كلما زاد الخلاف والتشظي بين السياسيين في الحكومات الثلاثة والنواب فيما بينهم، وتدافع الجميع نحو تأجيج نيران الحرب التي كان وليزال وقودها شباب تأخذهم حمية القبلية التي يتبناها الإعلام الموجه، ليسقطوا ضحايا بالألاف، وتقطع أطراف آخرين بأعداد أكبر من ذلك، ناهيك عن حالة ضيق العيش وضنك الحياة لكل مواطن بسيط على هذه الرقعة المسماة ليبيا.
هذا الوضع لم يكترث له الكثير من النفعيين في مجلس النواب ومجلس الدولة ناهيك عن تجار السلاح ودواعش المال العام في الحكومة العميقة، بل أن البعض أصبح يتسابق ويتفنن في العمالة لاستدعاء الشرق والغرب، والجار والبعيد للتدخل من أجل قصف الخصوم بالطيران وبمد السلاح والإشراف على تنفيذ الخطط الحربية، مما جعل دول الغرب وعلى راسها الأمم المتحدة حائرة في كيفية التعاطي مع الملف الليبي الذي يتصف بالسيولة وعدم الثبات، وهذا يُطرح سؤال جوهري، ماهي الثقافة التي تجعل من اعتلى الشأن العام في ليبيا يتصرف هكذا؟؟ وهل كل الليبيين هكذا في تصرفاتهم؟؟
هذا يقودنا إلى عرض سمات الشخصية الليبية المؤثرة في الوقت الراهن (بلا تعميم). إن أول من نادى بالإهتمام ودراسة الشخصية الليبية كان رئيس الوزراء في العهد الملكي عبد الحميد البكوش في نهاية الستينات من القرن الماضي، ولقد قوبل بالرفض والاستهجان من الكثير من القوميين العرب في تلك الفترة، أما في عهد الجماهيرية فإن موضوع الشخصية الليبية من التابوهات الممنوع التطرق إليها خلال أربعة قرون عدا روايات إبراهيم الكوني المهتمة بسكان الصحراء الليبية (الشخصية التارقية الأمازيغية)، ولقد مارس النظام صنفين من التربية المتناقضة، أولها التركيز على القومية العربية، والأخر التعامل مع المدن كقبائل لها زعامات موالية للسلطة وليس كمواطنين في مدن تجمعهم الدولة الوطنية، أي أن ليبيا خلال أربعة عقود كانت نجوع في البادية ونجوع في المدينة، أما الجانب الوطني فليبيا أفريقية عربية جماهيرية، واسم ليبيا لا يستعمل بالداخل ولا حتى في المحافل الدولية، والقبائل يصنع لها زعماء مقربون، وتختصر الهوية في القبيلة واللحمة في الكثير من الوثائق الرسمية.
بعد ثورة فبراير 2011م والأحداث التي رافقت ذلك فُتح الباب على مصرعيه لمناقشة الكثير من المفاهيم الممنوعة في العهد السابق مثل الهوية والشخصية والوطنية، وكان ثمار ذلك العديد من الدراسات في هذا المجال ربما أهمها كتاب الدكتور المنصف وناس في سنة 1014م بعنوان الشخصية الليبية ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة، وقبل ذلك اهتم الياباني نوبوأكي نوتوهارا في كتابه العرب وجهة نظر يابانية بالبداوة والقبلية في الشام وليبيا، وخلص الجميع إلى سيمات الشخصية القاعدية؛ وهي شخصية تمثل مجتمع القبيلة البدوي الذي يتواجد في الكثير من المناطق الليبية وبدرجات متفاوتة، والتي تتلخص سماتها في أنها تتمسك بالعصبية لمجتمعها، ولا مانع لها بالولاء مقابل الهبة، وكثيرة الكرم، مرتجلة لا تحب النظام، كثيرة التنقل في المكان والزمان، لا تراكم معرفي لها، تحب بعمق وتكره بشدة، تحب الغلبة والهيمنة، تكره العمل المهني وتحب التجارة، لا تهتم بمرور الزمن ولا بإدارة الوقت، ليس لها تصور للدولة وهمها إرضاء القبيلة وأفرادها، لها تدين مصطنع، تميل إلى السيطرة والحسم (الأمور عندها أبيض أو أسود)، ولكل قبيلة زعيم.
صفات الشخصية القاعدية البدوية السابقة لا علاقة لها بالكثير من المدن الليبية وبقيت حبيسة قرى ومدن منغلقة، عادت عليها وبالاً في السنوات الأخيرة بالتضحية بأبنائها وهدم بيوتها، أما غالبية المدن والقرى فقد انفتحت على الآخر وسارت في طريق المدنية، وبذلك لا ترى أخلاقيات الشخصية القاعدية في طرابلس وصبراته ومصراته وزوارة وغريان ونالوت والخمس وزليطن ودرنه وأجلة وهون والكثير من المدن الأخرى، في حين أن مدنا وقرى معظمها في الشرق الليبي والبعض منها في غربه لزالت تتشبث بهذه الثقافة ولم تتيح لها الظروف للتطور الاجتماعي، أي أن الوسائل المتوفرة لها عصرية إلا أنها تعيش بثقافة القبيلة والبداوة، وهو مشابه للمجتمع السعودي.
مقارنة بتونس تكون المناطق القبلية بليبيا اجتماعيا مقاربة لما حدث في سنة 1857 م، في هذه الفترة اشتعلت حروب قبلية كثيرة في الشمال والوسط التونسي بين القبائل أدت إلى ما يسمى (عام خراب قبلي) وبعدها بأعوام كان عام خراب جمنة، وهذا لا يختلف عن 2014م عام خراب بنغازي.
القبلية ليست مرضا مزمنا وليست موروثا جينيا، ولكنها أسلوب حياة متخلف يلازم الشخص إلى أن يتطور اجتماعيا، ولذلك يمكن علاجه، فمثلا عمل الاستعمار الفرنسي ثم الحبيب بورقيبة على تفتيت النظام القبلي بعدة طرق منها نقل السكان إلى مساكن عامة، واستحداث مرافق عامة في ولايات مختلفة ومصادرة وإعادة توزيع الأراضي وأهم من ذلك تطوير التعليم والثقافة واستهجان ثقافة القبلية والبداوة في المناهج الدراسية وفي وسائل الإعلام، ونري ذلك في برامج عبد العزيز العروي والكوميدي أمين النهدي الإذاعية بتونس، في حين تفتخر السلطة في ليبيا بالنجع وانتصار الخيمة على القصر ومسلسل “رفاقة عمر” لعقود طويلة. هذا التقوقع القبلي لا يبني دولة ولا يساعد على تطوير أليات المجتمع ويجعل العديد من المدن تعيش في مباني وخدمات المدن، ومنغرسة في ثقافة القبيلة والبداوة المتأخرة.
تظهر جليا ثقافة البداوة في المشهد السياسي الليبي، ففي معظم مدن الغرب الليبي لم يكن هناك وقفة احتجاجية أو بيان تأييد أو تصريح لتأييد أي شخصية سوى كانت برلمانية أو سياسية، والجميع على استعداد لإسقاط أي شخصية تقف عثرة أمام مصلحة الوطن وليس هناك استثناء لأحد، في حين أن برلمان طبرق يقوم بتحشيد الوراقين ليجندون إعلاميا، والأبناء ليضحي بهم في حروب عبثية، ومؤسسات تتشظى، واتفاق يعدل ثم يلغى، ونواب يساقون ….. ودولة يتم تعطيلها من أجل شخص واحد هو خليفة حفتر، والجموع مسلوبة الإرادة توافق حين يوافقون وترفض حين يرفضون إنها متلازمة القبلية: المال والرجال والبارود.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً