انتهى لقاء باليرمو ولم ينته الجدل حوله.
شكوك كثيرة أُبديت قبل انعقاده، وشكوك أخرى بدأت تظهر حول ما مدى امكانية تطبيق مخرجاته.
التجربة الفرنسية لا تزال حاضرة في كافة التعليقات والتحليلات وفشل مخرجات باريس في مايو الماضي قاعدة يَبني عليها الكثيرون رؤيتهم وآراءهم حول مخرجات باليرمو.
الآراء المشككة في نجاح ما قد يتم التفاهم عليه من انعقاد المؤتمر الجامع في الأسابيع الأولى من يناير القادم ومن بعده إجراء الانتخابات في الربيع من نفس العام كثيرة ومتشعبة ومنها ما يُزجّ به لخلق مزيد من الغموض والشكوك والارتباك.
تلك الآراء تَطرح جملة من التساؤلات الهامة منها:
مكونات المؤتمر الجامع ..على أي أساس سيتم اختيارهم؟
كيف يمكن الذهاب الى انتخابات في ظل حكومتين وقوى أمنية متوازية شرقا وغربا وجنوبا ومليشيات هنا وهناك خارج نطاق السيطرة عليها؟
هل سيتم تجاوز الأجسام الثلاثة الحالية أم الجسمين التشريعيين فقط؟
ما هي القاعد القانونية أو الدستورية التي سيتم بموجبها اجراء الانتخابات .. وكيف يتم انجازها؟
اسئلة كثيرة تطرح ويتم تداولها وهي اسئلة مشروعة لابد من مراعاتها.
لقاء باليرمو لم يخرج عن إحاطة المبعوث الأممي الى ليبيا يوم 8-11-2018 أمام مجلس الأمن بل كانت الإحاطة هي أرضيته وسقفه الذي جاء تأييداً لها بحشد رؤساء دول ضالعة في التدخل السافر في الشأن الليبي ليكونوا شهود عيان على إلتزام الأطراف الليبية بتعهداتهم وتأييدهم بأن الحل للمشكلة الليبية لن يكون عسكرياً وإلتزامهم بخارطة الطريق التي قدمها غسان سلامة مؤخراً والأهم أن لا يحدث منهم عن طريق بيادقهم في الداخل ما يمكن أن يشوش أو يعرقل العملية الانتخابية أو يعرضها للخطر.
في تقديري أن المؤتمر الجامع الذي سينعقد في يناير 2019 سيتبنى توصيات الـ 77 لقاء تشاوري لمختلف الفعاليات الليبية من مختلف الاتجاهات والتيارات دون اقصاء لأحد، وسيكون حضوره من ممثلين عنها الى جانب شخصيات وتيارات و أحزاب سياسية ومؤسسات من المجتمع المدني وربما حضور تشريفي لكل من مجلسي النواب والدولة. وهؤلاء جميعا سيشكلون ما يمكن أن أطلق عليه ” طريق التعايش السلمي بين الليبيين” لانقاذ بلادهم من الانهيار ولن يكون دور المؤتمر البحث في تفاصيل الأزمة الليبية وانما اعطاء تأييد للتوصيات التي أحيلت له من اللقاءات التشاورية.
ولسوف نسمع اعتراضات من بعض الذين يعترضون عليه أو الذين لم يدعون لحضوره وسيصفونه بأنه مؤتمر الوصاية والعمالة وبغيرها من النعوت الشائنة.
ما أكده الدكتور غسان سلامة أن المؤتمر الجامع ليس بديلا ولن ينتج بديلا تشريعيا وفي تقديري انه أشبه ما يكون بالمجلس الوطني الانتقالي الذي تشكل بالتوافق عام 2011 وليس بالانتخاب للتعبيرعن ارادة الليبيين في التغيير للأفضل ولا نية لدى البعثة الأممية تجاوز الأجسام الحالية. ما يعني أن مهمته القادمة هو التوفيق ولم الشمل بين مجلسي النواب والدولة المتصارعين لتغليب مصلحة الوطن على مصالحهما بمعني التعاون مع البعثة الأممية في تنفيذ خارطة الطريق التي أعلن عنها كتمهيد للدخول الى المرحلة الدائمة وأن يلعبا دورا ايجابيا يحسب لهما كمجهود وطني خالص منهما للتقدم بالبلاد خطوة مهمة للأمام بالتوافق فيما بينهما بعيدا عن التمترس حول أهداف وهمية تطيل أمد الأزمة وتعطل بناء الدولة لو أصرا على الاكتفاء بتغيير المجلس الرئاسي ما يعني سنتين أخرتين أو أكثر من نفس المعاناة.
في تقديري أن المهمة ليست سهلة وإن كان التفاؤل بها وبجدواها كبيرين في الشارع الليبي والخشية أن تتخللها صعاب مختلقة من نوع (كلمات حق يراد بها باطل) فالتجارب علمتنا بأنه ما أن يتم التفاهم والتوافق بين الفرقاء حتى تعود الأمور الى المربع الأول من الجدل. وهذا ما حدث بعد التوقيع على اتفاق الصخيرات فقد عصفت به المماحكات من الذين تفاهموا ووقعوا عليه كذلك حدث لما سمي بتفاهمات باريس وايضا محاولات توحيد السلطة العسكرية.
عمل شاق ومعقد وصعب ستواجهه البعثة الأممية ستواجه بما لم يخطر على بالها أو على بال المتفائلين أو أنها ستواجه صعوبة في تراتبية خطتها، بمعنى: هل ستبدأ بإيجاد حل للأساس الدستوري أولا أم ستلتجئ الى توفير أساس قانوني كمرحلة أولى للمضي قدما في خطتها استنادا الى الاعلان الدستوري وقانوني 29 و 30 اللذين أقرهما المجلس الوطني الانتقالي وعلى اساسهما تم انتخاب المؤتمر الوطني العام؟
مسألة الدستور معقدة وقد ساهم مجلس النواب في خلق هذا التعقيد فهل ستقبل بقية الأطراف قانون الاستفتاء على مشروع الدستور الذي صمم على أساس تقسيم ليبيا الى ثلاثة دوائر للتحقق من رفضه مسبقا؟!
مسألة الانتخابات الرئاسية ليس وقتها الآن لأنه من الصعوبة بمكان الاستفتاء بنعم على مشروع الدستور فهذا ما يريده البعض وهو ما يرفضه البعض الآخر خشية أن يتولى الرئاسة شخصية عسكرية غيرت القيافة ولم تغير التفكير والمنهج والأسلوب والطموح؟ ولو تم هذا الأمر فان تقسيم البلاد وارد رؤية العين المجردة.
من الأولويات التي يجب أن تكون من ضمن مخرجات المؤتمر الجامع حسب قناعتي أن يوصي بإحالة مشروع الدستور إلى الجسم التشريعي الجديد للبث فيه وذلك إحتراما للناخب الليبي وللهيئة التأسيسية التي بذلت جهودا شاقة لاخراجه لحيز الوجود.
لكن الأهم من ذلك كله هو الاجابة على السؤال الحائر: كيف يمكن أن تجرى انتخابات تشريعية في ظل هذا الانقسام؟
علينا أن نشخص هذه الحالة فالانقسام موجود بين السلطات الحاكمة وليس بين عامة افراد الشعب ومن أوجد وعمق هذه الاتقسامات أفراد معدودين في شكل ساسة متعصبين أو مكونات عسكرية أو ميلشياوية لديها طموح سلطوي عارم وجميعهم يأتمرون بأوامر دول خارجية وهذه حقيقة يعلمها الجميع بدون استثناء وعليه، فان مجلس الأمن الدولي الذي يملك حقائق ودقائق التدخلات من دول اقليمية وغيرها موثقة في تقارير لجانه فانه يعتبر متواطئا ان لم يكن شريكا ومؤيدا لهذه التدخلات لأنه يعلمها جيدا وتغاظى عنها طيلة السنوات الماضية بدون أسباب معلنة. ومن ثم فانه ما لم يحزم مجلس الأمن أمره بالزام الدول التي وردت في تلك التقارير بالوقف الفوري في دعم ميليشياتهم وبيادقهم فان جهود بعثته الى ليبيا ستكون عبثية بالمطلق وبالتالي وان البدء في تنفيذ خارطة الطريق التي وافق عليها ستكون محاولة بائسة مصيرها مصير الاتفاق السياسي الذي اغتيل في المهد.
لو تم الضغط على الدول المتدخلة في الشأن الليبي بكف أيديهم عنا والزام كافة الأطراف المتصارعة بحماية العملية الانتخابية والاعتراف بنتائجها فان امكانية اجراء انتخابات ستكون متوفرة وهذه مسألة تحتاج لارادة دولية حازمة وليست ارادة حولاء تنظر للأمور بازدواجية غريبة!!
لا اتصور أن دولا تغدق المال والسلاح والمستشارين على عناصر ليبية عميلة لها لتخدم أغراضها وفي العلن تتبجح بأنها تبذل جهودها لتحقيق الاستقرار ووحدة الشعب الليبي وأراضيه وأنها تدعم الحل السلمي للأزمة الليبية، هذا نفاق سياسي بامتياز لا ينطلي على عاقل.
لا أستطيع أن أفهم ما يقولون الا في اطار دحرجة الأزمة الليبية ليتقلص عدد الخصوم ليتفاهم القليل مما تبقى منهم على مناطق النفوذ في ليبيا هذا هو السيناريو الذي أتصوره بعيدا عن ارادة الشعب الليبي الرافض للتدخلات الخارجية ولمبدأ عسكرة الدولة والهيمنة عليها ولم يجد في بعض سياسييه ترجمة لهذه الارادة. فأين يقف مجلس الأمن من هذا الذي سيكون عائقا قاتلا لأي تقدم؟
مسائل مهمة أرى أن تعطيها البعثة الأممية أهمية بالغة قبل أن تباشر في عقد المؤتمر الجامع في يناير من العام المقبل. وأهم هذه الخطوات:
ضرورة كبح جماح الاعلام المضلل باصدار كراسة شروط يعاقب بموجبها بالغرامة والمنع أي وسيلة اعلامية فضائية أو صحيفة الكترونية أو منصة في وسائل التواصل الاجتماعي تسعى الى التشويش على ارادة الشعب الليبي في اختياراتهم القادمة ببث خطاب الفتنة أو الكراهية أو التحريض أو التشكيك أو التوظيف السيء للأخبار منتهكة بذلك الفضاء الليبي الذي هو ملك للشعب الليبي واعتبار ذلك عملا عدوانيا لا يختلف عن أي انتهاك أو اعتداء على الحدود والأراضي الليبية قاطبة.
على مجلس الأمن أن يحدد موقفه بوضوح من التدخل في الشأن الليبي استنادا لما متوفر لديه من تقارير رصدت وحددت الدول المتدخلة في المسألة الليبية بالسلاح والمال والاعلام.
هناك تحديات كبيرة ستواجه ما يمكن أن يصدر عن المؤتمر الجامع في يناير القادم .. وهي تحديات لآمال وارادة الليبيين وما لم تحدد هذه التحديات وتوضع الحلول المسبقة لها فاننا سندحل نفقا جديدا من أنفاق المتاهة المظلمة وقد يزداد الوضع تعقيدا لا قدر الله.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً