التفاوت في جودة أو في سوء خدمات النظم الصحّية من بلد إلى بلد كان فاضحا جدا خلال التعبئة الخاصّة التي تطلّبتها وما زالت جائحة الكورونا. فالهوّة كبيرة ما بين خدمات الطبابة في البلدان الغنية المتطورّة والبلدان الفقيرة.
ففي حين تتطوّر مستشفيات شمال الكرة الأرضية وتقدّم خدمات جديدة توّاقة إلى الأفضل، تتقهقر خدمات مستشفيات الجنوب الفقير بدل المحافظة على استقرار خدماتي مقبول.
إنّ “الطبّ المنزلي Home care” ليس إلّا مثالا حسّيا إلى أين وصلت عصرنة خدمات الرعاية الطبية في الغرب.
فحينما تصلك خدمات المستشفى إلى قلب المنزل بلا عناء البقاء في مراكز الطبابة لحين التعافي الكلّي، لهو تقدمة مميّزة تُبسِّط يوميّات المريض وتُنْعِش نفسيتَه لأنّه لم يبق لأشهر طويلة مستلقيا في المستشفى بمنأى عن عائلته.
مبدئيا، تعود بدايات فرصة توفير خدمة “الطبّ المنزلي” إلى التجربة الأميركية التي أطلقها Ephraim Michael Bluestone مع مطلع عام 1947 في مستشفى Montefiore في نيويورك، بحكم أنّه كان مديرا عليها طيلة 22 عاما.
أُلْحقت التجربة الأميركية بالتجربة البلجيكية التي شهدت في 27 ديسمبر 1950 صدور مرسوم ملكي أدّى إلى الاعتراف التشريعي بالطبّ المنزلي وسمح بتمويل خدمات الرعاية الطبّية في البيت.
أمّا في فرنسا، بزغت فكرة “الطبّ المنزلي” لأوّل مرّة في عام 1951 على يد الطبيب الفرنسي Fred Siguier، من داخل مستشفى Tenon. تبعه في هذه المغامرة نظام “المساعدة العامة-مستشفيات باريس l’Assistance publique – Hôpitaux de Paris (AP-HP) الذي أسّس أولى خليّات العمل في الطبّ المنزلي عام 1957 بمساعدة من مستشفيات Tenon و Saint-Louis.
وتمّت المصادقة على مشروع “الطبابة في المنزل (HAD) Hospitalisation à domicile” بموجب المادة 4 من القانون رقم 70-1318 المؤرّخ بتاريخ 31 ديسمبر 1970 ضمن إطار قرار إصلاح المستشفيات القاضي: “بإمكانية تمديد خدمات المستشفيات إلى المنزل، بشرط موافقة المريض أو أسرته…”. هذه المادة من قانون إصلاح المستشفيات كانت بمثابة الاعتراف الرسمي بشرعية العمل في قطاع الطبابة المنزلية داخل الأراضي الفرنسية.
وبعد مرور 50 عاما على تشريع فرنسا عمل الأطبّاء والممرّضات والمهنيين العملاء في الأنشطة والتمارين المحددة في خطة العلاج المنزلي، يزداد الطلب على خدمة “الرعاية الطبّية المنزلية” لما لها من أهداف نبيلة نوجزها في النقاط التالية:
وضع جميع البرامج التأهيلية الجسمانية والنفسيّة بتصرّف المرضى لاستعادة عافيتهم وهم بمحيط عائلتهم.
الوقاية من إصابة المرضى بإنتانات عائدة إلى أمراض جرثومية التقطوها أثناء إقامتهم الطويلة في المستشفى.
تعزيز شعور الأمان والاطمئنان للمرضى في منازلهم دون الحاجة للتواجد في المستشفى بعد استقرار وضعهم الصحّي.
تجنيب أقارب المرضى مشقّة الزيارات الخاصّة ضمن مواعيد استقبال الأهالي.
تخفيف نسبة المراجعات في المستشفيات وأقسام الطوارئ في سبيل الاستفادة من خدمة استشفائية بمقدور “الطبّ المنزلي” تنفيذها في بيت المريض.
تسهيل خدمات حصول المحتاجين من المرضى على “أجهزة طبية” يعجز البعض عن تأمينها بالتنسيق مع القطاعات الحكومية والخاصة والمؤسسات الخيرية.
التوصّل إلى تقليص نفقات تشغيل المستشفيات.
منع تكرار دخول المستشفى من قبل المسنّين وذوي الأمراض المزمنة.
يستفيد من خدمات “الطبّ المنزلي” فئات كثيرة من المرضى هي تلك الخارجة من عمليات جراحية أو الحالات المتقدّمة في مرض السرطان أو المصابين بقصور القلب الحادّ وبمشاكل الجهاز التنفّسي وبجروح داء السكّري وبقرحة الفراش.
كما أنّ مرضى الصحّة النفسية والمصابين بأمراض مزمنة أخرى يستطيعون الحصول على خدمات الطبابة المنزلية، مثلهم مثل المصابين بحوادث السيارات وإصابات تروما الرأس.
فضلا عن أنّ “الاستشفاء المنزلي” يقدّم الرعاية التلطيفية لمرضى السرطان ويتحكّم بآلام الخارجين من العناية المركّزة وبآلام كبار السنّ والمصابين بأمراض مزمنة، يقدّم إرشادات خاصّة بالتغذية السليمة والرشيدة ويوجّه الأسرة لتحضير وجبات طعام متوازنة وصحّية تتماشى مع الوضع الصحّي لكلّ مريض على حدة.
علما أنّ قبول الأطبّاء لملفّات المرضى الخاضعين لإشراف “الطبّ المنزلي” يتحكّم به معايير خاصة تختلف طبيعتها من بلد إلى آخر. أمّا أبرز هذه المعايير فهي أن يتمّ تحويل طلب المريض إلى الرعاية الصحية المنزلية من قبل الطبيب المُعالج في المستشفى وأن يكون عنوان سكن المريض على مسافة 50 كيلومتر من مبنى المستشفى، إذ لا تزيد المدّة الزمنية للوصول إليها عن نصف ساعة عبر السيّارة.
ومن بين المعايير الهامّة نذكر أيضا ضرورة توفير بيئة منزلية مؤاتية لحصول المريض على الرعاية الصحية داخل المنزل، شرط أن يكون المستفيد منها يُشرف عليه بصفة دائمة أحد أفراد أسرته بحسب مانقلت إذاعة “مونت كارلو”.
اترك تعليقاً