لا شك أن التباين في تقييم المنظومة العسكرية الليبية الحالية من أكبر الأسباب التي تؤجج الحرب في معظم المناطق الليبية، والتي تتارجح بين وجود جيش وطني عرمرم بقيادة اللواء خليفة حفتر، وبين الإعتراف بتشظي القوة العسكرية إلى مجموعات مسلحة مقاتلة لا رابط لها.
جذور المشكلة أن ليبيا لم يكن لها جيش كما في الجزائر أو سوريا، ولم يكن لها مؤسسة عسكرية كما في مصر. جذور المشكلة أن الجيش الليبي بدأ جهويا (جيش السنوسي)، حيث أنشأ الملك جيش برقة في مصر في 9 أغسطس 1940م وكان مساندا لجيوش للحلفاء في حربهم ضد المحور من أجل إزاحة الإستعمار الإيطالي. في العهد الملكي لم يكن الجيش من أولويات الدولة فتأجير القواعد العسكرية لبريطانيا وامريكا كان كفيلا لإيراد دخل للدولة وحماية لها، وكان جل التركيز على القوة المتحركة و قوة البوليس لحفظ الأمن. بعد إنقلاب 69 الذي قام به صغار الضباط، وأصبح ما تبقى من كبار الضباط قابعا في السجون أو مُهجر في الخارج. أما وأن إعتلى عرش ليبيا ضابط مفوه في الخطابة صغير الرتبة صغير السن، فإنه أصبح مثلاً للمهمشين وللعاطلين عن العمل القاطنين في الضواحي (هلال حول طرابلس وآخر حول بنغازي)، وبذلك إنخرط ألاف الشباب إلى الجيش، ثم زيد لهم المتخلفين عن الدراسة في المدارس الإعداية، والموظفين ضمن برنامج التدريب العسكري العام بداية من سنة 1973م حتى نهاية الثمانينات، هولاء لم يتم تأهيلهم أو الإهتمام بهم، بل قضوا جل وقتهم تحت أشجار المعسكرات منتظرين نهاية الدوام أو نهاية الشهر للحصول على المرتب الهزيل.
خلال السبعينات والثمانينات لم تتوقف البعثات العسكرية للضباط، ولكن إلى أين؟ كانت جل البعثات إلى الكثلة الشرقية مثل كازان في روسيا وبرنو في تشكوسلوفاكيا وبلغراد في يوغسلافيا، وكانت الدراسة في معظمها مخصصة لليبيين بترجمة عربية ركيكة، مع تفشي الفساد بشتى صوره وأنواعه، مما لم يساعد على تكوين شخصيات عسكرية قوية لها القدرة على قيادة المؤسسات العسكرية. كان التسابق على الرتب والنياشين، وكان ذلك متاح للجميع حتى أصبح في ليبيا ما يقارب 23 ألف ضابط في جيش قوامه 70 ألف. على مستوى التمويل ضاعت ميزانية الجيش والدولة في شراء السلاح لدعم الحروب الإقليمية من تسليح البوليزاريو إلى تسليح إيران إلى تدفق الأسلحة على مصر في حرب أكتوبر إلى حرب تشاد وأغندا، وأخيرا هدر الأموال على مشاريع صورية مثل مشروع الفاتح للصواريخ وشاهين والفجر ومجمع الرابطة الكيماوي. هذه الحروب كان ضحاياها من أفراد المؤسسة العسكرية، حيث قضي على 10 ألاف مجند في تشاد و600 في أغندا وبضع مئات في حرب مصر.
بعد قصف أمريكا لطرابلس في سنة 1986م تغير الجيش من سئ إلى أسواء، وإتجه ناحية الولاء الشخصي للقذافي, فكان هجوما لاذعاً على الجيش التقليدي، تم التعبير عنه في مقال شهير بالزحف الأخضر ” الجيش حشيش وطيش” وتحويل المؤسسة العسكرية إلى لجنة مؤقتة للدفاع، حيث توقفت طائراتها وخرمت أسلحتها، وتوقفت مصانعها، وأصبح أبناء العقيد لكل منهم كتيبة بعد تخرجهم من الكليات العسكرية، مع الإستبقاء على الحرس القديم في جهاز اللإستخبات الممثل في الأمن الداخلي والخارجي.
بعد إنقضاء حرب تشاد، زرت أحد القادة العسكريين البارزين، في مكتبه بقاعدة معيتيقة، فلم أرى سوى التهميش وسؤ الحال وضيق ذات اليد، وهكذا كانت معاملة نظام القدافي للشرفاء من قادة الجيش الليبي.
جيش النظام وكتائبه الأمنية تم بنائها على عقيدة عسكرية سقيمة ممثلة بالأوامر الثابتة التي تهدف إلى إدامة النظام من خلال ربط مصير الدولة الليبية بمصير قائد الجماهيرية، وهو ما نلاحظ إمتدادا له في المجموعات العسكرية المتقاتلة. بعد ثورة 17 فبراير دخل المدنيون أتون المعركة ضد الكتائب الأمنية، وتمنع العسكريون النظاميون عن اللإنضمام إلى أي من الجانبين، ووجد المغامرون ضالتهم في إنشاء مليشيات مسلحة بعد توقف القبضة الأمنية للنظام السابق، فكان جيش برقة لدعم الفيدرالية، وجيش جضران لتمكين قبائل المجابرة من النفط، وجيش حفتر لتنصيبه حاكما على البلاد، وجيش عيسى عبد المجيد لإستعدة حقوق التبو، ومليشيات الصواعق والقعقاع للمحافظة على مكاسب بعض أبناء الزنتان، وجيش أنصار الشريعة لتمكين شرع الله، وجيش القبائل لإعادة نظام الجماهيرية، وجيش فجر ليبيا للمحافظة على مكاسب 17 فبراير. وهذا يوضح البون الشاسع بين أبناء الوطن نحو بناء الدولة الليبية، فلكل منهم منهجاً للتعبير عن كيفية بناء الدولة وشكلها النهائي.
بحق لا يوجد جيش ليبي الآن، فهو فتات كما وصفه أحد قادة الكرامة، رغم وجود أعداد تزيد عن 115 ألف يتقاضون رواتبهم من المؤسسة العسكرية، منهم 74 ألف في الدروع، وممن يعملون بعقود، وجلهم من العاطلين عن العمل أو أصحاب الأعمال الحرة، أو لهم أكثر من عمل كما ثم الكشف عن ذلك عند إستعمال الرقم الوطني. ورغم قيام رئاسة الأركان بعقد أكثر من 6 ندوات ومؤتمرات عن تفعيل الجيش، ومشاركة الكثير من الخبرات المحلية والأجنبية في وضع خطط لذلك فإن الأمر لم يجد طريقا له، ويقتصر دور وزارة الدفاع على توزيع الرواتب لمنتسبيها، وهم في تناحر في جبهات ساخنة، تحت مظلة قبلية أو جهوية. وخلاصة القول أن بناء الجيش من جديد يحتاج إلى جهود كبيرة من أجل الحل السياسي ثم إستثباب الأمن، ثم حل مشكلة الثوار، يلي ذلك إعادة تنظيم الجيش على أسس جديدة وعقيدة عسكرية جديدة، وهو ما يستغرق من سبعة إلى عشرة سنوات من بداية الثورة الشعبية العارمة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً