صعد الخليفة عبدالملك بن مروان المنبر وخطب قائلا: “ما أنصفتمونا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر، ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر.. قال تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) نسأل الله أن يعين كلا على كل”.
يطرح الخليفة الأموي حتمية التناسب الطردي بين الحاكم ورعيته، فما يحجبه ظاهر العبارات هو أن الحاكم ليس ملاكا هبط على الناس من السماوات، وليس قادما من زمن ذهبي مضى، تميز بعدالة حكامه، وورعهم، وحرصهم على رضا الناس، بل هو نبتة بزغت ونمت وتكونت في نفس الوسط الذي تمارس فيه الرعية حياتها.
ويُؤيد ابن القيم هذا الرأي بقوله عن الرعية: “أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم، ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم”.
فالسلطة هي نتاج السياق السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي تظهر فيه، فإذا كانت في مرحلة ساد فيها الورع والتقوى في القلوب، ولم يتمكن الطمع من النفوس، وحفظ الناس الأمانة، وحرصوا على الالتزام الديني أو الأخلاقي، أو بعنصر الخوف من العقاب المادي أو المعنوي، ستفرز المرحلة حكاما وولاة يسيرون على ميزان العدل، فلا يستولون على المال العام، ولا يستحوذون على امتيازات خاصة بهم، ولا يمكنون أقاربهم وخاصتهم من المناصب والمسووليات، وبالعكس، إذا كان الزمن هو زمن النهب، وضياع الحقوق، وتفشي الظلم، والاستباحة دون رادع، فإن الحاكم الفاسد سيكون ثمرة هذا الزمن من دون أي عجب أو ارتياب.
في الحالة الأولى سيقف الناس بحزم ضد أي تجاوزات من السلطة، وسيكون لهذا الموقف تأثيره في الحد من تجاوزات السلطة، وفي الحالة الأخرى لن يصل مستوى الاعتراض إلى حد دفع السلطة إلى التراجع عن الفساد، لأن الغالبية سوف تمارس هذا الفساد، إذا سنحت لها الفرصة، تستبيح المال العام، وستغض بصرها عن نهب اتباعها وعمالها، وستمكن أقاربها وخدمها من المناصب والمهام التي توفر المزايا والحياة المرهفة.
تبدلت الحكومات على مدى العقود الماضية، في زمن ما قبل الثورة وما بعدها، ولم تتراجع معدلات الفساد، مسلسل النهب والمخالفات مستمر بشهادة تقارير محكمة محلية ودولية، لأن الخلل لم يكن في نوعية الأفراد الذين صعدوا للسلطة، وإنما في منظومة إدارية، وواقع اجتماعي قابل لإنتاج الفساد.
إزاء ما تكشفه تقارير مؤسسات الرقابة، ووسائل الإعلام، وناشطون نذروا أنفسهم لكشف الفساد ومكافحته، تضج الميديا بالصراخ والشكوى، وتمتص السلطة بعض الغضب بالإعلان عن تشكيل لجان متابعة ومحاسبة، وبعد أسبوعين أو نحوهما، تهدأ العاصفة، وتنتهي الضجة، ويسود الهدوء، وتنسى قصص الفساد وآثارها، ويبقى الفاسدون في مواقعهم، مستمرين في ممارسة فسادهم، لا محاسبة حقيقية، ولا نبذ اجتماعي، بل لعل من تغص باسمائهم صفحات التقارير الرقابية يحظون بالتقدير والاحترام، ويتم تكريمهم ويحتفى بهم، بينما يطوي النسيان والإهمال الشخصيات التي وصلت للسلطة ثم غادرتها، وتعففت عن ممارسة الفساد، ولم تمكن أقاربها من المناصب، وأبعدت بطانة السوء، وسارت في ممارستها للسلطة بنزاهة وطهارة يد.
إذا فلنواجه الحقيقة بكل شجاعة، ولنعترف بأننا قابلون للفساد، وأن سياقنا السياسي والاجتماعي والثقافي خصب لإنتاج الفساد، وأن القضاء على الفساد أو الحد منه، وهذا أضعف الإيمان، لن يتحقق بتغيير الحكومات، فقد أضحى شجرة عملاقة تمد جذورها في الأعماق، فأزاحة الفاسدين ستفسح الطريق لأخرين لن يكونوا أقل فسادا ممن سبقهم، وإنما لابد من مشروع شامل يقوم على دراسات علمية محكمة، تشخص مواضع العلل بدقة وموضوعية، وتقترح الحلول المناسبة، لنجثث هذه الشجرة الملعونة، وننشئ سياقا مختلفا لا تنبت فيه من جديد.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً