الفخ فقاطع المجلس ومن طُليت عليه الحيلة حضر بعض الجلسات وعندما اكتشف الحقيقة متأخرا خاف على نفسه أو أصابه الاحباط ولم يعد يحضر.
المحطة الثالثة: حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا التي قضى بإبطال انتخابات مجلس النواب وما صاحبه من لغط ساهم فيه المبعوث الأممي الأسبق برناندينو ليون عندما لم يوص مجلس الأمن بالاعتراف بذلك الحكم وأوجد تخريجة مُخلة بقيم ومبادئ الديمقراطية مفادها بأن الحل في ليبيا سياسي وليس قانوني وبذلك خلق حالة تمرد على القضاء الليبي من الصعب جبره. فإن لم تؤسس الدولة على حكم القانون فهل يمكن أن تؤسس على قانون القبيلة والتخلف؟!!
المحطة الرابعة: تمثلت في توقيع الاتفاق السياسي بمدينة الصخيرات وقد قبلنا به برغم إدراكنا بأنه يتضمن الكثير من العيوب ولكنه كان الحل المتوفر والممكم حينها للخروج من حالة العراك والانسداد السياسي فعسانا من خلاله ووفقا لنصوصه نحدث الاصلاحات التي تساعد على بناء الدولة وتوحيدها.
المحطة الخامسة: انقلب مجلس النواب على الاتفاق السياسي بعد أن وقعه النائب الأول لرئيسه وحضر التوقيع أكثر من 90 نائبا لمباركته لكن من بقي في طبرق كان لهم رأي آخر ألا وهو تعطيل الاتفاق وافشاله. وحينما جاءت اللحظة التاريخية تصدوا لمنع أغلبية النواب (102 عضوا) من حضور جلسة التصويت لمنح الثقة لحكومة الوفاق الوطني .. قُفلت أبواب المجلس ورُفعت سجلات الحضور وتم الاعتداء على بعضهم بالضرب وأصبح المشهد أقرب الى شركة تجارية منه الى مجلس يمثل الشعب.. بعدها استُحدثت بدعة ( بوعكوز ) يأذن حين يشاء ويمنع حين يشاء عقد الجلسات.
قطعا هذا الفعل لا ينطلي على أحد فالرجل مكلف ومحمي ولا يمكن أبدا الاقتراب منه.
بعد ذلك توالت المواقف المعرقلة
المجلس الرئاسي انقسم على بعضه وسيطر رئيسه على المجلس وأصبح هو المجلس والمجلس هو. وتجاهل الكل سوى المجتمع الدولي الذي واضب على خطب وده والتمسح باعتابه.
صرف النظر كليا عن الداخل ولم ينتبه الى المشاكل التي تتراكم يوما بعد يوم وتعقد حياة المواطنين. ويواجهها بالبيانات وقرارات معظمها لا ينفذ.
لم يلتفت للترتيبات الأمنية مطلقا بل تستر على المليشيات لكي تحميه.
تجاهل وجود مجلس الدولة الذي شارك في تعيينه وتنكر له ولم يعترف به.
جيـّر الاتفاق السياسي لنفسه ولم يعد يعترف بالجسمين الآخرين.
تجاهل الجنوب تجاهلا مطلقا كما لو أنه ليس جزء من ليبيا.
ظل يهادن قائد عملية الكرامة ويطلب وده وكان الآخر يهمله حتى أهانه عبر الفضائيات في تصريحات له.
لم يعمل على تاسيس شرطة وجيش نظاميين وحرفيين وانما ظل يستعين بالمليشيات تحت غطاء الشرعية .
وجدنا أنفسنا أمام دكتاتور مدني بتأييد دولي قوي.
المحطة السادسة: كانت بمصادقة الهيئة التأسيسية لصياغة الدستورعلى مشروعها . الذي اثار زوابع وعواصف من النقد والرفض وعطل مجلس النواب اصدار قانون متوازي للاستفتاء عليه لمدة سنة بعدها عمد الى صياغة قانون لتعطيله وعدم اجازته مع سبق الاصرار والترصد.
وجاءت المحطة السابعة: بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وهي ما سميت بمؤتمر باريس ولم يكن مؤتمرا.. وما سمي باتفاق باريس ولم يكن هناك اتفاق موقع عليه من الأجسام الليبية الأربعة التي أُحضرت الى باريس للاتفاق ولم تتفق وشُرع في الترويج (لمؤتمر باريس واتفاق باريس) افتراء علىى الحقيقة وتضليلا للرأ العام في الداخل والخارج. وكان الهدف تنصيب رئيس للدولة ترضى عليه باريس لينهي ثورة فبراير.
أثناء هذه المحطات كانت قاطرة بعثة الأمم المتحدة تتنقل بينها ومن خلالها لتحديد وجهة الوصول وأخفقت البعثة لأن ربابنتها لم يملكوا البوصلة الوطنية التي صنعتها الارادة الليبية وانما استعانوا ببوصلات مصنوعة في الخارج لم تكن دقيقة لأنها كانت مغشوشة الصنع والتركيب ولا تحمل الهوية والطموح والاستشعار الليبي.
عندما وصل ركاب هذه المحطات الى نهاية الرحلة وترجلوا من رحلاتهم الصعبة والمرة وفتحت أبواب القاطرات التي اوصلتهم وجدوا أنفسهم أمام فوضى عارمة وضاجة بانتهاك للقيم والأعراف والقوانين فوضى سياسية على فوضى عسكرية على فوضى تشريعية على سرقات ونهب علنا. على خنادق حفرت لضرب النسيج الاجتماعي على متاريس لمنع الوصول الى حل ولم يجدوا طريقا واحدا معبدا يمكّنهم من الاجتياز الى الضفة الأخرى من النهر.
أصبحنا إذن أمام وضع صعب ومستحيل دولة فاشلة ومنتهكة بكافة المقاييس يسيطر عليها عصابات سياسية وعصابات مسلحة كل منهم يحتمي بالآخر من أجل البقاء لنهب ما يمكن أن ينهب دولة غنية تتلقى الهبات والمساعدات ومواطن يشحت قوت يومه.
في هذا الخضم كان هناك مجموعة صغيرة متفرقة من النخب الليبية تعمل في صمت لا يعرف بعضهم البعض ولم يعقدوا لقاء فيما بينهم للتنسيق وانما تصرف كل منهم على حدة وبمفرده بواعز وطني صرف هؤلاء عملوا على توضيح الحقيقة ورفض الواقع المدمر الذي آلت اليه الدولة عملوا على توصيل فكرة بسيطة ولكنها عملية وستكون هي العلاج للقضاء على السرطانات التي تعيق بعث الحياة في الدولة الفكرة تتمثل في أنه لا مناص من انهاء أسباب الصراع المتمثل في الأجسام الثلاثة التي تسيطر على المشهد السياسي وتعرقل قيام الدولة وتعمل على هدمها بقصد أو بدون قصد وذلك باعادة الأمانة للشعب ليتمكن من اعادة تشكيل المشهد السياسي مستفيدا من تجارب المحطات السابقة بشخصيات جديدة ودماء جديدة يحسن اختيارها.
أشعر أن البعثة الأممية قد أدركت أخيرا وفقا لتغريدة صدرت عنها: (نحن أمام مفترق طرق، علينا أن نقوم بتصحيح الأوضاع من خلال التفاهم بيننا بدلا من التعارك وسفك الدماء).
وأن ما قاله الدكتور غسان سلامة في احاطته الأخيرة هو بالفعل ما عملت النخب على توصيله من رسائل للمجتمع الدولي وما يعتمل في صدرعامة الليبيين وهم الأغلبية الصامتة:
“لقد منح الشعب الليبي والأمم المتحدة والمجتمع الدولي كافة الفرص لمجلس النواب علّه يضع نصب عينيه مصلحة البلاد إلا أنه أخفق في الإضطلاع بمسؤولياته”.
“بات جلياً الآن بأن تأجيل الجلسات والتصريحات المتناقضة لم تكن سوى مجرد وسيلة يُقصد منها تضييع الوقت. فالجسم الذي يسمّي نفسه الهيئة التشريعية الوحيدة في ليبيا عقيم إلى حد كبير”.
“بالنسبة لكلَي المجلسين، تشكل الانتخابات تهديداً يتوجب عليهما مقاومته مهما كلف الأمر، أما بالنسبة للمواطنين، فالانتخابات وسيلة لتحريره من السلطات المشلولة التي تفقد شرعيتها أكثر فأكثر”.
“عدد لا يحصى من الليبيين ضاقوا ذرعاً بالمغامرات العسكرية والمناورات السياسية التافهة. “.
هذا هو مطلبنا من اجل بناء وطن حقيقي لا تسيطر عليه المليشيات ولا يجر البلاد لتقع من جديد تحت حكم العسكر.
وتبقى لي كلمة أخيرة: لقد عجزنا عن حل مشاكلنا ولا مناص من أن يعيد التاريخ نفسه:
أتمنى أن يكتب لليبيا أن تستقر وهي رغبة جامحة عند كل الليبيين بلا استثناء واتمنى أن يكون للأمم المتحدة دور بارز في تحقيقه ولن تستطيع أن تفعل ذلك ما لم تكن لديها الارادة الصادقة أولا والقوية ثانيا والحاسمة ثالثا ومبنية على ارادة الشعب الليبي وتطلعاته وتمنع التدخلات الخارجية أولا وأخيرا.
نرى أن تجاوز الأجسام الثلاثة أصبح أمرا ملحا اذا أريد للاستقرار أن يعم الوطن الليبي بأية طريقة كانت ربما عن طريق المؤتمر الجامع الذي يمكنه أن ينتج شئ واحد يتفق عليه الليبيون وسيرحبون به أشد ترحيب، الا وهو اجراء انتخابات تشريعية استنادا لقانون الانتخابات لسنة 2012 باعتباره اقرب للتعبير الديمقراطي في اشراك الاحزاب السياسية و اعتبار هذه النتيجة للمؤتمر الجامع مطالبة لمجلس الامن الدولي لاستصدار قرار ملزم لاجراء الانتخابات في غضون فترة لا تتجاوز ستة أشهر مثلا ومن ثم تركز البعثة على توفير الضمانات الأمنية اللازمة والقبول بالنتائج وذلك وفقا لما ينص عليه الاعلان الدستوري على أن تكون مدة الجسم التشريعي الجديد ليس 18 شهرا وانما بحد أدنى ثلاث سنوات وحد أقصى أربع سنوات غير قابلة للتجديد أو التمديد فقد ثبت فشل المدد القصيرة لأنها لا تمكن الأعضاء من التعرف على بعضهم سياسيا للوصول الى توافق مرض. وتسمى هذه الدورة التشريعية بمرحلة التهدئة للانتقال الى المرحلة الدائمة وهي ضرورية لتنقية الأجواء السياسية الصاخبة وذلك باعادة ترتيب المشهد السياسي بتوحيد المؤسسات المنقسمة وقد خلى من الشخصيات الجدلية التي تتصارع على المناصب التشريعية والتنفيذية ولم تقدم شيئا للوطن غير التفكك والضياع.
ان صنع الاستقرار وتأسيسه تأسيسا صحيحا عملية صعبة وشاقة وهو تحدي على البعثة الأممية أن تواجهه بكل قوة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً