*المصدر: بقلم: ديرك فانديوال – ترجمة: نهى حوّا
أدى مقتل السفير الأميركي في ليبيا، كريستوفر ستيفنز، وثلاثة من الأميركيين خلال هجوم حشود غاضبة على القنصلية الأميركية في بنغازي في 11 سبتمبر الماضي، إلى تركيز انتباه العالم على مشكلات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي.
وأظهرت أعمال الشغب قوة الميليشيات الراديكالية في البلاد، وفي الوقت نفسه عجز الحكومة في طرابلس على حفظ الأمن والحفاظ على النظام في مختلف أنحاء البلاد. وتتفشى حالة من الفوضى والفساد، فيما تبقى أسئلة أساسية حول بنية المؤسسات السياسية والاقتصادية وعملها دون إجابات.
وكل هذا، مع ذلك، ينبغي أن لا يحجب واقع أن الصورة الأكبر الآن في ليبيا الجديدة، هي إيجابية على نحو مثير للدهشة. والسيناريوهات الأسوأ التي كانت متوقعة منذ سنة لم تبرز إلى الوجود، وهناك أسباب تدعو لتفاؤل حذر حول المستقبل.
وفي أغسطس 2011، عندما اسقط الثوار بمساعدة غربية نظام الرئيس الليبي معمر القذافي، بدت عوائق كثيرة في الطريق. كان الإحساس بالهوية الوطنية بأدنى مستوياته، ولم يسبق أن عاشت البلاد في ديمقراطية، وكانت تقودها حكومة انتقالية لا تملك احتكارا في مجال استخدام القوة، وفي سبيل بناء دولة المؤسسات التي تقوم بوظائفها، كان يتوجب على ليبيا التغلب على إرث دام أربعة عقود من الحكم الدكتاتوري، منع خلاله القذافي نمو مؤسسات وطنية فعلية.
لكن ليبيا اليوم تحدت التوقعات، وبرزت بوصفها الدولة الأكثر نجاحا في الخروج من الانتفاضات التي عصفت بالعالم العربي على مدى السنتين الماضيتين. في 7 يوليو، عقدت ليبيا أولى انتخاباتها الوطنية منذ سقوط القذافي، وسط ضجة محدودة وتصميم وعزم كبيرين، حيث صوت مواطنو الدولة بشكل سلمي لانتخاب مئتي عضو في المجلس الوطني العام الليبي الجديد. وبعد شهر من الانتخابات تلك، نقل المجلس الوطني الانتقالي، القيادة السياسية للمعارضة خلال الأيام الأولى من الحرب الأهلية، سلطاته إلى المجلس الوطني العام.
وستقوم لجنة الآن بصياغة دستور للبلاد يعرض للتصويت في استفتاء شعبي. وقد سارت كل هذه التطورات وفق الجدول الزمني الذي وضع خطوطه العريضة المجلس الوطني الانتقالي في خضم الحرب. ويوجد صعوبات جمة في المستقبل، لكن السلاسة غير المتوقعة لعملية الانتقال السياسي لليبيا، تمثل إنجازا استثنائيا لبلد ما زال يتعافى من عقود من الدكتاتورية.
فما الذي يفسر النجاح النسبي في ليبيا؟ كثير من العلماء رأوا في نقص التطور المؤسسي للبلاد نذير سوء لمستقبلها كديمقراطية. لكن أحداث السنة الماضية أشارت إلى أن ليبيا استفادت فعلا من عملية البدء في بناء دولة المؤسسات من الصفر عمليا. وعلى عكس تونس ومصر، حيث المؤسسات الراسخة مثل الجيش والبيروقراطية النافذة، برهنت على أنها ممانعة للإصلاح، لم يحتاج قادة طرابلس الجدد لتفكيك بقايا مؤسسات كبيرة الحجم للنظام السابق.
وتشكل إنجازات ليبيا الأخيرة مجرد بداية لما يتوقع أن يكون عملية طويلة الأمد وصعبة في إصلاح بلاد مزقتها الحرب، لكن إذا كانت انتخابات يوليو تشكل مؤشرا ما، فهو أن معظم الليبيين عازمون على بناء مجتمع سياسي يحترم الاختلاف في الرأي ويحل خلافاته عبر المسارات الديمقراطية، وهذا الأمر لم يسبق لهم أن حظوا به من قبل.
وبعد سقوط القذافي، تنبأ قلة من المراقبين بان تبرز ليبيا، بتاريخها المضطرب، كدولة ناجحة. ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة عن كثب عما حققته ليبيا، يظهر صورة أكثر إشراقا. فقدرة المجلس الانتقالي الوطني على تنظيم انتخابات وطنية واستعداده لتسليم السلطة إلى المجلس الوطني المنتخب في أغسطس، يشيران إلى أن ليبيا قد بدأت في بناء مؤسسات سياسية فاعلة. وفي النهاية، سترفع هذه الانتخابات ثقة الجمهور بقادتهم، وستؤمن للحكومة الجديدة الشرعية الشعبية التي افتقر إليها النظام السابق. وتتحول ليبيا بخطى بطيئة لكن ثابتة، إلى بلاد اكثر اندماجا وتكاملا في ظل حكومة وطنية قادرة على التحرك بفعالية. والسلطات المركزية في ليبيا وسعت سلطاتها على حساب كثير من الميليشيات التي ما زالت تنازعها السيطرة على البلاد. وقد يكون الأمر الأكثر أهمية، هو أن الليبيين الآن لديهم، على ما يبدو، قناعة مشتركة بان بلادهم هي حرة وغير قابلة للتجزئة، على الرغم من كل الخلافات الداخلية.
وفي هذه الأثناء، تضمحل قوة الميليشيات ببطء، وفيما الحكومة تمنح حوافز مالية محدودة إلى الميليشيات، ستحتاج إلى أن توازن خطواتها، لضمان ألا تتحول العطاءات المؤقتة إلى استحقاقات دائمة، عندئذ فقط يمكنها تجنب سياسات الرعاية التي أصبحت ميزة متأصلة في حياة الليبيين خلال سنوات القذافي وخلقت مصالح خاصة راسخة.
وعلى الرغم من القدرات المحدودة لدى الحكومة الليببية حتى الآن، إلا أنه يتعين عليها في سبيل تعزيز مكاسبها، تسريع الخطى في سبيل تحقيق المزيد من التطوير في مؤسساتها الأمنية والسياسية والاقتصادية الناشئة. وكما تظهر انتخابات يوليو، فان النظام السياسي للبلاد يحتاج إلى كثير من النضوج. فالأحزاب صارعت في سبيل صياغة برامج متماسكة، ولهذا السبب حددت هويتها بارتباطها بأفراد وليس بأفكار، وبدا الشعب أنه يملك فهما بدائيا للمسار السياسي للبلاد وإجراءاته.
وكل هذه النواقص لم يسعفها وجود هذا النظام الانتخابي الذي كان مصمما عمداً لضمان عدم هيمنة أي من المجموعات السياسية. فمن أصل 200 مقعد في المجلس الوطني العام، جرى ملء 80 مقعدا باعتماد التمثيل النسبي حسب حصة الأحزاب من الأصوات، أما المقاعد الباقية، فأعطيت للأشخاص الذين فازوا بالانتخاب المباشر.
بالإضافة إلى ذلك، تم انتخاب مرشحي الأحزاب الذين ملؤوا المقاعد ال80 الخاضعة للتمثيل النسبي بناء على نظام المرشح الواحد، والذي يعطي افضلية للمرشحين الأفراد على حساب نمو الأحزاب وتماسكها. ونظريا، يمكن أن يفرض وجود عدد كبير من المشرعين المستقلين ضرورة التوصل إلى مساومات وتشكيل ائتلافات في الكيان الجديد. لكن على ضوء تاريخ الانقسامات الفئوية في ليبيا، فان مثل هذا النظام لن يؤدي إلا إلى حالة من الجمود السياسي.
ويكمن التحدي الأكبر في ليبيا في تعزيز مجتمع سياسي حقيقي. فبخلاف معظم دول الغرب، حيث بلدان بهويات وطنية، تطورت إلى ديمقراطيات انتخابية. فإنه يتعين على ليبيا بناء هوية وطنية من ديمقراطيتها المشكلة حديثا. ومن الأمور المركزية في هذا الجهد صياغة دستور، وتأسيس عقد اجتماعي يمكنه أن يحول السياسة غير المحددة وغير الرسمية لفترة القذافي إلى قواعد واضحة. في الأشهر المقبلة، ستحتاج لجنة الدستور في ليببا التي يجري التهليل لها بشكل متساو في الأقاليم التاريخية الثلاثة للبلاد، إلى إيجاد مخطط مؤسساتي يجذب المجموعات المتنوعة لليبيا إلى مشروع وطني حقيقي.
ويتعين على قادة ليبيا الجدد إيجاد وسيلة افضل لإدارة الموارد النفطية والاقتصاد. كان القذافي قادرا على إدامة حكمه من خلال سوء استخدام هذه الموارد وإيجاد اقتصاد شديد المركزية غير منظم يعاني الآن من كل تبعات الإهمال طويل الأمد.
واقتصاد ليبيا أيضا ليس متنوعا كما يجب، وقطاعه النفطي لا يمكن إيجاد وظائف كافية لتشغيل أعداد الشباب الكثر العاطلين عن العمل. وتبدو الإحصاءات الاقتصادية قصيرة الأمد للبلاد جيدة، واستنادا إلى تقرير لمؤسسة «بزنس مونيتور انترناشونال»، فان الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لليبيا من المتوقع أن يرتفع بحوالي 59% في عام 2012، بعد تراجعه بنسبة 49% تقريبا في عام 2011. لكن هذه التوقعات المشجعة تخفي حقيقة انه من دون إصلاحات اقتصادية رئيسية، فان ليبيا لن تكون قادرة على تجاوز مكانتها كدولة ريعية.
وسيتطلب استنهاض الاقتصاد وتنويعه بذل جهود لتشجيع المشاريع من خلال البرامج الحكومية، وعكس تأثيرات عقود من سياسات الرعاية القائمة على النفط. وهذه التأثيرات تشمل الفساد المستشري ووجود مجتمع شاب يشعر أن لديه الحق بالرعاية ويفتقر إلى أخلاقيات العمل. وللمفارقة، فإنه في سبيل حل هذه المشكلات، يتعين على قادة ليبيا الجدد التدخل بقوة في السوق لتقليص وجود الدولة في الاقتصاد على المدى الطويل. وخبرة بلدان غنية بالنفط أخرى خرجت من حروب أهلية مثل نيجيريا تظهر انه إذا لم يجر القضاء على أنماط الرعاية في فترة مبكرة، فإنها لا تلبث أن تعيد تأكيد ذاتها.
ولحسن الحظ، فإن مشرعي السياسات في ليبيا يدركون الحاجة إلى الابتعاد عن نموذج للتنمية لا يضاهي النموذج السابق للبلاد، والمتمثل بإدارة اكثر كفاءة لإيرادات النفط.
ويأخذ بناء الدولة وتعزيز الهوية الوطنية وقتا وقيادة رشيدة، وأفكاراً جريئة ومبادرات واستعداداً للمساومة والتسويات. وهذه تنطبق على لبيبا بوجه خاص، لأن هذه الصفات لم تكن مطلوبة خلال العقود الأربعة الماضية. وهنا أيضا برهنت ليبيا على أنها استثناء سار ومفاجئ.
فالقانون رقم 36، على سبيل المثال، الذي استهدف أموال الأفراد الذين على علاقة بالقذافي كان إجراء نفعيا سياسيا أقر على عجل، وكان يفترض تعديله. وخلال انتقال السلطة في أغسطس إلى المجلس الوطني العام، اقر رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل بفشله في بعض المجالات، لاسيما في إعادة الأمن إلى البلاد. لكنه أشار أيضا إلى أن السلطة المؤقتة للبلاد حكمت في أوقات «استثنائية». ولهذا السبب، كثير من الليبيين حتى أولئك الذين اختلفوا في العلن مع المجلس الوطني الانتقالي، يشاركون فيما بينهم قدرا من الاحترام لما انجزه أعضاء هذا المجلس.
والمهام المستقبلية للحكومة الليبية شاقة بقدر ما هي متنوعة: فرض الأمن والنظام، والموازنة بين الأقاليم والمركز، وتوسيع وتعزيز حكم القانون، وتأمين العدالة الانتقالية، وتعزيز حقوق الإنسان والإحساس بالهوية الوطنية بين الليبيين. وفي حل هذه التحديات، ليبيا بلا شك ستمر بانتكاسات. لكن الصورة الأوسع لعملية الانتقال يجب أن توحي بالأمل. بعد سنة من سقوط الدكتاتورية التي حرمت الليبيين من أي دور سياسي، فان دولة حديثة بدأت في البزوغ متحدية كل الاحتمالات.
إصرار على منع الهيمنة الحزبية
في التصويت على أصوات الحزبيين، تمكن تحالف القوى الوطنية بقيادة رئيس وزراء المجلس الوطني الانتقالي محمود جبريل من تحقيق هزيمة كاسحة ضد حزب العدالة والتنمية التابع لجماعة الإخوان المسلمين. فالشهرة التي اكتسبها جبريل في الحرب الأهلية حققت لائتلافه مزيدا من البروز، الأمر الذي ترجم بنيله هذه الأصوات المقررة سلفا. وسرعان ما بدأ عدد من المعلقين الغربيين يحتفلون بهزيمة الإسلاميين في ليبيا. لكن مثل هذه الاحتفالات جاءت قبل أوانها. والحقيقة هي أن كل الأحزاب السياسية في ليبيا، بما في ذلك تحالف جبريل، تدرج الإسلام في برنامجها السياسي، وهي تختلف فقط على الدور المحدد التي تخصصه للدين في الحياة اليومية.
والأداء الضعيف لحزب العدالة والتنمية لا يتعلق بالأيديولوجية بقدر ما يتعلق بواقع أن القذافي كان قد قضى بفعالية على الإخوان المسلمين في ليبيا، تاركا الجماعة بموارد تنظيمية محدودة في أعقاب الحرب الأهلية.
في الانتخابات المقبلة، فيما تكون ذكرى المجلس الانتقالي وقادته تخبو، يكون حزب العدالة والتنمية، وغيره من الأحزاب الإسلامية الأخرى، قد نظمت صفوفها بشكل أفضل وطورت برامج اكثر تعقيدا وتفصيلا، ومن المرجح أن يحقق الإسلاميون المزيد من المكاسب في السياسة الليبية. ومع ذلك، يبدو معظم الليبيين عازمين على منع هيمنة أي حزب أو حركة سياسية على حكومتهم الديمقراطية الجديدة.
لعنة الموارد
إذا استمر هذا التقدم في التجذر ليقيم مؤسسات متينة، فإن ليبيا سوف تبرهن على أنها استثناء مهم لما تسمى «لعنة الموارد». والأمر الأكثر أهمية، هو أن ليبيا أيضا قد تظهر قيمة البدء من الصفر في إعادة بناء بلد مزقته الحرب. ولم يكن هناك أحد بإمكانه أن يتنبأ انه في ظل خراب نظام القذافي، والحرب الأهلية الدموية، ستكون ليبيا قادرة على رسم حكومة فعالة وشاملة، ومعظم الإشارات تفيد بذلك.
ولقد سنحت فرصة لقادة ليبيا لم تسنح إلا لقلة من الثوار الناجحين، البدء من جديد، بموارد مالية وفيرة وحرية في بناء دولة كما يرونها مناسبة.
ومع بزوغ ليبيا الجديدة، يتعين على الغرب الاستمرار في لعب دور داعم أساسي كما فعل خلال الحرب الأهلية. وموت ستيفنز لا يجب أن يمنع أميركا من العمل عن كثب مع طرابلس.
*ديرك فانديوال الباحث في شؤون ليبيا بكلية دارتماوث في الولايات المتحدة
اترك تعليقاً