“نعم للصفح، لا للنسيان” نيلسون مانديلا
الخطاب المبطن
لقد قرأت بمرارة لقاء السيد احمد قذاف الدم مع جريدة الشروق الجزائرية، وقد خيب املي قراءة هذا اللقاء بعد ان قرأت رسالته الموجهة للشعب الليبي، ليس لان ما يقوله غير جدير بالتفكير فيه، ولكن لاسباب اخرى اهمها انها صدرت عن شخص بمركزه المعروف في غير زمنها. والحصافة تقول: ليست الحكمة ان تقول او تفعل الشيء المناسب، لكن ان تقول او تفعل الشيء المناسب في الوقت المناسب. ما قاله احمد قذاف الدم في ذلك اللقاء كان مناسب في وقت مضى، كان الاجدر به ان قام به ايام كان نظام ابن عمه قائم يستهين بالليبين، ويدمر ليبيا في كل مجالتها.
ما ايسر الاوصاف التي تمنح هنا وهناك وتديل بمسوح الفضيلة، لنقراء معا ما قاله عن “السيدة عائشة”، وعائشة هنا …. حتى لا يخطي القاري … ليست ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها، انها عائشة القذافي، يقول عنها “السيدة عائشة هي خنساء العصر، كانت في جمعيات خيرية وإنسانية، لم تقد قوات، تكلمت لأنها مكلومة، فما الضير.. هل كانوا يريدونها ان تصفق لمقتل والدها، هل هذه هي الشهامة او النخوة والأخلاق التي عرف بها العرب والمسلمون، اين قيمنا واخلاقنا”. لا ادري كيف تناسي هذه الاخلاق وخانته النخوة حين كان ابن عمه ووزرائه يامر الليبين بانتهاك اعراض الحرائر ليس لجريمة قمن بها ولكن لان ابنئهن وازواجهن ارادوا الحرية ووهبو دمائها لهم.
لعل هذا الوصف هو شهادة على صدق ما قاله الاستاذ عبد الرحمن شلقم في كتابه “شخوص حول القذافي”، فعندما تناول احمد قذاف الذم اشار الى انه متعلق بعائشة وكان يمني نفسه الزواج بها، لعله الان يخطب ودها، ويسعى الى التقرب منها.
انني اسال السيد احمد قذاف الدم، كم خنساء في ليبيا رزحت في اب لها او اخ او ابن او حبيبي، واين “ابنة القذافي” من هؤلاء المجيدات اللتي كانت تسبق زغاريدهن في توديع الشهداء دموعهن الثمينة.
يقول حوري “القائد” كلنا اخطائنا في حق ليبيا، مع انه يعلم حق العلم ان الذي جر ليبيا الى ما حدث لها هو عناد ابن عمه وتمسكه بالسلطة واستهتاره بمن سماهم ووصفهم بالجردان، فكيف له ان يجمع المجرم مع الضحية في سلة وهمه.
يجب عليه ان يعرف بان حديثه عن المصالحة يعتريه امرين:
اولهما انه مطلوب للعدالة، فهو في تقدير الليبين مجرم يستحق العقاب، وبالتالي ليس له الحق في الحديث عن المصالحة، وان كان جادا فيما يدعوا اليه فعليه تسليم نفسه اولا لاثبات برأته، ومن ثم يحق له ان يساهم في اعادة بناء الوطن.
والامر الثاني انه يستخدم اسلوب التهديد المبطن مثلا انه على اتصال بالقوى السياسية والعسكرية المعارضة والقبائل المناهضة للنظام الحالي، هذا الاسلوب لا يبنى عليه اسس المصالحة، كما وانه يزج بالناس الى قائمة الخونة بادعائه انه على اتصال بهم.
طبعا، الليبين لا يهمهم ما يقوله المطلوبين للعدالة، ذلك امر متروك للمحاكم للنظر فيه. لكن ما يهمنا كليبين هو موقف المجلس الانتقالي. كيف يسمح المجلس الانتقالي لنفسه ان يقف ندا لفلول النظام؟ كيف يفوض من يحاورهم باسم الليبين؟. ثم ما معنى المصالحة؟ ولماذا نضع انفسنا في مغالطة كهذه؟.
المصالحة الوطنية
المصالحة الوطنية تعني التقريب بين فئات اهلية متنازعة، فهل ما حدث في ليبيا هو نزاع بين فئات اهلية؟ الحقيقة ما حدث في ليبيا، ويحدث الان في سوريا، ليس نزاع بين فئتين من فئات المجتمع، يستوجب البحث عن اليه لعلاجه والخروج منه، وانما صراع بين السلطة الحاكمة التي تحتكر كل شيء وتختزل كل شيء في شخصية الحاكم وبين الشعب. ولم يكن الخروج من هذه المحنة ليتم الا عن طريق ازالة السلطة الغاشمة واستبدالها بسلطة رشيدة، بمعنى لا حل الا بتغيير النظام.
هل يجوز لنا الان ان نتسائل عن شرعية وواقعية المصالحة؟ ثم المصالحة مع من؟
يقول منصور الجمري في مقالة له بصحيفة بحرينية :” من المؤسف له أن بيئتنا السياسية تقتل معاني الكلمات، ويصبح ترديد بعض المصطلحات مثل الإطار الذي لا يحتوي على صورة بداخله.” هكذا هي المصالحة، وهكذا هم الداعون اليها، انها اطار بدون صورة.
المصالحة في الحالة العربية، كما اجاد وصفها في تقديري، المعارض السوري برهان غلبون : “تعني السعي المشترك إلى وضع حد لاحتكار السلطة والقبول بفتح مفاوضات حول توزيع السلطة والموارد العامة مقابل تنازل الطرف الأضعف في المعادلة … وهو هنا الشعب … عن حقوقه عن الحقبة الماضية … حقبة الفساد السياسي التي كرسها السلطان .. وكذلك عن حقه في الثروات …. التي نهبها السلطان وبطانته …. بصورة غير شرعية” (ما تحته خط اضافتي)، بمعنى اخر القطع مع الماضي وبداية مسيرة جديدة يتجاوز فيها الشعب المظالم التي نالت منه، وينتهي بها النظام الى اعتماد بناء الدولة والتفكير فيها ….ليس كمغنم مشاع، وانما كمسئولية ثقيلة وامانة ووزر.
كان حدوث المصالحة ممكن، وكان اقرب الى الواقع …. وانا هنا اتحدث عن الشان الليبي …. عندما كان ملك ملوك افريقيا يمهد الارض لتولي ابنه سيف خلافته، كان بامكانهما ان حولا دعوتهما الكاذبة في تبني اصلاح سياسي الى دعوة حقيقة في تبني المصالحة مع الشعب. الا ان الطمع والغرور والسلطة المطلقة التي كان يتمتع بها ال القذافي، جعلتهم قاصرين في تقدير ارادة الشعوب وتقييم قدر الانسان، وبالتالي عمت ابصارهم عن رؤية الخطر الذي ينتظرهم. كان ممكن للمصالحة ان تكون بديل عن الثورة، الا ان التحدي السافر الذي واجه به الحاكم شعبه، والتهديدات التي اطلقها، كانت وقود اضيف الى نار ملتهبة.
يقول السيد غلبون: “المصالحة هي البديل المطروح عن الثورة أو عن الانقلاب الذي يمثل آلية انتزاع الحكم بالقوة للدخول إلى ميدان السلطة وطرد المستولين عليها بسلاح القوة نفسه الذي استخدموه ولا يزالون للإبقاء على احتكارهم لها واستملاكهم الشخصي لمواردها”.
لم تحدث المصالحة في حينها، وكان البديل الثورة. فهل ثارت الجماهير على نفسها؟…. هل قامت الثورة على شركاء الوطن؟ الجوب قطعا لا. كانت الثورة على الفئة التي احتكرت السلطة، وحدث ما حدث …. انتصرت الثورة، وانتصرت ارادة الشعب في التغيير، وهذا الشعب يسعى الان الى بناء دولة على اسس جديدة، يتقاسم فيها الناس المغرم والمغنم، يتقاسم فيها الناس مسئولية الحكم وتبعاته كما يتقاسموا الشرف في ادارتها. يتقاسم فيها الناس ثقل البناء كما يتقاسموا فيه الحلم بالغد الواعد، يتقاسموا فيها الخوف من الفشل كما يتقاسموا فيها الامل بالنجاح.
اعيد استعارة وصف منصور الجمري، المصالحة هنا كالاطار الذي لا صورة فيه، وعلينا نحن ان نتعاون في وضع الصورة داخل هذا الاطار الفارغ. الصورة الحقيقية لما يجب فعله … في تقديري … هو البحث عن صيغة لا يكون فيها العقاب عن الجرم نوعا من انواع الانتقام، ولا تكون فيه المحاسبة اعادة لفعل ثرنا عليه. لقد كانت ثورتنا ثورة على الظلم، فلا يجوز لنا ان نقبل باي مسوغات لممارسة الظلم، وثورتنا كانت ثورة على الجبروت والتعالي، فلا يجب ان نتعالى عن شركاء الوطن لانهم وقفوا موقف خاطي بداء لهم صائبا حين وقفوه، او وقفوه طمعا او خوفا.
ما زلت اصر على ان مصطلح المصالحة لا يرقي لوصف حالة الخلاف الليبي، لذلك لا اجد ان مصطلح المصالحة جدير بالاستعمال. فما البديل اذا؟.
العدالة الانتقالية
لقد تحدث الكثير من المفكرين والعلماء والسياسين عن مفهوم اخر يعرف بالعدالة الانتقالية. اصل العدالة الانتقالية كما تعرفه الويكي بيديا يعود الى ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي ادت الى انشاء المحكمة العسكرية العالمية التي عرفة لاحقا بمحكمة نورمبرغ. ويتركز نشاط العدالة الانتقالية في تعزيز قضايا حقوق الانسان في المجتمعات التي لها تاريخ سيء وسوابق كبيرة في انتهاكات الحقوق الاساسية للانسان، وتعرضت فيها بعض الجماعات البشرية للابادة الجماعية.
تتناول العدالة الانتقالية التعامل مع العديد من القضايا يدخل ضمنها أعادة البناء الاجتماعي، وتأسيس لجان استقصاء الحقائق، وجبر خواطر الضحايا عن طريق التعويض المادي والمعنوي، واعادة بناء المؤسسات المشبوهة كالشرطة والامن لاعادة التقة فيها من قبل المواطنين.
لا شك ان هذه الاهداف هي ما تحتاجه الدولة الليبية، ففي حديثنا عن ليبيا، نستطيع ان نسترجع دون عناء حجم التهميش الذي وصل اليه شأن الانسان الليبي، وغياب المواطنة، والتجهيل الممنهج، والتسيب المدروس، وهدم الاخلاق، وتحطيم البنية الاجتماعية، ونشر الفساد …. باختصار قل ما “طاب” لك من المساوي، ومهما قلت فانها لا تهبط الى المستوي الذي وضع فيه النظام السابق ليبيا.
نعيد هنا طرح سؤالنا السابق عن شرعية المصالحة: هل ما يحتاج اليه الشأن الليبي هو المصالحة ام العدالة الانتقالية؟ واسمح لنفسي ان اجيب على ضو طرحي السابق الى ان الذي يحتاج اليه الشأن الليبي هو العدالة الانتقالية وليس المصالحة، لان المجتمع الليبي لم يكن في خلاف مع ذاته، وانما كان على خلاف مع النظام، وبانتهاء النظام وزواله انتفت الحاجة الى المصالحة، الا ان مخلفات وتركة النظام المنهار يستوجب النظر الى العديد من القضايا تحت مظلة العدالة الانتقالية.
والحقيقة القضايا التي يستوجب النظر فيها بجدارة تحت هذه المظلة هي قضايا محددة ومعدودة، فلا يجب ان نرفع من شأنها وننفخ في حجمها، من اهم هذه القضايا في تقديري
1. اعادة تأهيل اصحاب المواقف الخاطئة التي ساندت النظام في اخر ايامه، ويجب ان نفترض حسن النية وضيق الافق في مواقفهم، او في اسواء الحالات الطمع او الخوف.
2. تعويض المتضررين من قرارت النظام السابق الذين صودرت املاكهم عنوة.
3. النظر بعين العطف الى من انتفع بقرارت النظام السابق تحث ضغط الحاجة، كقرار البيت لساكنه وما الى ذلك من القرارت الجائرة.
4. لا يجب ان يشمل العطف من استولى على املاك الغير بقصد التملك والاثراء.
5. تشكيل لجان للنظر في الممارسات غير المسئولة لقوى الامن، واقصد بالممارسات غير المسؤلة تلك الممارسات التي تصدر عن رجل الامن ضد المحتجز، دون امر صادر يستوجب التنفيد.
6. اعادة اعمار المدن المتضررة من الحرب.
على ضوء هذا الطرح، يحق لنا ان نتسأل: هل اللقاءات المشبوهة بين على الصلابي واحمد قذاف الدم بعلم المجلس الانتقال، تقع ضمن احد الاطارين السابقين، اطار المصالحة واطار العدالة الانتقالية؟. والجواب ايضا بالقطع، لان الجماعة التي يتم الاتصال بها هي جماعة مجرمة مطلوبة للعدالة. كان الاجدر للمجلس الانتقالي ان لا يتوقف عن المطالبة بتسليم هؤلاء الاشخاص الى العدالة، وان تعذر تسليمهم بسبب الاعذار التي تسوقها تلك البلدان التي تؤيهم، فمن الممكن للمجلس ان يطالب بمحاكمتهم بالمحاكم المحلية لتلك الدول بشرط وجود اشراف دولي على سير محاكمتهم.
انني اضم صوتي الى شرفاء هذا الوطن في دعوة المجلس الانتقالي لتوضيح هذا الامر، بل يجب عليه ان يراعي حق الناس الذين توجوهم اوصياء عليهم في معرفة ما يجري في الخفاء.
والله من وراء القصد
احمد معيوف
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً