الجزء الثاني من مقال (بعد النعجة دُولّي.. واشنطن تعيد استنساخ الصدام “البغدادي – الأربيلي” في ليبيا!!)
لا توجد حكومة في العالم اليوم لا تدرك أن ليبيا هي مشكلة دولية جامعة، تورط كل العالم تقريبا عبر مجلس الأمن الدولي، والأمم المتحدة، وتحالف الأوديسا بإسقاطها وصناعة النزاع المسلح فيها، ووضعها، على الرغم من قوة وحدة شعبها وكفاءة كوادر وخبراء الإدارة العامة فيها، تحت الوصاية الأجنبية الخالصة، في واحدة من أبشع عمليات خيانة واستصغار النظام الدولي للدول الضعيفة، وذلك بتحويل هذا النظام لتدخله الأجنبي في ليبيا باسم حماية المدنيين، إلى نظام بشع للوصاية الأجنبية، سرعان ما طوره إلى احتلال أجنبي أشد بشاعة للبلاد، ما يعني أن ليبيا يجب أن لا تخضع بصورة أحادية لا لواشنطن ولا لندن ولا لغيرهما من الدول، حيث يُفترض – وبموجب القانون الدولي نفسه الذي نُحرت به ليبيا – أنه لا شأن لأي دولة بالتدخل الفردي فيها لتشكيل أي شأن من شؤونها على هوى ومصالح هذه الدولة، وعلى أي نحو كان.
هل كان يمكن لواشنطن أن تكون أكثر تقديرا بعيون الليبيين!؟
رغم أن تدخل واشنطن في ليبيا بصورة أحادية لإجبار الليبيين على إصدار قانون ميزانية يعد انتهاكا خطيرا لمبدأ خضوع ليبيا لوصاية مجلس الأمن برمته، إلا أنه لكم كان كثيرا من الناس (ليبيين وأجانب)، سيتفهمون، بل وسيرحبون (بموقف) واشنطن من مساعدة الليبيين على امتلاك “ميزانية انتقالية”، لو أن هذا الفعل قام على مساعدة الليبيين على حيازة “ميزانية انتقالية” وليست تقليدية. ولو أن فرض هذه الميزانية لم يجر بصورة أمريكية أحادية تعود لحماية مصالح أمريكية وليست ليبية، ولو أن هذه الواشنطن مررت إصدار قانون هذه الميزانية عبر مجلس الأمن الدولي لكونه هو صاحب الوصاية الحصرية على ليبيا، وبتيسير من الأمم المتحدة، باعتبارها تجمعُ بين كونها وكيلة لمجلس الأمن الدولي بتنفيذ وصايته على ليبيا، وبين كونها أضخم جهاز فني في العالم سبق له وأن شارك بإعداد الكثير من “الميزانيات الانتقالية” لدول خرجت لتوها من حروب أهلية ونزاعات مسلحة.
كما أنه لكم كان الليبيون سيكونون ممتنين أيضا لواشنطن، لو أنها أعلنت بحيثيات تبريرها لضرورة تمكين الليبيين من حيازة (ميزانية انتقالية)، مساعدة لليبيين على مواجهة أشد القضايا بأسا عليهم بتأجيج فوضاهم (وللعلم هي جميعها مخلوقات أمريكية) وهي: تمويل برامجهم الحكومية لأكثر من عقد كامل بقاعدة 1/12 التي باتت سمعتها بالبلاد أسوأ من سمعة هتلر، وضمان تحقيق العدالة التمويلية بإيجاد السبل المناسبة لتدفق التمويلات الحكومية نحو كل المواطنين والمناطق والجهات، بتوازن لا يرهن الحق المواطني بتلقي التمويلات الحكومية بمزاج وابتزازات المصالح الحكومية، أو بأهواء وموجات غضب حاكم البنك المركزي من هذا الطرف أو تلك المدينة أو الجهة، ولكم كان هذا العمل الأمريكي سيلقى تقديرا واسعا من الليبيين لو أن واشنطن أعلنت بأنها تريد توجيه هذه الميزانية الانتقالية، لمساعدة الليبيين على أمرين جوهريين، أولهما تزويد الميزانية الانتقالية ببند يحقق تمويل المفوضية العليا للانتخابات لنفسها بنفسها، طالما أن ليبيا معطلة برمتها بسبب عرقلة القوى الأجنبية لهذا الاستحقاق، الذي صورته واشنط لليبيين والعالم، على أنه التحول الاستراتيجي الأهم و الأعظم بحياة الليبيين وبصناعة استقرار بلادهم، وذلك لدعم قدرة المفوضية على حماية نفسها ضد كافة أنواع الضغوط التمويليلة التي يمكنها الإضرار بالعملية الانتخابية، وهو ما كان يمكنه طمئنة الليبيين بوجود نية مخلصة وإصرار صادق لدى واشنطن على مساعدة الليبيين على إجرائها، وأما ثاني هذين الأمرين، فهو إنهاء التغول والطغيان المليشيوي على الأموال العامة وخاصة بالحالات التمويلية الطارئة التي ارتبطت بانفجار صدامات اختلالات توازن الرعب بين المليشيات، وأثناء مواسم الصراع على السلطة، التي تتحول فيها مصادر المال العام في كل مرة، إلى بورصة منهارة على رأس الشعب، لشدة ما يفقد فيها من أموال عامة تغدق على إغواء السلطة للمليشيات وشرائها لذمم أمرائها.
بيد أن الروح الإمبريالية الأمريكية وإصابة واشنطن بمتلازمة دك الأنف بالأوحال، وخاصة تلك التي تصنعها بيديها، قد انتهت في ليبيا مؤخرا إلى إنتاج واشنطن وبصورة أحادية لـ”ميزانية تقليدية” لليبيين تحت توجيه وضغوط الـCIA والأجهزة الوطنية الأمريكية وعلى رأسها وزارة خزانتها، وبدلا من مساعدة واشنطن لليبيين على حيازة ميزانية انتقالية تساعدهم على إعادة السيطرة على عدد من محركات الفوضى التي يغرقون فيها، فإن العكس تماما هو ما ذهبت إليه بفرضها لـ(ميزانية تقليدية) على البلاد، كما لو كانت ليبيا اليوم هي الكويت أو مالطا، وليست الدولة التي عاثت فيها واشنطن والأوديسا فسادا على امتداد ما يقارب العقد ونصف، وعليه فقد كان من الطبيعي أن تكون هناك صعوبة كبيرة لدى أي خبير طبيعي بتصور وجود أي معايير شرعية أو فنية أو أخلاقية أو قانونية، يمكن لواشنطن أن تعتمد عليها بتوزيع أو إهدار أموال الليبيين على حكومتين متعاديتين عداء لا ينقصه إلا إعلان الحرب بينهما، ما يعني أن هذه المعايير، التي قام عليها تقدير واشنطن لحاجة الليبيين لميزانية تقليدية ومعايير توزيعها على الحكومتين، والتي ما تزال تبقيها حبيسة صدرها، ستكون مثل معايير ستيفاني وليامز المجهولة التي اختارت بها أعضاء برلمانها الموازي الذي جاء بحكومة الدبيبة، والتي يبدو أنها كانت مخجلة هي الأخرى حد أن وليامز ظلت عاجزة حتى يوم مغادرتها ليبيا عن الإفصاح عنها رغم إلحاح الكثير من الليبيين عليها لمعرفتها.
سر الاستعجال الأمريكي باصطناع ميزانية ليبية في الربع الثالث من العام!؟
ولعل الفعل الأكثر غرابة وشبهة بعلاقة مع هذه “الميزانية التقليدية” التي فرضتها واشنطن على الليبيين قهرا، إنما هو إجبارها لعقيلة صالح على إصدار قانونها بالربع الثالث من هذا العام، وهو نفس التوقيت الذي كادت فيه ميزانيات الدول المحترمة أن تنفد، ولا يمكن لعجلة واشنطن هذه ذات الطابع البالغ الغرابة بفرض ميزانية تقليدية على الليبيين ولمدة هي أقل من نصف عام، أن تكون ذات صلة إلا بمصالح أمريكية خالصة، وتحديدا بتطور الوضع الروسي في ليبيا، خاصة وأن هذا الوضع كان قد لامس فعلا (بالنسبة لمصالح واشنطن الإقليمية) مستويات جديدة من الخطورة خلال الخمس شهور الأخيرة الجارية، حيث إنه لو كان هذا الجنون الأمريكي المفاجئ بالحرص على امتلاك الليبيين لميزانية كان وراءه مراعاتها لمصلحتهم وليس لمواجهة عواقب رأتها وخيمة على مصالحها في ليبيا والمنطقة، وخاصة لجهتي طباعة موسكو لأموال ليبية وحاجة واشنطن العاجلة جدا لفرملة اندفاع الرجمة نحو إتمام زواجها الكاثوليكي مع موسكو، لكانت واشنطن إما أنها ضغطت على الليبيين لإصدار قانون ميزانية ابتداء من أول هذا العام، وإما أنها تركت الليبيين ليتموا التمويلات الحكومية لعامهم هذا بقاعدة 1/12 التي فرضتها هي نفسها على الليبيين لأكثر من 10 سنوات، وعلى أن تتجه لمساعدتهم على حيازة ميزانية ابتداء من عامهم القادم، خاصة وأنه لم يبق على انتهاء العام الجاري أكثر مما مضى، بيد أن تطورات الوجود الروسي في ليبيا وحاجة واشنطن الماسة لميزانية لتغطي بها نفقات السياسات التي أعدتها لمواجهة هذا الوجود، قد قضت على كل ذرة من صبر واشنطن الاستراتيجي الذي كانت تدعي أنها كانت تتحلى به تجاه كل من موسكو والرجمة.
إن إصرار واشنطن على ابتلاء ليبيا بقانون “ميزانية تقليدية” مشبوهة بهذا الوقت الأكثر اشتباها والظرف الليبي العصيب لشدة ما تعانية البلاد من تشظي وانقسام، وتعاظم تحكم الفساد الرجيم حتى بأنفاس العباد، وتلون أشكال الاحتلالات الأجنبية التي ترزح البلاد تحت وجودها المقرف، لا يعكس سوى رغبة واشنطن بتحويل شبح فيلقها الذي تسميه بالفيلق الأوروبي إلى وحش حقيقي، ليتفرغ بشكل كامل لدفع البلاد بلا ترو ولا رحمة نحو التورط بمواجهات مروعة وواسعة مع القوات الروسية التي تحتل البلاد، وذلك بعد أن توفر لواشنطن ما يكفي من معلومات عن خطورة التطورات المتلاحقه للوجود العسكري الروسي في ليبيا، واصطدامها بحقيقة أنها كلما تأخرت على مواجهة هذا التهديد كلما واجهت مصلحتها الأساسية اليوم، وهي الاستحواذ الكامل على ليبيا، إلى جانب تقدير واشنطن إلى أن أي تأخير بمواجهة الروس وعرقلة تطورهم العسكري في ليبيا، لا بد وأن يضعف من قدراتها على منافسة الروس بليبيا وأفريقيا لاحقا، وزيادة زرع طريقها نحو هذا التنافس بالتحديات والصعاب والتهديدات على المديين المتوسط والبعيد.
كلما اظلمت فتش عن عقيلة!!
ولم تجد واشنطن معولا بين طابورها الليبي، يمكنه أن يقبل استخدامه لتحطيم جماجم الليبيين وهو يبادلها رومانسية المتيم بها، غير عقيلة نفسه، الذي وجدت فيه واشنطن ملاذها الآمن والجاهز دائما ليكون معولها الرئيس بضرب الوجود الروسي في ليبيا، حتى إن هناك من بات يتوقع له مصير بريغوجين نفسه، إن طول بقاء عقيلة في السلطة، والذي يعود الفضل فيه لواشنطن نفسها، بتحويل شرعية عقيلة، إلى شرعية أمريكية (يحلوا لها تسميتها بالشرعية الدولية) عبر التمديد له في الصخيرات وبرلين، وهو ما يدركه عقيلة ويقدره حق تقدير، إلى جانب تأثيرات البيئة السياسية الليبية المتعفنة التي خلقتها واشنطن وما تزال ترعاها باقتدار منذ الـ2011، هما اللذين حولا عقيلة وحاكم البنك المركزي إلى أخطر مصدرين محليين لتهديد وحدة ليبيا واستقرارها، وذلك بعد أن صار كلا منهما مجرد كمبرادور حقيقي (على رأي خوتنا اليساريين) يتمتع بشبكة مصالح معقدة مع قوى أجنبية إقليمية ودولية، وعلى استعداد لأن يفرط لأجلها بكل شيء، ولقد استطاعت واشنطن فعلا بهذين الكمبرادورين مواجهة الروس نقديا أولا، بإلغاء ورقة الخمسين دينار وإصدار قرار تحقير قيمة الدينار الليبي، وإنتاجها ثانيا لميزانية سوداء لحكومتين، سيلعب حاكم البنك المركزي دورا مهما بإخضاعها من جديد لوضع قاعدة الـ1/12، من خلال تحكمه الكامل بحصص ودفعات وأقساط تمويلاتها، وهنا ستكون واشنطن قد أصابت عصفورين ثمينين بحجر واحد، عصفور تخريد مطابع النقد الروسية بواسطة جرجرت الرجمة إلى المشاركة بأموال الكبير، وعصفور رد الإنفاق العام مجددا (من خلال الابتزاز والتسويف) الذي سيمارسه وكيلها في البنك المركزي على فتات تدفقات أقساط الميزانية قبل وصولها لكل حكومة من الحكومتين، ما سيحقق الحفاظ على استمرار البيئة المتعفنة للفساد الرجيم الذي نشرته قاعدة الـ1/12، وأما زمردة أهداف هذه الميزانية اللعينة، فهو استخدامها للعثور على “مقاتل حرب الوكالة” الغائب حتى الآن في ظل انعدام وجود العاملين الطائفي والإثني في ليبيا، وذلك من خلال تخطيط واشنطن للعب دور بارز بخلق وتأجيج الصراعات التي ستنشأ حول توزيعات حصص وأقساط هذه الميزانية بين الحكومتين المتعاديتين، والتي لا بد وأنها قد حضرت لها سياساتها المناسبة.
وكان إن دفعت واشنطن فعلا بـ إريك ماير مساعد وزير خزانتها لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط، ليتولى بنفسه هذه المهمة من خلال إقامته لخلية ومعسكر لهذه المباراة في تونس، وهي المباراة التي قامت خطوتها المركزية، والتي هي هدف واشنطن الأهم من وراء فرض هذه الميزانية على الليبيين، على إقناع الرجمة لتكون شريكا وطرفا بهذه الميزانية، وذلك بهدف الوصول إلى قطع الطريق على موسكو لجهة قدرتها على طبع المزيد من الأموال الليبية، ولقد تحدثت مصادر دبلوماسية عن مباحثات تمهيدية قادتها واشنطن فعلا مع الرجمة وتحصلت فيها على تعهد والتزام هذه الأخيرة – بحال نيلها نصيبها من الميزانية – بعدم التورط مجددا مع موسكو بطبع أي أموال ليبية خارج السلطة النقدية لحاكم البنك المركزي، ولقد قامت هذه الواشنطن فعلا، وحتى تضمن التزام الرجمة بتعهدها، بتوجيه تهديدات شديدة لها بالتعرض للمواجهة العسكرية وتعريض كبار قادتها إلى عقوبات أمريكية وأوروبية، سياسية واقتصادية قاسية، ستتولى الإشراف على فرضها كلا من وزارتي الخزانة والخارجية الأمريكيتين، وذلك فور ظهور ما يؤكد عودة الرجمة إلى التورط بمشاركة موسكو بطباعة أوراق بنكنوت ليبية جديدة.
وبينما يقول واقع الحال الذي تؤيده الكثير من المصادر الدبلوماسية، بأن ما يجري بين الرجمة وموسكو هو زواج كاثوليكي ليس بقدرة الرجمة الانفكاك منه إلا بثمن باهظ قد يطال المس بجوهر نفوذها ومصير قادتها أنفسهم، وربما على طريقة التخلص من بريغوجين أيضا، وهو ما يظهر جليا من وراء حذر الرجمة بتعاملاتها مع المغازالات الأمريكية لها، مقابل انفتاحها الواسع على موسكو، وبينما تصر واشنطن كما عبرت على لسان سفيرتها الجديدة بطرابلس جنيفير جافيتو على اجتذاب الجنرال حفتر إلى صفها بأي ثمن، وتأكيدها على أن واشنطن لن تيأس من استدامة محاولاتها حتى يتحقق لها ما تريد، إلا أن واشنطن قد نجحت فعلا بالمقابل بتعميق هوة الفرقة بين الرجمة والقبة، رغم كل ما يطفوا على السطح من نزهات مشتركة وتبادل ابتسامات صفراء بين (المشير والمستشار)، وذلك بتحويل عقيلة صالح جديا إلى سوستة سروال أمريكاني، حتى أن واشنطن صار بمقدورها إنزال سحاب بنطلونها بسهولة كلما أرادت (التبول) على الليبيين، ومهما كان ماءها حامضا ونجسا ومُعجا بروائح الكحول.
حيث ها هي واشنطن تلقي فضلاتها عبر عقيلة نفسه على الليبيين من جديد، عبر إعادة استخدامه فرديا (وهو ما أكده تصريح للنائب سالم قنيدي اتهم فيه عقيلة بتجاهل النصاب القانوني عند تمريره لقانون الميزانية، متهما عقيلة بالتفرد باتخاذ القرار وبممارسة التدليس والاستبداد بتمرير القانون)، (وكان نوابا آخرين قد سبق لهم من قبل وأن أكدوا أيضا على تجاهل عقيلة للنصاب القانوني عند تمريره لقرار تحقير الدينار الليبي لحساب واشنطن)، ورغم أنه لا أحد يستطيع تبرأة عقيلة من حقيقة تهميشه كليا للبرلمان، وخضوعه الصاغر والمستفز لأوامر واشنطن، إلا أنه من الضروري أيضا الاعتراف بصعوبة معرفة ما إذا كان عقيلة يدرك أم لا، بأن أهم هدف لواشنطن بفرضها لهذه الميزانية هو حاجتها لتمويل حروب الوكالة التي تخطط لإشعالها ضد الروس في ليبيا، في ظل استحالة تمويل فيلقها الأوروبي وحروبه القادمة في ليبيا، من الأرصدة الليبية المجمدة، التي أكدت مصادر مالية روسية أن هذه الأرصدة قد ضاعت وانتهت بإهدار واشنطن لها على تمويل الحرب الأوكرانية، إلى جانب استحالة قبول الكونجرس الأمريكي بتمويل حرب البنتاغون الهجينة في ليبيا، سواء بسبب يقين قادة أمريكا بوجود قادة ليبيين خاضعين لهم كليا حد جاهزيتهم لتحميل هذا الوزر لموارد شعبهم، أو بسبب حقيقة أن الكونجرس الأمريكي يمر اليوم بذروة تورطه بتمويل الحرب المروعة في أوكرانيا وحرب الإبادة الجماعية في غزة، وأنه قد بات يتعثر جديا بهذين التمويلين فما بالك بإضافة ثالث لهما.
كما أنه لا أحد يمكنه الجزم أيضا، بـ إذا ما كان عقيلة صالح يدرك أم لا، بنية واشنطن باستخدم هذه الميزانية بخلق وتأجيج الصراعات الكبيرة التي ستنشأ عن الاجدال والخلافات والفتن التي ستفرخها عمليات تدفق دفعات وأقساط الميزانية بين الطرفين، خاصة وأن تدفق هذه الأقساط وما قد يرافقها من ضغوط وابتزازات واستفزازات وتحرش، ستكون واقعة بين مطرقة التحكم المطلق لحاكم البنك المركزي بتحديد أقساط تدفقاتها ومواعيد الإفراج عنها، وبين سندان تضور واشنطن جوعا لاستغلال أجواء التلاعب بهذه الأقساط باختلاق الفتن والصراعات اللازمة لإشعال وتأجيج حروب الوكالة التي تخطط لإعلانها قريبا ضد الروس في ليبيا، وذلك بحسب أحدث التصريحات الأمريكية، التي جاءت على لسان المسؤول الأمريكي الرفيع ليم ويسلي، على هامش قمة النيتو قبل أيام، وذلك باعتبار أن استخدام الصراع على الثروة في ليبيا يمكنه أن يكون البديل المناسب بل والمميز فعلا بالنسبة لواشنطن بخلق وتأجيج حربها ضد الروس في ليبيا، في ظل بروز مشكلة التجانس الليبي العرقي – الطائفي، الذي يجعل من شبه المستحيل على واشنطن إشعال حروب وكالة طويلة الأجل بالقدر الذي تحتاجه للضغط على الروس للخروج من ليبيا (كما تحلم)، وذلك على ذات الطريقة التي سبق لها وأن تورطت فيها بعدد كبير من الدول المركبة أثنيا وطائفيا إبان النسخة الأولى من حروب الإيديلوجيا الباردة بين الشيوعية السوفيتية والليبرالية الغربية، والتي نجحت واشنطن عبر إشعالها وتأجيج بعضها فعلا بعدد من الدول، من طرد الروس منها، وأشهرها أفغانستان.
هل تهزم “الميزانية الأمريكية في ليبيا” النقاء الإثني الطائفي الليبي!؟
لقد عايشت واشنطن بنفسها النهاية السريعة لحروب الوكالة التي أشعلتها في ليبيا، وأشهرها حرب ما يسمى بفجر ليبيا وحرب أبريل 2019، اللذين سرعان ما انطفأ جمرهما، رغم شدة الاستقطاب والتأجيج الذي استخدمته واشنطن بتأجيج هذين الحربين، وذلك رغم نجاح واشنطن فعلا بنهاية أولهما بتقسيم البلاد الداخلي بظهور أزمة التوازي الحكومي، ونجحت بنهاية ثانيهما بالتأسيس لتقسيم البلاد الخارجي عبر ما باتت تسميه بخط الهدنة، الذي جعلت به البلاد كالكوريتين أو القبرصيتين، وهما الحربان اللذين يعدان على قصرهما (الذي يمكن وصفه بالوميضي مقارنة بأهوال حروب الوكالة الإثنية – الطائفية التي شهدتها الكثير من دول العالم المركبة التكوين) الأطول بتاريخ حروب المليشيات في ليبيا، بل ولقد انتهت الحرب الثانية على ضخامتها بزمن قياسي ملفت بالنسبة لتاريخ كل الحروب الأهلية التي شهدها العالم، رغم أن إشعالها أو التحريض عليها تم بتدخل شخصي ومباشر من كل من ترمب وجون بولتون، اللذين حرضا الرجمة على الهجوم على الجماعات المسلحة في طرابلس، في استنساخ أمريكي مخز آخر لتحريضهم لصدام حسين على غزو الكويت.
ومع ذلك فإن ما يُعمق من حقيقة استمرار وتفاقم الاستهداف الأمريكي لليبيين بتوريطهم بميزانية لن تكون إلا إعلان حرب بينهم، هو أنه يُعد في حكم المستحيل وجود أدنى احتمال لتعرض أو خضوع “ميزانية تقليدية” تُنتج في ليبيا في ظل ظروفها الراهنة لأي ممارسات رقابية أو محاسبية عليها يمكنها أن تُبطل سجالات التأجيج والفتنة التي ستنشأ عن تداول أقساطها بين الطرفين، وذلك في ظل احتماء كل من الحكومتين اللذين تخطط واشنطن لهدر أموال الليبيين عليهما، بقوى مسلحة ضارية لا بد لها وأن تكون شريكة بموارد هذه الميزانية، وربما بحصص أكبر من حصتي الحكومتين نفسيهما، ويكفي للدلالة على هذا، استدعاء واشنطن (للرجمة) للمشاركة باللمّات التي أقامتها لإقرار ميزانيتها الليبية، كما أن الرجمة وليس وكر عقيلة هي التي ستكون بنهاية المطاف الشريك الأساسي بصنع هذه الميزانية والتمتع بمواردها، بيد أن ما جعل واشنطن تزهد في إحضار مسلحي الغرب حول وليمة الميزانية أو حول لمة غربان ميزانيتها المشبوهة، هو عدم حاجتها لتوريط نفسها بهذا الالتزام طالما أن الجماعات المسلحة المنتشرة بغرب البلاد تابعة إما للوجود الأمريكي نفسه بصورة مباشرة عبر إدارتها بتوجيهات مباشرة من قيادة أفريكوم ومحطة المخابرات الأمريكية في ليبيا، أو بصورة غير مباشره من خلال تبعية هذه الجماعات للوكيلين التركي والإيطالي، بل أنه لولا ارتباط الرجمة بالوجود الروسي في ليبيا، والذي تطمع واشنطن بفكها عنه وإنهاء الوجود الروسي نفسه بمساعدتها، ما رأت الرجمة كل هذا الدلال الأمريكي ولا اهتمام واشنطن بنيل نصيبها من هذه الميزانية المشبوهة، ولعلنا نكون بحاجة هنا إلى إعادة التذكير بإحاطة السفيرة الأمريكية الجديدة بليبيا جنيفير جافيتو أمام لجنة الشيوخ ببلادها، التي تعهدت خلالها باستخدام كل ما يجب استخدامه من أجل فصل المشير عن بوتين، بل أنه لولا الرجمة وتطور علاقتها بموسكو، ما كانت ليبيا لترى هذه الميزانية المشبوهة أصلا، حيث أنه لا يوجد شك أبدا بأن واشنطن إنما تتعذب اليوم أشد العذاب وربما (تلعن سلسبيل أبو الروس) الذين اضطروها للتخلي عن إجبار السلطات الليبية على تمويل برامجها بفساد قاعدة 1/12 التي كانت تدير بها الفوضى والتوحش وجرجرة البلاد إلى الإفلاس والمديونية الأجنبية، بيد أن هذه الواشنطن لن تعدم الوسيلة متى ما حققت أهدافها حيال الرجمة بإعادة توظيف وكيلها بالبنك المركزي ليعيد استنساخ ظروف وبيئات الـ1/12 من جديد.
معنى أن تكون الميزانية انتقالية!
وفقا لقاموس المصطلحات السياسية فإن الميزانية التقليدية هي الميزانية الموجهة لتمويل قطاعات وبرامج حكومية بدولة طبيعية أو مستقرة، بينما تُعرف الميزانية الانتقالية بأنها الميزانية الموجهة لتمويل برامج ومهام إعادة السلام والاستقرار والبناء بدولة في أعقاب وصولها إلى اتفاق سلام لإنهاء حرب أهلية أو صراع مسلح فيها، بيد أن “الميزانية التقليدية” التي فرضتها واشنطن على ليبيا بواسطة استخدامها لعقيلة صالح، والتي لا يُخطىء الاهتداء إلى روحها التآمرية بصورة صارخة إلا غبيا رضع الغباء لبنا حتى الفطام، لم تصممها واشنطن لتكون “ميزانية انتقالية” أبدا كما كان ينبغي لها أن تكون، حيث لم تأت هذه الميزانية على أي ذكر لتمويل الانتخابات البرلمانية والرئاسية في البلاد، رغم حقيقة أن هذه الانتخابات قد باتت (على علاتها الحقيقية واستحالة قدرتها على صناعة السلام قبل عودة الجيش أولا) الشغل الشاغل لليبيين والعالم اليوم، في ظل تأكيد العالم شبه يوميا (مسايرة للسياسة الإنجلوسكسونية الرئيسة في ليبيا) على نظرته لهذه الانتخابات باعتبارها الإجراء المركزي والأوحد الذي باتت تتوقف عليه عودة السيادة والاستقرار للدولة الليبية، وهو ما صدقه الليبيون وأغلب دول العالم فعلا، وتعلقوا به كل التعلق، ربما لأنه بدا لهم الإجراء الأسرع والأرخص ثمنا بتحقيق الاستقرار كما يأملون، بيد أن واشنطن المهتمة بإنتاج ميزانية حرب بقلب أجواء لا يغلب فيها على خطابها حول ليبيا ودول الساحل إلا خطاب معارك الجيل الرابع ضد الروس، قد قررت أن تتجاهل بميزانيتها فكرة الانتخابات من أصلها، ولو لجهة تذكرها ببند تخصصه لتمويل المفوضية، وذلك بالرغم من أن ليبيا برمتها بحسب الأدبيات العالمية المتداولة حولها، وبما فيها الأدبيات الإنجلوسكسونية نفسها ولو من الناحية النظرية، ليست إلا “دولة معطلة بسبب انتخابات معطلة”.
ولقد أصرت واشنطن على تجاهلها هذا، رغم أن تضمين هذا البند للميزانية هو ما كان يقتضيه تعبيرها عن احترامها لدول العالم ومنظماته الدولية الذين سايروا مرغمين الطرح الأمريكي الضال الذي يصر على تقديم إجراء الانتخابات في ليبيا على كل ما عداه من إجراءات أساسية استراتيجية قصوى ما كان للانتخابات أن تسبقها أبدا لولا الطغيان الأمريكي في ليبيا، والتي يأتي على رأسها وأولها إجراء نزع السلاح وعودة المؤسسة العسكرية، اللذين تعارضهم واشنطن بعدائية بالغة الخطورة، بل ولقد وصلت مسايرة العالم لواشنطن بتسبيق الانتخابات على استعادة السيادة الوطنية، حد توريط واشنطن للعالم بإظهار ازدرائه وتحقيره – الذي لطالما بلغ حد الوقاحة – لكل أدوات الحكم في ليبيا، حد أن هذه الأدوات لم تعد تحظى عمليا لا باعتراف العالم ولا باحترامه، بعد أن ورطت السياسات الأمريكية في ليبيا هذه الأدوات وعبر بعثة الوصاية على ليبيا تحديدا، بسمعة لا تقل انحطاطا عن سمعة عصابات المافيا وشبكات الدعارة، بل ولقد انحدرت سمعة أدوات الحكم الليبية على ألسنة غسان سلامة وستيفاني وليامز وأنطونيو غوتيريش وأخيرا باتيلي، حتى لامست سمعة مومسات الشوارع الخلفية بأحياء الصفيح التي تعج بها العواصم الآسيوية.
إن حماية المفوضية من التأثيرات العدائية لشدة الاستقطابات والانقسامات بالبلاد، وخاصة مع وجود رغبة جامحة لدى كل الأطراف الممثلة لهذه الاستقطابات، بتزوير نتائج الانتخابات إما لحسابها وإما لحساب الأطراف الأجنبية التي يعملون صبيانا لديها، وهو ما سيدفعهم حتما إلى بدل كل ما بوسعهم لأجل الضغط على المفوضية، بل ومحاولة كلا منهم لوي ذراعها ما استطاع إلى ذلك سبيلا كلما تصور أنه باستطاعته تحقيق مبتغاه بالضغط عليها، إنما كان يفترض على واشنطن تطهير بعض من نجاسة “ميزانيتها التقليدية” المشبوهة بإقرار بند تمويلي للمفوضية، بصورة جلية وبارزة لتكون حصنا حصينا لها ضد كل أشكال ومناورات الضغط الخارجي والداخلي عليها المرتبط بحالات الاستغلال والابتزاز التمويلي، وعليه فقد كان يجب أن يكون بند تمويل المفوضية هو أول وأهم وأبرز البنود التمويلية المدرجة بهذه الميزانية المشبوهة، باعتبار أن المفوضية هي الكيان المستقل الذي أجمع العالم على اعتباره الكيان الأكثر تقديرا في ليبيا، بل واعتباره المؤسسة التي ترنو إليها أنظار العالم للعب أهم الأدوار بتحديد مستقبل ليبيا الذي يتطلع إليه شعبها، بصورة سلمية وعادلة ونزيهة.
إن هذا ما كان يُلزم واشنطن بمساعدة الليبيين على إنتاج “ميزانية انتقالية” تراعي أولويات وظروف البلاد (لو أنها لم تكن ذات الواشنطن التي تبيد الناس في غزة بدم بارد)، إلى جانب التزامها بواجب السعي لضمان الجاهزية والاستقلالية المالية للمفوضية بتمويل واجباتها، بدلا من خلق “ميزانية تقليدية” لدولة مفككة بهدف تأجيج الصراعات واختلاق الحروب تحت غطاء توزيع تمويلي (ريعي – مليشيوي – تنموي) مشوه، لحكومتين لا سلطة للجهات الرقابية عليهما، ويغرقان بشبهات الفساد حتى أعالي أذنيهما، ولا تملك كليهما من ضمانات تضمن جديا: لا عدم إهدارهما للـ180 مليار على مفاسدهم، ولا تأكيد قدرتهما على أن لا تتحول كليهما إلى سبب أساسي في انطلاق موجات جديدة لحروب ضارية تجعل من كل ما شيدوه (على علاته) هباء تذروه الرياح، حيث إن كلا الحكومتان لا تملكان من هذه الضمانات ولا حتى ضمان شرف القسم الدستوري المعظم، لأنه لا أحد سيصدقهما ولو حلفا به.
ومن هنا فإنه كان يمكن لإظهار هذه الميزانية لحرصها الجلي بتمويل الانتخابات الليبية، باعتباره أهم من تمويل حكومتين مزيفتين، أن يُشعر الليبيين والمفوضية والعالم، بأن قيام الانتخابات الليبية لم يعد قابلا لأن يُعرقل أو يتعثر بسبب غياب التمويل الذي يشكل واحد من أهم عوامل نجاح الانتخابات وتحقيق نزاهتها بأي مكان في العالم، إلى جانب تحقيق ميزة تخليص المفوضية من كل شبهات الضغط والابتزاز والتسويف المرتبط بتمويل العمليات الانتخابية، بحال تُرك هذا التمويل ليأتي صدقة أو مِنّة من مصادر أجنبية أو عبر غربان الحكم المحليين الذين لا بد وأن يسيئوا استخدامه في ظل ما تغرق فيه البلاد من واقع التدخلات الأجنبية المروعة والاستقطابات المحلية الشديدة الحدة، وانتشار الدويلات المليشيوية التي تحوّل أمراء حربها إلى بارونات جريمة منظمة حقيقيين، كما كان يمكن لوجود هذا البند أن يؤكد لليبيين بأن مفوضيتهم لم تعد بحاجة لصدقة أو مَنٍ مِن أحد، وبأنها ستكون قادرة على إنجاز الاستحقاق الانتخابي فور توفر أدبياته السياسية والقانونية، بيد أن من صمم هذه الميزانية الحربية لم يكن بوارد إدراج مثل هذا البند ولو بصورة صورية، وذلك تجبنا لتأجيج مثل هذا البند لمشاعر الليبيين تجاه هذا الحق السيادي من جديد، وهو ما قد يترتب عليه تشجيعه الليبيين على زيادة حدة ضغوطهم لإجراء الانتخابات ضد معرقليها، الذين تقف واشنطن على رأس أخطرهم.
وأما ثاني سقطات من صمم هذه الميزانية فهو تعامله البائس مع النظام الأمني العسكري في البلاد كما لو أنه كان نظاما موحدا ومحترفا، وكأن هذه الميزانية صيغت لسلطنة عُمان أو البرتغال، وذلك بالرغم من أننا على بعد ساعات فقط من إعلان وزير داخلية الدبيبة، وبعلو صوته، بأنه لا يملك أي سيطرة على مدينة الزاوية، وذلك في إطار تعليقه على العنف الذي تعذب به المليشيات المتوحشة المسيطرة على هذه المدينة سكانها المدنيين صباح مساء، بل ولعله من بين أكثر مظاهر السخرية الأمنية في ليبيا التي خلقتها واشنطن منذ الـ2011 وما تزال ترعاها بقوة حتى اليوم، هو أنه ربما كان تأثير وزير داخلية حماد على الزاوية، والذي يمارس عمله من مسافة 1000 كم، أكثر فاعلية وتأثيرا على مدينة الزاوية (باعتباره طرفا أساسا في البنية المليشيوية للمدينة)، من تأثير وزير داخلية الدبيبة على هذه المدينة التي لا يبعد مقره عنها سوى أقل من 50 كم.
بيد أنه وبالرغم من تمتع المليشيات بالنصيب الأوفر من كل التدفقات المالية السابقة على امتداد تاريخ الفوضى التي نشرتها واشنطن في ليبيا، سواء تلك التي صُرفت فيها الأموال على هذه المليشيات من ميزانيتي الكيب وزيدان، أو تلك التي صُرفت فيها خلال مراحل حكومات الـ12/1 السيئة السمعة، إلا أن واشنطن صممت ميزانيتها لليبيين، (وهو ما كان متوقعا منها)، بتجاهل تام لخدمة الليبيين بوضع بند تمويلي يقيد حصة كل مليشيا، طالما أن هذه المليشيات (تحمل الصفات الرسمية للدولة بادعاءها أو استيلاءها على هويات عسكرية وشرطية رسمية، وطالما أن هذه المليشيات تحولت إلى جيوش متوازية ومستقلة من خلال قوانينها الأساسية التي تنص على تبعيتها المباشرة لرئيس الحكومة، وهو الإجراء الذي كان يمكنه أن يجعل الليبيين (يلحسوا ولو أصابعهم من مرق هذه الميزانية) على علاتها، لجهة قطعها الطريق على توظيف الحكومات للمال العام بصورة مزاجية عشوائية باستمالة المليشيات وشراء ذممها بميزانيات طارئة بلغت مئات الملايين من الدينارات كلما حمي وطيس الصراع على السلطة، إلى جانب قدرة مثل هذا البند أو الإجراء (لو أنه وجد) على توفير الحجة القانونية للسلطات الحكومية وحاكم البنك المركزي لرفض كل محاولات المليشيات تجاوز مخصصاتها أو حصصها المقررة بالميزانية، بل ولقد كان يمكن لوجود مثل هذا البند أن يتحول إلى سند يمكن لحاكم البنك والحكومة استخدامه حتى بطلب الحماية الدولية بحال حاولت هذه المليشيات الطغيان على مخصصات غيرها من القطاعات، بيد أن حتى هذه المنفعة على هامشيتها لم تتحقق لليبيين من وراء هذه الميزانية المشبوهة، كما أن هذه الميزانية كان يمكن أن يكون لها نفع آخر على كارثيتها وهو تعليم المليشيات أن (الحج له ما بعده)، وهو أنه عليهم الاستعداد لتسوية وإغلاق حساب التمويلات العامة التي تصل إلى أيديهم من مخصصاتهم بوقت معلوم ووفقا للآليات التي حددها قانون الميزانية.
بغداد وأربيل.. استنساخ أمريكي جديد في ليبيا!!
لأن ليبيا ليست استثناء من لعبة استنساخ السياسات الإمبريالية الأمريكية، فإن آخر هذه الاستنساخات الأمريكية في ليبيا، بعد تمريرها لعملية استنساخ النعجة دُولّي التي ما تزال تتربع حتى اليوم على عرش بعثة الوصاية على ليبيا، هي تورط واشنطن بإعادة استنساخ ظروف ميزانيتها الليبية المشؤومة لتكون مسخا آخر وبطريقة النسخ واللصق لجينات الصدام المالي العنيف والمزلزل بين بغداد وأربيل، إن الصدام المالي العراقي الذي خلقته ورعته واشنطن، والذي ما يزال يمثل سياق العلاقة بين بغداد وأربيل ويطغى عليها منذ إعلان الحكم الذاتي الكردي في العراق وحتى اليوم، والذي جاء ليعبر بكل مظاهره المستنفرة على زرع الفتن وتقديم الاختلافات والخصومات على التكامل والتعاون، عبر توظيف بنود الميزانية العراقية وأدبيات بُني النظام السياسي الأخرى لتكون أنجب المحركات باختلاق التفسيرات والاجتهادات الصدامية المبيتة، ليقدم كل هذا الطرفين العراقيين للعالم، ضمن خواتيم نتائجه على أنهما أقرب ما يكونا إلى طرفي صراع منهما إلى كيانين وطنيين متكاملين ضمن حدود حقوق وواجبات كلا منهما التنظيمية سواء أكانت سياسية أو إدارية أو جعرافية.
إن تراكمات أحقاد وتوظيفات هذا الصراع المالي أو الصراع العراقي على الميزانية – والذي أفسح المجال واسعا أمام تدخلات أطراف إقليمية ودولية لتأجيجه – والذي قَدّم نفسه للجمهور عمدا وبصورة شعبوية متنمرة ومدمرة، على أنه مجرد حالة دفاع مشروع عن النفس وصورة من صور أعمال البطولة الوطنية لحماية كل طرف لحقوق رعاياه من الأضرار والمظالم التي يصور كل طرف الطرف الآخر على أنه يريد إلحاقها برعاياه، هو الذي برر أو دفع بنهاية المطاف هذه الصراعات عند (وقت بعينه) إلى التحول إلى موجة شعبوية جارفة من التبريرات (البطولية الخارقة!) لتقديم طموح تمزيق وحدة العراق بالاستفتاء الانفصالي الذي نظمته أربيل من طرف واحد بالعام 2017 على أنه أعظم أشكال النضال وأشرف عملية إنقاذ لحرية وطن وبناء أمة مضطهدة وإخراجها من قلب الركام، وكان أن لعب الكيان الصهيوني وقوى أجنبية أخرى أدوارا كبيرة وبارزة بإذكاء وتسعير هذه الموجة، ولولا تظافر مصالح قوى إقليمية رأت بهذا التمزق العراقي خطرا عليها، إلى جانب خوف قوى دولية رئيسية أخرى من العواقب الإقليمية الوخيمة التي يمكنها أن تنشأ عن اختلال التوازن الجيوسياسي الإقليمي بتفكك دولة بحجم العراق وأهميته الكائنة بواحد من أشد الأقاليم حساسية لمصالح هذه القوى الكبرى، لربما كان حال العراق اليوم من حال السودان الذي تم تمزيقه إلى دولتين.
إن نجاح واشنطن بفرض هذه الميزانية المسمومة وتمزيقها بين حكومتين تتصارعان على الحكم ليل نهار بدولة فاشلة يحكمها السلاح الفالت وعائلات أمرائه، سيجعل من مصير الوحدة الوطنية مجرد كبسة زر بين مخالب واشنطن، حيث أنه سيصبح من السهل جدا على هذه الواشنطن مستقبلا استغلال تراكمات الصراعات والأحقاد وروح الاستقلالية المالية التي ستتضخم لدى كل طرف بواسطة تدفقات موارده من هذه الميزانية، إلى جانب حتمية توسع مصالح الانتهازيين والغربان وضباع الجيف أفقيا وعموديا ما سيمكن واشنطن من اختراق كل هذه الصفوف بتحقيق امتلاك السيطرة الكاملة على ريموت خيار الإبقاء على وحدة ليبيا أو تمزيقها بآي لحظة تشائها، إن التطور المتسارع والصاعق للصراع المالي على هذه الميزانية لسوف يؤسس لمستويات خطرة من تبادل الأحقاد والضغائن والفتن الأهلية وشيطنة كل طرف لتدفقات أقساط الطرف الآخر، لدفع البلاد نحو مزيد الانقسام وما سينتج عنه من صدام وحروب – وهو ما ستتبرع الكثير من الأطراف الخارجية بتأجيجه مجانا ولوجه الله – كما ستسمح الظروف التي ستدور فيها تدفقات هذه الميزانية، باختلاق النخب الانتهازية والفاسدة لخطاب شعبوي سيعظم من أخطار الاستقطابات الداخلية، وهو ما سيقود إلى نجاحهم الحتمي عبر استغلال معاناة الأهالي من الفقر والظروف المعيشية الشديدة الصعوبة التي عملت السياسات الأمريكية على إشاعتها بين الناس منذ الـ2011، والضرب على أوتار الجهوية والمظالم والحقوق الجغرافية لأماكن تمركز الثروات الطبيعية بالبلاد، وتصعيد خطابهم بحيث لا يعود يقتصر على شيطنة حصص كلا منهم لحصص الآخر (وهو ما ستلعب فيه واشنطن الدور الأبرز بإظهارها لحصص كل طرف للطرف الآخر بالصورة المناسبة لتوليد الصراعات والفتن)، وإنما سيمتد هذا الخطاب وينتقل إلى الدعاية التحريضية العنفية بما سيسوق له هؤلاء أو أؤلئك بأنه حقهم الذي أكله عليهم الطرف الآخر، كما أن ما ستطرحه هذه الميزانية – في ظل ظروف الفساد الرجيم التي تعصف بالبلاد – من مصالح وامتيازات مالية جديدة وكبيرة لنخب الطرفين، ستجعل كلا منهما على استعداد للتضحية بكل شيء من أجل الحفاظ على هذه المصالح والامتيازات، بل وحتى بوحدة البلاد نفسها فور وقوفها عائقا بوجه تدفق هذه المصالح.
لماذا غُيّبت فزان عن لمة الغربان!!
بل ولقد شاءت واشنطن هذه المرة استخدام هذه الميزانية بتعميق الشقاق والأذى بين الليبيين إلى منتهاه، عبر ذات لعبة تقاسم الأموال بين القوى المسلحة ونتوءاتها السياسية، التي فرضتها على الليبيين بكل شؤونهم منذ لحظة دخولها الأولى عليهم بالعام 2011، وذلك بمنعها هذه المرة لنخبة فزان الشريكة بنهب البلاد للنخبتين الأخرتين من الحصول على حصتها الافتراضية من هذه الميزانية إلا عبر تحالفات كل فريق منهم مع الرجمة أو حماد أو عقيلة أو الدبيبة، بيد أن تجنب واشنطن استدعاء نخبة فزان لحضور آخر لمّات جرائم المحاصصة الانتهازية هذه، لم يكن إبعادا بسبب عدم وجود حكومة ثالثة في فزان، حيث كان باستطاعة واشنطن لو أرادت إشراكها، حسم مسألة إضافة حكومة ثالثة إلى البلاد، بل وحتى رابعة وخامسة، خلال بضعة ساعات من تحريكها لطابورها الخامس أو لوكلائها الذين تعج بهم البلاد، بل إن واشنطن اتجهت إلى رفض حضور غربان فزان إلى جانب غربان شرق البلاد وغربها الذين دعتهم لتمزيق ميزانيتها بينهم ولو نظريا (لأن جلها سيمول بها فيلقها وحروبها في ليبيا)، لأنها أرادت إجراء هذه المحاصصة على أساس ثنائية التقاسم بين الشرق والغرب، وذلك لأن واشنطن عازمة على الاتجاه سواء عند إطلاقها لحرب الوكالة التي تخطط لها ضد الروس، أو سواء بحال رغبتها بإبقاء البلاد تحت حالة لا حرب لا سلام، كتلك التي ترزح تحتها سوريا اليوم بين واشنطن وموسكو أيضا، أو حتى بحال اضطرارها لاتخاذ قرار بتقسيم ليبيا، إلى جعل هذا التقسيم تقسيما ثنائيا وليس ثلاثيا، أي تقسيما طوليا سيتبع فيه كل جنوب من الجنوبين الشمال الذي يصطف خلفه، يعني ليبيا الشرقية وليبيا الغربية وكفى، وذلك تحضيرا لتحويل التراث الاستعماري للبلاد من ثلاثية الإنجليز والفرنسيس والطليان، إلى ثنائية الروس والأمريكان، والتي تتوقع “الفورين بولسي” بأنها ستكون أساس واقع الحال في ليبيا لسنوات قادمة.
إن الحقيقة التي يجب أن يعلمها الليبيين هي أن واشنطن تعاملهم معاملة مماثلة لتلك المعاملة التي يُعامل بها الفيران الذين تُجري عليهم التجارب العشوائية بمعامل الأبحاث العسكرية السرية قصد الوصول إلى نتائج أو اكتشافات مروعة، حيث أنه لم يسبق أبدا في تاريخ العالم السياسي الحديث، أو خلال المائة عاما الجارية التي عُرفت فيها الحروب الأهلية أو حروب الجيل الرابع وظهور نموذج دولة النزاع المسلح، أن فُرضت ميزانية واحدة على طرفي صراع، ما يؤكد أن واشنطن هذه لم تستند إلى أي تجارب سابقة بفرض شرها هذا على الليبيين، خاصة وأن هذا الشر يأتي في صورة تعبير جديد عن سياساتها في ليبيا التي سبق لسفيرها وأن عبر عنها بترحيبه بإقامة انتخابات تحت سلطة حكومتين متعاديتين، وعليه فإن كل تحليلات عواقب هذه الفعلة الجنائية، أو الميزانية الكارثية، لن تقود إلا إلى حقيقة أن واشنطن إنما تخطط لتوظيف هذه الميزانية لاستخدامات لا صلة لها بمصالح الليبيين، وإن هؤلاء الأخيرين سيعانون منها كثيرا وطويلا، وإن هذه المعاناة ستستقيم حتما مع طبيعة الأهداف التي تسعى واشنطن إلى تحقيقها من وراء فرضها لهذه الميزانية.
وأما آخر قولنا فهو.. برافووووو أمريكا… لقد نجحت باستثمارك لحمق وكلائك الليبيين، من دق ما يقارب عن الـ180 مليار وتد بجسد ليبيا العليل والمترنح!!.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً