لقد كان من شيمات العرب الأوائل فى الجاهلية الصدق والفزعة والنخوة والكرم يوفون بالعهد ولا يغدرون بإبن العم والصاحب والرفيق ولا يخونون الجار ولا ينتهكون الأعراض حتى ولو كان فى غزواتهم التى إشتهروا بها قبل الإسلام، فالإعتداء على الأعراض كان لديهم من أكبر الكبائر ويعتبرون ذلك خسّة ونذالة، وكانوا يتمعنّون فى وضعهم الجاهلى ويتفكرون فى حياتهم وغير راضين عنها ومنهم من كان يُجاهر ويُعلن ويردد نحن على كفر وضلال وهذه الحياة لم نُخلق فيها سُدّى نحيا وتنتهى حياتنا بالموت دون أن يكون لنا خالق نعبده ورسالة نؤديها ونحاسب على ما تقترفه أيدينا من خير وشر فى حق الغير وحق أنفسنا .. وما جاء على لسان قس إبن ساعدة الإيادى إلا خير دليل على التفكير فى خالق السموات والأرض أى أن الإسلام والإيمان بالواحد الأحد كان يراودهم دائماً وقد ورد هذا الإحساس فى شعرهم ورواياتهم وعلى ضوء ذلك رأيت أن أسرد هذا الموضوع بأن أذكّر بما جاء على لسان قس إبن ساعده حيث قال بكل تجرّد وتمعّن فى الحياة.
أقول … قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم : فسألهم سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام عن قس إبن ساعده وكان يعلم بأمره ((ما فعل قس بن ساعدة))؟ … قالوا:: هلك يا رسول الله. فقال : الحبيب المصطفى وهو لا ينطق إلا بالحق ((كأني أنظر إليه بسوق عُكاظ يخطب الناس على جمل أحمر( ويقول…:
أيها الناس ، اسمعوا وعوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت ، ليل داج ، ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة ، وأرض مدحاة ، وأنهار مجراة ، إن في السماء لخبراً ، وإن في الأرض لعبراً ، ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون ، أرضوا بالمقام ، فأقاموا أم تركوا فناموا ، يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه إن لله ديناً هو أرضى له وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه ، إنكم لتأتون من الأمر منكراً ، ثم أنشأ:
في الذاهبيـن الأولـــين ** من القرون لنا بصائـر
لما رأيت مـوارداً للموت ** ليـس لهـا مصــــــادر
ورأيت قومــي نحوهــــا ** يمضي الأكابر والأصاغـر
لا يرجــع الماضـي إلي ** ولا من الباقين غابـر
أيقنت أي لا محالة ** حيث صار القوم صائر
يقول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم (من ستر مُسلماً ستره الله يوم القيامة) وكم من مُسلماً يكون فى أمس الحاجة لأن يستُره الله فى ذلك اليوم العصيب ولا شك أن ما يُطلق عليها الرفقة أو الصُحبة من أجل تحقيق هدف سامى مثل القضاء على الظلم والإستبداد أو تخليص وطن من براثن طاغية كما حدث لدينا فى ليبيا بتحريرها من الإستعمار الإيطالى على يد أجدادنا الشرفاء الذين رفضوا الإستعمار وما قام به الأحفاد بإسقاط دكتاتور لم يسبق له مثيل فى العصر الحديث.
أقول … لقد كان سيدى عمر المختار الشهيد البطل ومن خلال المئات من المعارك التى دارت رحاها وعلى مدار عقدين من الزمن أو يزيد ، يحترم رفاقه المجاهدين ويذكر محاسنهم وقتالهم فى ساحات الجهاد ولم يُعرف عنه أنه كشف عن أسرارهم وتصرفاتهم أو تطرق إلى مساوئهم أو أساء بالهمز واللمز لأحد من رفاقه وكان يعلم جيداً من خلال مايُسمى (مجموعة الإستخبارات والتتبع) لأدوار المجاهدين من أن هناك القليل جداً ممن يتصل بالعدو أو يستلم منه هبة أو عطية نتيجة للظروف القاسية والفقر والجوع إلا أنه كان يُعالج مثل هذه المواقف بحكمة وعقلانية ولم يُشهّر بأحد من أتباعه ورفاقه مهما كانت الظروف ، وقد ذكر لى المرحوم المناضل / عبدالرازق شقلوب قبل وفاته رحمه الله بأن هناك مُخبراً للطليان يسكن فى مدينة درنه كان ينقل معلومات عن الأدوار الجهادية إلى الطليان نتيجة لعمله معهم حيث تضرر الكثير من المجاهدين بسببه .. ولكن الشهيد عمر المختار بعث له ثلاثة من المجاهدين وأوصاهم بعدم المساس به وطلب منهم أن ينصحوه بالقول (أترك ما تفعله حتى لا تبتلى بغضب الله ورسوله فى الدنيا والآخرة ) وعندما ترصّد له إثنان منهم وقابلاه وهو فى حالة سُكر .. قال أحدهما للثانى ما رأيك نُجهّز عليه ليدخُل النار ولكن الآخر رد عليه نحن جئنا بأمر من سيدى عمر ولا نُخالف أمره ولعل الله تعالى يُهديه ويبعده عن أفعاله التى إن لم يتركها ستودى به إلى جهنم وبئس المصير هذه هى أخلاق المختار ورفاقه ولا شك أنها أخلاق الإسلام وقيمه التى أعز بها المسلمين.
أيها السادة .. الكلام له معنى فمنذ أن كان إنقلاب القذافى ومن معه خرجت علينا وجوه لم تكن معروفة أبداً ولم يكن لها تاريخ فى فترة الجهاد الوطنى ضد العدو الإيطالى ولم يكن لهم دوراً فى العهد الملكى ، فقد كانوا عبارة عن أشخاص عسكريين محدودى الثقافة والخبرة السياسية ومن صغار السن يقودهم شخص من أنصاف المتعلمين تنكّر لنضال الشعب الليبى ورجالاته ونصّب نفسه زعيماً على شعب طيب لا زال يتلمّس طريقه ومستقبله ففرحة أولئك القياصرة الصغار فاقت كل الحدود وأنستهم أن فى الوطن رجال ناضلوا وكافحوا ولولا كفاحهم ما وصلوا هم إلى سدة الحكم ولكنهم تأبوا وتفرعنوا وإغتصبوا دولة برلمانية دستورية ذات سيادة إحترمها العالم بأسره لديمقراطيتها وإدارتها الحكيمة فأفسدوا فيها وضيّعوا إنجازاتها وجهّلوا شعبها وجعلوا منها دولة فاسدة فى ذيل قوائم دول العالم تقودها عصابة من لصوص وسُرّاق وقتلة.
هذا الأمر جعل من شرفاء الوطن وأحراره ومناضليه يُعيدون الحسابات السياسية والإجتماعية فمنهم من واجه الطاغية وزبانيته منذ الأشهر الأولى بالإنقلاب عليه عسكرياً وهم ممن ساعدوه فى الإنقلاب المشئوم ومنهم من كانوا يحملون أفكاراً لإيدولوجيات حزبيه مختلفة ولكنهم لم يكونوا منظمين أو مدعومين من أحد وكانت آخر محطة لديه هى التجمعات الطلابية المؤثرة على الساحة الإجتماعية التى إستطاع إخماد صوتها فى سنة 1976م وبعدما أصبحت حركة العصيان العسكرى والمدنى تتضاءل شيئاً فشيئاُ ، بدأت سنوات العذاب فى الداخل لدرجة تحولت ليبيا إلى (سجن كبير) وعندما فُقد الأمل فى القضاء عليه ، هاجر من هاجر وهُجّر من هُجّر وسُجن من سُجن أما من تواجدوا فى الداخل فقد آثروا السلبية المطلقة ، وهكذا هى نضالات الشعب الليبى التى لم تهدأ ولم تنحنى وكم من شهداء قضوا فى سُجون القذافى وكم من شرفاء أغتيلوا فى دول العالم وكم من وطنيين حُرموا من حقوقهم المشروعة وطُردوا من الجامعات حيث أصبح الظلم والإستبداد والقهر سمة من سمات نظام القذافى المُستبد ، مؤامرات ومذابح وسجون ، ولكن هناك فئات من الشعب الليبى تجمعت فى أوروبا وأمريكا مُعلنة معارضتها للنظام ولكنها لم تكن مؤثرة التأثير الذى يُهز أركان النظام على مدى أربعة عقود سوى ما أقدمت عليه الجبهة الوطنية للإنقاذ التى يُسجل لها قوة نضالها وشجاعة أعضائها الذين وصل بهم الأمر إلى الدخول على الطاغية فى عقر داره وهم يطاردونه بالسلاح والإرادة والعزيمة وضحوا بأرواحهم من أجل تخليص الوطن .. أما غير ذلك فقد كانت معارضتهم لا ترقى إلى مستوى المُعارضة فهى مجرد كتابات فى الصحافة الإلكترونية والورقية بأسماء مستعارة أو فتح مواقع معارضة للطعن فى البعض من أتباع النظام أو كشف عوراتهم وأسرار عائلاتهم الشخصية وهذا لا يرقى إلى مستوى المعارضة الحقيقية والفعلية.
أستميحكم عذراً للإطالة ولكننى أود التنبيه على أن نشر الغسيل لرفاق الأمس من قبل رفاقهم وكشف عوراتهم وأسرارهم وإتصالاتهم بالنظام السابق عندما كانوا فى أوروبا وأمريكا وغيرها كما شاهدناهم على إحدى القنوات منذ أيام .. أعتقد أن ذلك تصرفاً لا يليق بعد الثورة الحقيقية للشعب الليبى ، لأن كشف أسرار الساسة الجدد الذين وصلوا للكراسى اليوم عن طريق الإنتخاب لن يكون فى صالح بناء الدولة الليبية فالمواطن الليبى يكفيه حزن على أبنائه الذين إستشهدوا من أجل تحرير الوطن ولا نريد مجاملة بعضنا البعض بقولنا أننا نسينا أو تناسينا شهدائنا الأبطال فدموع الأمهات والزوجات والأخوات لن تتوقف أبداُ حتى تُقام الدولة الليبية وترد المظالم لأهلها ويصدر دستورها أمام العالم ذلك الدستور الذى جنىّ عليه القذافى بإنقلابه فى سنة 1969م.
ولهذا نناشدكم أيها الساسة الجدد بالتوقف عن كشف خفاياكم وأسراركم ودعوا بعضكم يعمل من أجل ليبيا إذا كانت لديكم إرادة قوية وهذا بعيد الإحتمال !! وليس من أجل الكراسى التى تتصارعون عليها وإلا أتركونا فى حالنا وأرحلوا أنتم وأيدولوجياتكم وأحزابكم فقد سئمنا من كذبكم ومُلاسناتكم لبعضكم .. وأعلموا أن لصبر الشعب الليبى الطيب حدود ويبدوا أننا رضينا بالهم والهم موش راضى بينا كما يقال ،، فنحن شعب مُسلم بالفطرة ولسنا فى حاجة لمن يُسمون الإخوان ليُعلموننا كيف نُصلى أو كيف نصوم أو كيف نتعلم أحكام ديننا أو كيف نسيّر أنفسنا ، وإيدولوجيتهم التى إتخذوا منها سُلماً للوصول إلى السلطة والمال وقد كان لهم ذلك ، فى ظل الفوضى السياسية … ولسنا فى حاجة إلى بلعطة العلمانيين والليبراليين وأسلوبهم فى التنويم المغناطيسى للشعب الذى يُصدّق كل ما يُقال !! ولذلك لزاماً عليكم أن تضعوا بين أعينكم أنكم فى إنتهاجكم لهذا الأسلوب الهزلى الإنتهازى لن تحكموا ليبيا ولن تتسلطوا كما فعل القذافى ولن تكون أحزابكم مكاتب (لجان ثورية جديدة) تُصدر صكوك الغفران لتولى منصب أو جلوس على كرسى أو إيفاد لطالب أو الحصول على قرض بناء ، ولن تتغلغلوا فى مفاصل الدولة على حساب دماء الشهداء وأنتم الذين كنتم فى آخر طابور المجاهدين بالجبهات ترفعون شعار الخروج على ولى الأمر حرام. أفلا تتذكّرون وتتفكرون.
وأخيراً أقول لكم … إتقوا الله فينا يا من إن علمتّم بخير عن بعضكم (تُخفوه) وإن علمتُم شراً عن بعضكم (أذعتموه) وإن لم تعلموا شيئاً عن بعضكم (كذبتُم) بصحة وجه مكشوف وعلى عينك يا تاجر.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً