في القرن التاسع عشر حدث أن سائحا من إحدى مقاطعات الدولة العثمانية البعيدة عن لبنان وصل إلى بيروت عبر البحر، وكان يرغب بزيارة القدس، فاستأجر من “مكاري” حماراً ليمتطيه في رحلته، وسافر برفقة المكاري (المكاري بلغة بلاد الشام هو الذي يقتني الحمير للنقل والإيجار).
عند الظهر ترجل السائح عن ظهر الحمار ليتغدى هو صاحب الحمار، وكانا قد وصلا إلى إحدى القرى الساحلية قرب صيدا، وإذ لم يجد مكاناً ظليلاً فأراد أن يجلس في ظل الحمار فمنعه المكاري وقال: “أنا أجّرت الحمار، لكنني لم أؤجر ظله، بل احتفظت به لنفسي”.
قال السائح: “ولكن ظلّ الحمار هو من توابعه، ولا يمكن فصله عنه، ويحق لي أن أتمتع به”، واحتدم الجدال بين الرجلين وتطوّر إلى مشاحنة وشجار.
فهرع عدد من رجال القرية وفصلوا بين الرجلين، وعندما علموا أن موضوع الخلاف بينهما هو “ظلّ الحمار”، تنطّح أحدهم فقال: “أنا أقول إن ظل الحمار هو حق من حقوق مستأجر الحمار”.
فانبرى له رجل من الجانب الآخر وقال: “لا بل إن الظل لصاحب الحمار”.
فأيّد بعض الحاضرين رأي الرجل الأول، وتحمس آخرون لرأي الثاني، وبدأ النقاش وحمي الجدال، وما لبث أن تطور الى مشاتمة وشجار واقتتال بين رجال القرية.
عندئذ امتطى السائح الحمار وانصرف برفقة المكاري، فيما بقي أهل القرية يتقاتلون حول قضية “ظل الحمار”.
هذا الواقع اللبناني الذي يُؤرخه الكاتب الراحل سلام الراسي في أحد كتبه عن التراث الشعبي، وهو في واقع الحال لا يزال مستمرا إلى اليوم، فإذا كانت مجازر العام 1860 وقعت بسبب أشكال بين أطفال من طائفتين مختلفتين، وتطورت إلى حرب طائفية، فلا يمكن استغراب اليوم كيف لا يزال أطراف الطبقة السياسية اللبنانية لم يتفقوا على انتخاب رئيس للجمهورية، وإبقاء غالبية المؤسسات الرسمية شاغرة، بل الأغرب من ذلك أن حادثة “ظل الحمار” يمكن إسقاطها على غالبية الدول العربية التي وقعت في فخ عدم الاتفاق على مشروع دولة، ما تسبب بحروب أهلية مستعرة إلى اليوم، فيما تحولت شعوبها وقودا للمتصارعين على فتات، وليس من أجل مصلحة بلادهم.
لهذا ليس اللبنانيون وحدهم المهزومون، بل إذا أجلت النظر في هذه الأمة لرأيتها كلها ترفع رايات الفشل، وبالتالي فإن فيروسه استحكم بنخبها من المحيط إلى الخليج، وبالتالي فإن ما يعيشه لبنان اليوم، وما مر به من أحداث وحروب طوال الخمسة عقود الماضية، والمستمرة حتى الساعة، وربما إلى المستقبل البعيد، ينطبق على العرب أجمعين، الذين سيشربون من الكأس ذاتها، لأنهم لم يدركوا أن الدولة ليست في زعامة فلان، أو شخصية علتان، بل في المجتمع ككل، وتعاونه، وأي خروج عن هذه القاعدة تعني الفوضى.
نحن أمة لا نتعلم من الدروس الماضي، ولا تجارب الآخرين، لهذا لم يتعلم اللبناني من استمرار الفراغ في مؤسسات الدولة، ولا تعلمت الشعوب العربية معنى العمل بروح المجتمع كله، والتعاون بين أفراده، لأن الفرد تربى على الأنانية، فكل منا، كعرب، يتصور أن نظافة الشارع ليست من واجباته، لهذا يرمي أوساخه فيه ويحرص على نظافة منزله فقط، فيما إذا زار أي دولة غير عربية، أول ما يتغنى به الشوارع النظيفة، وجودتها.
اللبناني نموذج للعربي الآخر، لهذا لا يمكن الخروج من المأزق اللبناني إلا بعودة العرب إلى المفكر العربي التاريخي عبد الرحمن بن خلدون، والتمعن بما قاله عن خراب الدول، ولأننا نقرأ مقدمته، ولا نعمل بها سنظل نختلف على “ظل الحماظر”.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً