(1) عنوان القصيدة: التفات.
(2) قال الشاعر في هذه القصيدة، وهو كل ما سمعناه منه:
لأني كرهت الآن، والآنُ ضيــق… يحاصرني ما بعـده فهو أضيـــــق ويشغلني عن لحظتي أن لحظتي… سراب وما في لحظتي ما يصــدق ويعجبني في الذكريات سخاؤها… إذا شحت الأوقات، في الذهن تغدق وآخيــت كل الفاتنــــات لأننــي… أخاف إذا غامرت في الحـب أخفـق ومن تهمتي كانت براءة تهمتي… وقد يبرئُ المرءَ القميـصُ الممـزق ولكــن لي سـرا صغيـراً كتمته… وأني سباني في الحدائق زنبــــــــق.
(3) لغة القصيدة: بقراءة الأبيات السابقة يمكن ملاحظة أن الشاعر قد كتب قصيدته بلغة عربية فصحى سليمة خالية من الأخطاء النحوية والصرفية.
(4) البحر الذي نسجت عليه القصيدة: بتقطيع أبيات القصيدة نجد أنها نسجت على بحر الطويل، وهو بحر ينتمي إلى دائرة “المختلف” وكل دائرة من دوائر الشعر تضم أو قل ينتج عنها عدد من البحور.
ويمكن أن يأخذ وزن هذا البحر شكل التفعيلات الآتية: فعولن مفاعلين فعولن مفاعل … فعولن مفاعلين فعولن مفاعل.
(5) يقصد بالتقطيع كتابة القصيدة بالخط العروضي، وهذا الخط يكتب على أساس النطق وليس على أساس قواعد الإملاء، ثم يترجم إلى ساكن ومتحرك ليكتشف المرء (وخاصة المبتدئي) البحر الذي كتبت عليه القصيدة من بين ستة عشر بحراً. ولكن من يمارس هذا الفن يصبح بالخبرة قادراً على اكتشاف البحر بمجرد قراءته لأحد أبيات القصيدة دون حاجة لأي تقطيع، ومن ثم اكتشاف أي خلل في وزنها.
(6) تأخذ أوزان بحر الطويل عدة أشكال وقد ارتاح الشاعر للوزن ذي العروض المقبوضة والضرب المقبوض. ويقصد بالقبض حذف ثاني السبب الخفيف الممثل بحرف الياء في مفاعيلن لتصبح مفاعلن. ويقصد بالسبب الخفيف ما كان متحركاً بعده ساكن تمييزاً له عن السبب الثقيل المكون من حرفين متحركين. لذلك فقد كتبت التفعيلات آنفاً بمراعاة حالة القبض.
(7) بحر الطويل يعد من البحور المركبة فهو كما رأينا يتكون من تفعيلتين تتكرران أربع مرات في كل بيت. ورغم أن هذا البحر يتميز بقدرته على استيعاب مختلف أغراض الشعر (من مديح، وهجاء، وغزل، ورثاء، …الخ) إلا أنه ليس من البحور السهلة التي يمكن لأي شاعر أن يكتب عليها مثل بحر الكامل أو الوافر أو الهزج أو الرجز. وعلى سبيل المثال فقد وصف فيلسوف الشعراء أبوالعلاء المعري في “رسالة الغفران” بحر الرجز بأنه “حمار الشعر” لأنه سهل يمكن لأي شخص أن يمتطيه. لذلك فإن اختيار الشاعر أبي حجر لبحر الطويل، ونجاحه في نسج قصيدة لا تشتكي كسراً في الوزن، يدل دلالة واضحة على استيعابه لأحكام التفعيلات، وعلى قدرته العروضية، علاوة على قدرته اللغوية.
(8) فلسفة القصيدة ومعانيها: يتطرق الشاعر إلى قضية فلسفية تتعلق بعنصر الزمن وسرعة حركته التي تشبه البرق الخاطف فالشاعر وإن لم يذكر البرق إلا أنه قال معناه فقد وصف “الآن” بأنه ضيق لأن “الآن” عبارة عن لحظة سرعان ما تمر ونجد أنفسنا في لحظة غيرها، ولذلك فقد عبر عن كرهه لهذا “الآن” الذي هو لحظته ووصف لحظته بانها سراب وأنها من سرعة مرورها لا يكاد يصدق ما تأتي به هذه اللحظة من معلومات ربما لأنه لا يجد خلالها أي فرصة للتفكير أو إعمال العقل. إن ما جعل هذا “الآن” بهذا المستوى من الضيق هو التزاحم الذي يخلقه الذي “ما بعده” وهو المستقبل، الذي لم يذكره بالاسم لكنه واضح، فيحاصره لينتهي “الآن” أي لتنتهي تلك اللحظة فيحل محلها المستقبل تباعاً. لكن المستقبل ليس فيه فسحة للتفكير الواقعي فهو أيضاً ضيق بل أضيق من “الآن” إذ يأتي في شكل لحظات متتالية كل واحدة منها في حجم “الآن” أو أقل حجماً لذلك قال عنه “فهو أضيق” ثم يلتفت الشاعر إلى الوراء، معبراً عن مضمون عنوان قصيدته “إلتفات” لينظر للماضي الواسع الرحب بما يحمله من ذكريات خصبة تجود عليه بكل ما يطمح إليه من معلومات نقلتها الأجيال عن الأجيال. لذلك نرى الشاعر يصف في صورة إبداعية في غاية الجمال، هذا الماضي من خلال الذكريات بأنها ذكريات سخية، فقال: “ويعجبني في الذكريات سخاؤها” والذكريات هي التاريخ هي الماضي هي كل العلوم التي عرفها الإنسان منذ بدء الخلق، وهي متاحة لكل من يبتغي أن ينهل منها، بل هي التي “تغدق” أي تجود عليه بهذه المعارف، عكس ما يفعل “الآن” وما يفعل “المستقبل” من بخل معرفي، لذلك قال: “إذا شحت الأوقات” وهي جملة اعتراضية والتقدير: ويعجبني في الذكريات سخاؤها كونها في الذهن تغدق وتجود بكرم المعارف عندما تبخل أزمنة الحاضر والمستقبل بأن تجود علينا، وهما المقصودان بكلمة “الأوقات” الشحيحة. عليه فإن “الذكريات” وهي بهذا الكرم والسخاء هي مصدر إعجابنا. ثم يمضي الشاعر في وصف نفسه بالترفع والتعفف عن ترف النساء ووصفهن بالفاتنات لكنه كان مؤدباً فقال “آخيت” ولم يقل “عاديت” كما كان متواضعاً فوصف نفسه بالجبن لأنه يخاف من المغامرة وهو وصف يتفق تماماً مع كرهه للحظة الحالية فهو قد قال لنا منذ البداية إنه كره”الآن” وكره المستقبل “ما يعده” الذي يحاصره، إذ لا ينسجم منطقياً أن يكره الآن والمستقبل ثم يدعي أنه مغامر. وفي هذا السياق يصف نفسه بالبراءة من أي تهمة وقد أعاد لنا من فيض الذكريات وجودها مشهداً من قصة نبي الله يوسف عليه السلام الذي برأه القميص الممزق. ثم يلتفت الشاعر مرة أخرى إلى الذكريات، ليخبرنا ويبوح لنا بسر كان قد كتمه، ربما كي لا نتهم أبا حجر بأن قلبه من حجر، ليقول لنا أن جمال الزنبق في الحديقه كان قد استهواه وتعمق في قلبه، وقد يرمز الزنبق في هذه القصيدة إلى كل ما أحل الله للناس من زينة الحياة.
(9) إنشاد القصيدة شاهدت محاولة لإنشاد هذه القصيدة، وقد تكون المحاولة جيدة، لكني أود التذكير بأن بحر الطويل يمكن إنشاده بنفس الطريقة التي ينشد بها الليبيون في مناسبات المولد النبوي ما يعرف بتخميس القصائد الوترية ذلك أن تلك القصائد معدة على أوزان هذا البحر. وهذه الطريقة لها عدة أنواع من التلحينات بعضها السريع وبعضها البطيء. لذلك يمكن إنشاد هذه القصيدة بأكثر من طريقة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً