تتناوب ثلة من النخب السياسية الليبية الحاكمة عبر هياكلها الناظمة لها (مجلس النواب، مجلس الدولة، المجلس الرئاسي، حكومة الوحدة الوطنية) والدوائر التابعة لها ممارسة الحالة العبثية الكارثية للشأن الليبي.. كلٍ حسب المقاصد والحسابات النفعية الخاصة.. والمُعدة في كراس توجيهات القوى الإقليمية والدولية.. (الظاهرة والمستترة).. المنغمسة في الأزمة الليبية.. نخب تحمل كل (مكونات) السادية Sadism.. غير مكترثة بالمطلق لمعاناة شعب ربطتها به ظروف الحاجة والتسول.. والتحول الديمقراطي (المضحك).
عبر أحد عشر سنة (2011 – 2022) يُظهر كشف حساب أعمال هذه النخب (المافيوزية) إنفاق لا حصر له من الاجتماعات واللقاءات والحوارات عبر دهاليز فنادق في عواصم دول تصنع مصير ليبيا وتعيد تصنيع (وتدوير) نخبها السياسية.. مخابرات أجنبية تعد الطبخة السياسية الليبية بنكهة (محاصصة) تقاسم السلطة ليعقبها حكومات (ديكورية) وإسهال من البيانات و(التوافقات) المزعومة حول مصير ليبيا واستقرارها.. والنتيجة الفشل في التأسيس لدولة ليبية عصرية جامعة للآمال والآلام واستمرار دوران البلد في حلقة مفرغة.. أمام استهزاء الأعداء والأصدقاء علي حد سواء.
تختلف هذه النخب حول كل شيء.. ابتداءا من المبادئ والقيم (إن وجدت) وصولا إلى الغايات.. وتضيع المشتركات (إن وجدت) وسط زحام ثقافة الشك والسلوك الانتقامي والثأري تلك السمة الليبية بامتياز.. وتتلاشي إمكانية التوافق بينها (ولو نفاقاً) أمام غدق الأموال المنهوبة واستكانة الجموع المسلوبة.. فالنخبة المتحكمة في القرار الوطني (مجلس النواب، مجلس الدولة، المجلس الرئاسي، حكومة الوحدة الوطنية) لا يجمع بينها إلا المصلحة في استمرار الأزمة أو بالأحرى المأساة الليبية.. وما مسرحية انتخابات 24 ديسمبر 2021 إلا أحد عروض الكوميديا السوداء.. حيث اتفقوا جميعاً على تخريبها ثم أفضي كلٍ إلي حال سبيله.. أشبه بحفل عرس جماعي.. طقوسه التدليس.. ومأذونه مفوضية الانتخابات.
والصورة الأبشع (الملازمة حصراً للنخبة السياسية المسيطرة على ليبيا) أن لا حدود للفجور.. ولا صلاحية لحالة الكراهية والخصام.. ولا ضوابط للانتقام.. فشعار كل (فرق) النخب الحاكمة في ليبيا (فليذهب كل شيء إلى الجحيم مقابل الشيء الذي تريده).. ولا فرقة واحدة ناجية من داء التبرير لأفعالها والتدمير للآخر مهما طال الوقت وامتد.. فلو كان أول إعلان دستوري فبرايري (2011) إنسانا.. لأصبح الآن طالباً يستعد لامتحانات الشهادة الابتدائية.. ولو كان اتفاق الصخيرات (2015) بشراً.. لأنهى الصف الأول من المدرسة.. وبالمثل لو كان اتفاق جنيف (2021) مولوداً.. لفطمته أمه (ستيفاني ويليامز) من الرضاعة حالاً.
أزمة النخب الليبية المسيطرة على مقاليد الأوضاع أحسبها صعبة التفسير والفهم.. نخب تعجز عن الإقدام لصنع حلول.. وتعجز عن التراجع عن الفشل.. وأجزم أن الأزمة السياسية الليبية أكبر من القدرات السياسية والمعرفية لتلك النخب.. حيث لم تنجح في فك الاشتباك وانتشال الوطن مما يهدد بالدفع لعودة الصراع والاحتراب.. وفصل جديد من كتاب المأساة الوطنية الليبية.
فبالعودة إلى السلوك السياسي (الميكافيللي) للنخبة.. واحتكاماً للشواهد.. وتركيزاً علي آخر فصول التراجيديا الليبية.. فمنذ مطلع هذا العام 2022 وعقب وأد (هيلولة) الانتخابات انزلق مجلس النواب إلى فخ التعديل الدستوري الثاني عشر الذي لن يفضِ لانتخابات قريبة.. قابله نكوص شريكه وفق الاتفاق السياسي الليبي مجلس الدولة عن توافقاته المصلحية (اللحظية) في تشكيل حكومة وتبديل (جلده) في (جنح ظلام) جلسة مبني الدعوة الإسلامية.. وانكفاء المجلس الرئاسي بحسبه (القائد الأعلى للجيش) على نفسه متبعاً سياسة النعامة لمواجهة حالة الانسداد السياسي والاضطراب الأمني.. وختامها تبني حكومة الوحدة الوطنية (السلطة التنفيذية العليا) لسابقة قد تسجل في سجل جينيس للغرائب بتعهدها إنجاز الانتخابات (ذاك السراب الذي تحسبه جموع الشعب الليبي سيطفئ ظمأها للتغيير).. ضاربة بعرض الحائط كل الأعراف وعلوم السياسة والمنطق.. واثقة بكل (أمانة) وعناد من بيع سلعة (عودة الأمانة للشعب) في سوق (السذاجة) السياسية.
ثالوث الأزمة الليبية صار عصي على حلحلة القوى المحلية والإقليمية والدولية المتدخلة في الشأن الليبي.. فالدولة الليبية (الوهم).. مأزومة.. فالمؤشرات الأربع الحيوية لقياس مستوى تعافي البلد (السيادة، الوحدة، الاستقلال، الأمن) محبطة ومؤلمة ومشروخة.. وحديث الأرقام والإحصاءات الاقتصادية والاجتماعية عن وضع ليبيا وأداءها حتما أنه صادم ومأساوي.. حتى إن تبواء ليبيا على مدى العقد الأخير (2012-2022) لتراتيب (رفيعة) على سلم الدول الأكثر فسادا على مستوى العالم حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية.. صار خبراً اعتيادياً لا بواكي له وعليه.
والسلطة (الشكلية) المؤتمِرة من وراء الحدود (مزعومة).. فالدماء والأموال ظلت دائما القربان للوصول لكرسي السلطة.. والوطن تحكمه Online (روبوتات) تدار إلكترونياً بالهواتف أوعبر البريد الإلكتروني تسمى تقليداً وبروتوكولياً.. وزراءًا ومسئولين.. حكومات وشخوص أتت بها المغالبة والمحاصصة والمصادفة كـ(كومبارس) في مسرحية الضحك على ليبيا.
أما الأمة الليبية (المركبة) من فسيفساء ثقافية واجتماعية متنوعة الأعراق (مهزومة).. فقد تشظى رأس مالها الاجتماعي واختفى (المليون) حافظ لكتاب الله.. وحل مليون حاقد ومليون فاسد.. فلا الدين الحنيف صار جامعاً لها.. ولا القيم والأعراف حافظت على شعرة التعايش بينها.. ولا عقود الزمن صهرت اختلافاتها برغم تصاهرها.. ليبدأ مسلسل نبش خلافات و(بطولات) الماضي الدينكوشيتية حتى تحولت (المكونات) والقبائل لدول ومناطق نفوذ.. وسكاكين تطعن جسد الدولة الممزقة أصلا.
سبعون عاما مضت منذ إعلان الأمم المتحدة في ديسمبر 1951 ميلاد ليبيا (بعملية قيصرية) كدولة مستقلة (فيدرالية النظام الإداري).. ليتم لاحقا عام 1963 وبعملية أميركية (مموهة) للوحدة الليبية لصق أقاليمها الثلاث التاريخية والجغرافية طرابلس وبرقة وفزان بغراء النفط.. ذلك (النخاع) للنظام المركزي العمود الفقري للدولة.. لتدخل ليبيا نادي الدول الريعية (المتخلفة) بجدارة.
وبعيداً عن جدلية النفط أنعمة أم نقمة على ليبيا.. بينت السبعون عاماً فشل ليبيا كدولة مؤسسات وأمة ذات وعي في استثمار الموارد والثروات والممكنات الاستراتيجية (الهبة الإلهية) لصناعة مشروع وطني إنمائي حقيقي ضامن للسيادة والاستقلال ومحقق للعدالة الاجتماعية والرفاهية وكافل لاستدامة العيش الكريم.. وتمترست بعناد أحياناً وحمق أحيان أخرى جل الأطياف الليبية المهيمنة عبر الحقب السياسية التاريخية الرئيسية (الملكية، الجمهورية/الجماهيرية، فبراير) خلف أفكارها البدائية والإقصائية والتبريرية واللاواقعية.. ناهيك عن افتقار جميع النخب الحاكمة لتأصيل فكرة التنوع والاختلاف والتداول ضمن إطار مؤسسي.. فالليبيون حقيقة لم يتوافقوا على صيغة تعايشية متوازنة من القاعدة للقمة في محطات صدامية عدة من تاريخهم الحديث.. وإن كان عام 2011 هي اللحظة الأشنع عبر قيام النخبة السياسية المتولية لزمام الأمور حينذاك (مدفوعة بسلوكيات الخصام والثأرية اللامحدودة) مقايضة وحرق ورحيل النظام السابق بقضه وقضيضه من شخوص وأموال وأسرار ومعلومات.. مقابل الجلوس على كرسي السلطة.. ليصل بنا الحال إلى مرحلة ما قبل الدولة والبدائية.. في حين يناقش غيرنا من الشعوب (ممن يفتقد شيء من تاريخ وعراقة ليبيا) الحداثة ومجاراة الدول العصرية.. ولربما كان (الإمام الشافعي) متنبئاً بسلوك شخوص الأزمة الليبية حين شخَص للنخب السياسية الليبية أزمتها قائلاً:
نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب.. ولو نطق الزمان لنا هجانا
أدعي أن التشوهات في فكر وقدرات ونوايا النخبة السياسية الجاثمة هي من استدعي القوى المتربصة بليبيا وشعبها وثروتها لمصادرة القرار الوطني السيادي والمستقل.. وهي من قزم طموحات شعبها وصغر أحلامه.. ورجع به عبر الطريق المعاكس المؤدي للتخلف.. فحينما يُبتهج عام 2022 بإقفال تقاطع (سيمافرو) طريق المطار منعاً للحوادث والازدحام المروري وهو المغذي الرئيسي لتدفق السيارات للعاصمة طرابلس لأكثر من خمسين عاما.. وحينما يتبادل أهل الجنوب البسطاء (ثكالي الدولة) التهاني بملاء خزان وقود السيارة (بالسعر المدعوم) من جيوبهم الخاوية.. وحين يرقص أطفال الجبل فرحاً بقدوم الماء الممزوج بالطحالب والبكتيريا في خزانات متنقلة.. وحين (تنكسر) صورة المرأة الليبية أمام المصارف لتلقف بعض من أموالها خصماً من رصيد هيبتها وكرامتها.. وحينما ينتشي بالاعتزاز و(الوهم) بعض المحتجين في شرق البلاد وجنوبها بمنع تصدير النفط المورد الرئيسي للحياة (الريعية).. وغيرها من أحداث ووقفات هزيلة في سجلات فرح المواطن الليبي.. وسط انشغال النخب (الارستقراطية) المجتمعية في الخارج من العرب والطوارق والأمازيغ والتبو بترسيم حدود (دولها) داخل الدولة.. ونصيب كل أثنية من (الكوتة) في مغنم الوزارات والدولة المتقطعة الأوصال الإدارية.. حينها يتأكد أن نادي (العراة من الوطنية) هو المسيطر والحاكم الفعلي للبلد.. وأن الهزيمة قد نالت من داخل كبرياء الأمة الليبية حتى تبلغ هذه الدرجة من الاستكانة والهوان.
هناك إلتباس وتشوه لدى النخب السياسية الليبية الحاكمة في عدة مراحل تاريخية في فهم فكرة مأسسة الدولة.. الأمر الذي أدى لتزاوج الدولة والنظام بدون وثيقة شرعية.. ولم تستطع ليبيا عبر عقودها الزمنية السبعة إسقاط نظرية متلازمة الدولة الريعية والمركزية.. بل ترسخت بصورة أكثر ضراوة وإيلاماً عبر العشرية الأخيرة وتجلى مظهرها في السلوك (السياسي) بدل الاقتصادي والمالي لإدارة المصرف المركزي.. واستفحال ثقافة الرعية التي يعولها عبر طوابير المرتبات لأكثر من اثنين مليون موظف يلتهمون قرابة نصف الميزانية العامة.. وأضحى العبث والفساد هو مشغل (الأندرويد) للمنظومة السياسية القائمة.
النخب المثقفة والمفكرة والمؤثرة التي لم تتلوث بعد بآفات السياسة مدعوة أن تثير القضايا.. أن تمس الذات.. أن ترمي الأحجار في المياه الراكدة.. عليها على الأقل أن تصدح بما تؤمن به.. وترى يجب أن يكون ولكنه لم يكن.. وهذا أضعف الإيمان.. يجب رفع رايات التنبيه والتحذير مما هو قادم لليبيا من أهوال وانكسار أو انهيار قبل فوات الأوان.. هذا إذا لم يكن قد مضى أصلاً.
الآن وعقب انقضاء أجل الاتفاق السياسي في الثاني والعشرين من شهر يونيو الماضي.. تنامت هناك مؤشرات وشواهد ومعطيات (أبرزها دخول الوضع السياسي الليبي) لحالة عدم اليقين الخطيرة وأزمة ضبابية شرعية السلطة واحتمالية تطور الأوضاع الأمنية سلباً باتجاه الاحتراب.. وبات شبه مؤكد أن ليبيا ستبدأ مرحلة انكشاف جديدة في ظل الغموض في المواقف السياسية الدولية والإقليمية تجاه المأزق الحالي.. وبالتوازي الارتباك في مواقف القوي المحلية في غرب البلاد وشرقها.. فالتدخل التركي المباشر في معادلة الصراع السياسي الليبي وتأثيراته على القرار السياسي.. وقيام الرئاسة الجزائرية بسياسة تصفية الحسابات والمناكفات الواضحة للدور المصري تجاه الأزمة الليبية ولمبادرات المملكة المغربية لحل الأزمة الليبية.. وتبادل الأدوار وإعادة الحسابات بين قطبي الخليج المتدخلين (قطر والإمارات).. حتماً أن هذه النقلات الدبلوماسية لا تتم بعيداً عن أعين اللاعبين الكبار في ملف الأزمة الليبية.. فللولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا القول الفصل في كل ترتيبات الوصول إلى تسوية مرضية للأزمة الليبية.. لكن المؤسف أن اللاعبين الكبار صعب أن تلتقي مصالحهم الاستراتيجية بسهولة خاصة إذا ما نظرنا للحظة التاريخية الحالية التي يعيد فيها النظام الدولي إعادة ضبط نفسه حيث الحرب على أوكرانيا هي الانطلاقة لإعادة ترسيم مناطق النفوذ في العالم.
أمام هذه (الورطة التاريخية) التي أدلفت إليها ليبيا على يد بعض من مافيا نخبها السياسية فإن خيارات ليبيا (الدولة المأزومة والسلطة المزعومة والأمة المهزومة) محدودة للخروج من هذه الشرنقة.. ولا أتصور أن الركون إلى العملية السياسية المتعثرة التي تنشد الوصول إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية سيكون هو الحل القريب والوحيد.. فما يعقد تشابك خيوط (الورطة الليبية) أن البلد يفتقر إلى جيش موحد البنية والتراتبية والعقيدة والهدف.. ويفتقر لقيادة نوعية (مجازفة) حد الانتحار تمتلك النزاهة والحنكة والواقعية والمشروع.. فالشطحات السياسية والمواقف الارتدادية لن تغير الحال في ليبيا.. فخروج الجموع الآن للشوارع والميادين بدعوة (الثورة) لتغيير المشهد وإسقاط الأجسام السياسية لا أرضية ولا حاضنة له.. فالجموع هي من اكتوى من لظي نار خروج بعض المجاميع المحتقنة في أحد الأيام من فبراير 2011.. وبالمثل فسيطرة فئة بالقوة العسكرية على صورة انقلاب أو فرض أمر واقع ليست ممكنة بتاتاً في ظل الخريطة الأمنية لليبيا.. وكذلك فلن تجد صدى لها محلياً أو خارجيا.
ما نحتاجه الآن من أولوية هو ترميم الهياكل السياسية القائمة (مرغمين).. لأن نسفها وتصفير العملية السياسية يحتاج إلى (تسونامي) شعبي لا يبق ولا يذر.. وهو الخيار البعيد عملياً عن الواقع والممكن.. والذاكرة حبلى بمحاولات شعبية للرفض والتغيير تم قمعها وسحلها.. والمقصود بالترميم هو إجراء بعض العمليات (الجراحية/التجميلية) الإصلاحية للبنى السياسية الأربع من حيث اختصاصاتها ودورها خلال المرحلة الانتقالية.. عبر الضغط عليها من مسارين أولهما إشراك المجالس البلدية (كونها تحظي بشرعية انتخابية) في عملية الترميم.. وثانيها استشارة الخبرات الاستراتيجية المرموقة ومراكز صنع القرار المتخصصة والمهنية إلى جانب الشخصيات والخبرات المحلية المستقلة والفاعلة المهمومة باستقرار ليبيا والبعيدة عن مزاج ومواصفات البعثة الأممية إلى ليبيا.. إلى صنع مخرجات سياسية (إنعاشية) تسبق بداية الانهيار الذي إن بدأ سيكون سريعاً ومريعاً.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً