الصبر سيد الأخلاق، ورفيق الدَّرب، والطريق إلى الإمامة في الدِّين، والفوز العظيم، وما من خُلقٍ من الأخلاق الفاضلة إلاَّ وهو يرجع إلى الصَّبر، فالصبر أساس الأخلاق الحميدة، وبذر الخير، وجماع الأمر، وأصل كلمة الصَّبر هي: المنـع، والحسن، فالصبـر حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكيِّ، والجوارح عن لطم الخدود، وشقِّ الجيوب. وحقيقة الصَّبر: خُلقٌ فاضل من أخلاق النفس، يُمتنع به من فعل ما لا يحسن، ولا يجمل. وهو قوَّةٌ من قوى النفس؛ التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها.(الحاشدي،2003، ص197).
وكان صلاح الدين ـ رحمه الله ـ صابراً على مُرِّ العيش وخشونته، مع القدرة التامة على غير ذلك، وكان مثلاً رائعاً في الصبر، والاحتساب في ميادين الجهاد، وتلقي الصَّدمات، والمصائب، يقولك القاضي ابن شدَّاد: ولقد رأيته بمرج عكَّا؛ وهو على غاية من مرض اعترضه بسبب كثرة دمَامل، كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه، بحيث لا يستطيع الجلوس، وإنما يكون متكئاً على جانبه إذا كان في الخيمة، وامتنع من مدِّ الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس، وكان يأمر أن يُفرَّق على الناس، وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريباً من العدو، وقد رتَّب الناس ميمنةً، وميسرةً، وقلباً تعبية القتال، وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب، ومن العصر إلى صلاة المغرب؛ وهو صابر على شدَّة الألم، وقوَّة ضَرَبان الدَّمامل، وأنا أتعجب من ذلك، فيقول: إذا ركبتُ يزول عني ألمها؛ حتى أنزل، وهذه عناية ربَّانية! ولقد مَرِض ـ رحمه الله ـ ونحن على الخرُّوبة، وكان قد تأخر عن تلِّ الحَجَل بسبب مرضه، فبلغ ذلك الفرنج، فخرجوا طمعاً في أن ينالوا من المسلمين شيئاً ـ بسبب مرضه ـ رحمه الله ـ وهي نوبة النَّهر، فخرجوا في مرحلة إلى الابار التي تحت التلِّ، فأمر هو ـ رحمه الله ـ بالثَّقَل حتى تجهز للرَّحيل، والتأخُّر إلى جهة النَّاصرة، وكان عماد الدين صاحب سنجار متمرضاً أيضاً، فأذن له، حتى يتأخَّر مع الثَّقَل، وأقام هو.
ثمَّ رحل العدوُّ في اليوم الثاني يطلبنا، فركب على مَضَض، ورَتَّب العسكر للقاء القوم تعبية الحرب، وجعل طرف الميمنة الملك العادل، وطرف الميسرة تقي الدين، وجعل ولده الملك الظاهر في القلب، والملك الأفضل، ونزل هو وراء القوم، وأوَّل ما نزل من التلّ أحضر بين يديه إفرنجي قد أسر من القوم، فأمر بضرب عنقه، فضُرب عنقه بين يديه بعد عرض الإسلام عليه، وإبائه عنه، وكلَّما سار العدو يطلب رأس النهر هو يستدير إلى ورائهم، حتى يقطع بينهم، وبين خيامهم، وهو يسير ساعة ثم ينزل يستريح، ويتظلَّل بمنديل على راسه من شدَّة وقع الشمس عليه، ولا ينصب له خيمة حتى لا يرى العدو ضعفاً، ولم يزل كذلك حتى نزل العدوُّ برأس النهر، ونزل هو قبالتهم على تلٍّ مطلٍّ عليهم إلى أن دخل الليل، ثم أمر العساكر المنصورة أن عادت إلى محال المصابرة، وأن يبيتوا تحت السِّلاح، وتأخر هو؛ ونحن في خدمته إلى قمَّة الجبل، فضربت له خيمة لطيفة، وبتُّ تلك الليلة أجمع أنا، والطبيب نمرِّضه، ونشاغله، وهو ينام تارةً، ويستيقظ أخرى، وأحدقت بالعدو، ورحل العدو عائداً إلى خيامهم من الجانب الغربي من النهر، وضايقه المسلمون في ذلك اليوم مضايقةً شنيعةً.
وفي ذلك اليوم قدَّم أولاده بين يديه احتساباً: الملك الظاهر، والملك الأفضل، والملك الظافر، وجميع مَنْ حضر منهم، ولم يزل يبعث مَنْ عنده؛ حتى لم يبق عنده إلا أنا، والطبيب، وعارض الجيش، والغلمان بأيديهم الأعلام، والبيارق لا غير، فيظن الرائي لها عن بُعد أنَّ تحتها خَلْقاً عظيماً، وليس تحتها إلا واحدٌ يُعَدُّ بخلقٍ عظيم، ولم يزل العدو سائراً، والقتل يعمل فيهم، وكلَّما قتل منهم شخص؛ دفنوه، وكلَّما جُرح منهم رجلٌ؛ حملوه؛ حتى
لا يبقى بعدهم مَنْ يُعلم قتله، وجرحه، وهم سائرون، ونحن نشاهدهم، حتى اشتدَّ بهم الأمر، ونزلوا عند الجسر، وكان الإفرنج متى ما نزلوا إلى الأرض؛ أيس المسلمون من بلوغ غرض منهم؛ لأنهم يحتمون فيث حالة النزول حمايةً عظيمة، وبقي في موضعه، والعساكر على ظهور الخيل قبالة العدوِّ إلى اخر النهار، ثم أمرهم أن يبيتوا على مثل ما باتوا عليه، وعدنا إلى منزلنا في الليلة الماضية، فبتنا على ما بتنا عليه إلى الصباح من مضايقة العدوِّ، ورحل العدّو، وسار على مضض من القتل، والقتال، حتى دنا إلى خيامه، وخرج إليه منها من أنجده؛ حتى وصلوا إلى خيامهم. فانظر إلى هذا الصبر، والاحتساب، وإلى أيِّ غاية بلغ هذا الرجل!.(ابن شداد،2003،ص82)
قال القاضي ابن شدَّاد: ولقد رأيتُه ـ وقد جاءه خبر وفاة ولدٍ له بالغ، أو مراهق يُسَمَّى إسماعيل، فوقف على الكتاب، ولم يُعرِّف أحداً، ولم نعرف حتَّى سمعناه من غيره، ولم يظهر عليه شيءٌ من ذلك سوى: أنه لما قرأ الكتاب؛ دمعت عينه.(ابن شداد،2003،ص83)
ولقد رايته ليلةً على صَفَد وهو يحاصرها؛ وقد قال: لا ننام الليلة حتى تُنصب لنا خمسةُ مجانيق، ورتَّب لكل منجنيق قوماً يتولَّون نصبه، وكنَّا طوال الليل في خدمته ـ قدَّس الله روحه ـ في ألذِّ فكاهةٍ، وأرغد عيشةٍ، والرُّسُل تتواصل، فتخبره بأن قد نُصب من المنجنيق الفلاني كذا، ومن المنجنيق الفلاني كذا، حتى أتى الصباح وقد فُرغ منها، ولم يبق إلا تركيب جنازيرها عليها، وكانت أطول الليالي، واشدَّها برداً، ومطراً! ولقد رأيته؛ وقد وصل إليه خبر وفاة تقي الدين عمر ـ ابن أخيه ـ ونحن في مقابلة الإفرنج جريدة على الرَّملة، وفي كل ليلة تقع الصيحةُ، فتُقلع الخيام، والناس تقف على ظهرٍ إلى الصَّباح؛ ونحن بالرَّملة، والعدو بيازور وبيننا وبينها شوط فرس لا غير، فأحضر الملك العادل، وعلم الدِّين سُليمان ابن جندر، وسابق الدَّين بن الدَّاية، وعز الدين المقدَّم؛ وأمر بالناس قطرُدوا من قريب من الخيمة، بحيث لم يبق حولها أحدٌ زيادةً عن غلوة سَهْم، ثم أظهر الكتاب، ووقف عليه، وبكى بكاءً شديداً حتى أبكانا، من غير أن نعلم السبب ثم قال ـ رحمه الله ـ والعبرة تخنقه: توفي تقي الدِّين. فاشتدَّ بكاؤه وبكاء الجماعة، ثم عدت إلى نفسي، فقلت: استغفروا الله تعالى من هذه الحالة، وانظروا أين أنتم، وفيم أنتم وأعرضوا عمَّا سواه ؟! فقال ـ رحمه الله ـ:
نعم، استغفر الله. وأخذ يكَرِّرها، ثم قال: لا يعلم بهذا أحدٌ، واستدعى بشيءٍ من الماورد فغسل عينيه، ثم استحضر الطعام، وحضر الناس، ولم يعلم بذلك أحد؛ حتى عاد العدوُّ إلى يافا، وعدنا نحن إلى النَّطرون، ، هومقرُّ ثقلنا.(ابن شداد،2003،ص84)
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، دار المعرفة، بيروت، 1429ه-2008صص 204-206
بهاء الدين بن شدَّاد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية تحقيق أحمد إيبيش، دار الأوائل سوريا، الطبعة الأولى، 1424ه 2003 م.
فيصل الحاشدي، الأخلاق بين الطبع والتطبع، دار الإيمان، الإسكندرية،1423ه-2003م
عبد الله ناصح علوان ،صلاح الدين الأيوبي بطل حطين و محرر القدس من الصليبيين، دار السلام، القاهرة، 1422ه-2001
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً