في موجة من التراشق الإعلامي يوهم السامع والمشاهد أن المشكلة بين الحرس الرئاسي التابع للحكومة المؤقتة وتشكيل جهاز الحرس الوطني الذي صدر قرار بتشكيله في 7 يناير 2015 من المؤتمر الوطني العام، هذا الزعم لا يعدو أن يكون سوى غلاف لمشكلة أعمق وهي إخفاق المجلس الرئاسي في تنفيذ بنود اتفاق الصخيرات بسبب تعنت رئاسة مجلس النواب والمجموعة القبلية معه ومن ورائهم حفتر والحكومة المصرية، وتشردم أعضاء المجلس الرئاسي بين معارض ومقاطع ومتابع.
من الواضح أن تشكيل جهاز الحرس الوطني لا يتعارض في المهام مع الحرس الرئاسي، فلأول حرس الحدود والمنافذ وبين المدن، وللثاني حرس المنشآت الحيوية مثل الدوائر الحكومية والسفارات والمصارف ومحطات الطاقة في المدن وغيرها، بل أن تشكيل كل منهما على التوازي سيساعد على استقرار البلد، ويمنع تدفق الوافدين غير الشرعيين والسلاح والتهريب كما يؤمن الأمن داخل المدن عن طريق ضبط المخالفين والخارجين عن القانون.
مشكلة المشكلات أن الكثير من النشطاء ومن أعضاء المؤتمر السابق وأعضاء البرلمان من المنطقة الغربية قد سئموا من تباطوا حركة المجلس الرئاسي ومراهنة رئيسه على إرضاء الطرف الآخر وهو رئيس البرلمان بأي ثمن، وبذلك توالت التنازلات، حتى وصلت إلى تعديل شبه كامل للاتفاق، على أن يكون الانقلابية حفتر قائدا عاما للجيش لا يتبع المجلس الرئاسي، وتكون الوزارات محاصصة وتكون هناك ميزانية لإعمار بنغازي التي دمرها حفتر في حربه القبلية، والقادم أدهى وأمر، منها فرض النظام الفيدرالي وتقسيم عائدات النفط على الأقاليم، بل أن رجالات العهد السابق الذين استقبلوا في طبرق سيكون لهم مكانا مرموقا في المنظومة القادمة، ولن يبقى من النظام السابق سوى دروة سنامه الذي غيبته المنون.
هندسة افتعال الأزمات أكبر من رئيس البرلمان وحفتر، فهؤلاء لا يعدون سوى وكلاء للملك على رقعة الشطرنج، إنما ثقل السياسي يأتي من الحكومة المصرية التي ستنزعج كثيرا لو صادف أن قامت دولة مدنية ديموقراطية حرة حباها الله بموارد جمة على أعتاب حدودها الغربية، فكانت مساندة القوات القبلية في الغرب الليبي وقصف معسكر بسيدي السايح راح ضحيته العديد من ثوار غريان وكان قصف درنة العديد المستمر، وكان الادعاء بقتل أقباط في سرت، ولا ننسى الإسناد الجوي المستمر لحفتر في بنغازي، والسرد يطول.
الأدهى من ذلك احتضان القاهرة للعديد من المؤسسات الإعلامية المناوئة لتطلعات الشعب الليبي والتي في معظمها مرتبطة بترسيخ قوى الكرامة وحفتر، ومعظم شخوصها من الوراقين العائدين من أفغانستان، بعد سلق ذقونهم أصبحوا هواة السفر بين القاهرة ولندن لتوزيع حصص المداخلات الفضائيات بخطة مدروسة، أبرزهم أصحاب الكُنى أبوتمامة وقيس وابن القيوم.
ما تناولته وسائل الإعلام أن معظم الاجتماعات المنعقدة في مصر مع أعضاء مجلس النواب ورئيسه ومع السراج ونائبيه كانت مع الفريق محمود حجازي رئيس أركان الجيش المصري حاليا والرئيس السابق للمخابرات المصرية، ولم يكن للهيئات الدبلوماسية أي دور في ذلك، وآخر هذه الاجتماعات تلك التي عقدت بتاريخ 12 ديسمبر مع جمع غفير من الصحفيين وبعض أعضاء البرلمان ورجالات العهد السابق ونشطاء فيدراليين وقوى قبلية، وقد امتنع الكثير من الوطنيين عن حضور مثل هكذا اجتماع. حتى أن الكثير من المعلقين المصريين يصر على أن ليبيا ليست دولة ولن يكون بها مؤسسات وما عليها إلا إقامة مجلس للقبائل يدير شؤونها. هذا النهج جعل رئيس المجلس الرئاسي ينصاع رويدا رويدا إلى الإملاءات الصادرة عن الحكومة المصرية ويقترب كثيرا من رؤية رئيس البرلمان، وهو مناقض لرؤية أعضاء الجنوب المقاطعين ورؤية نواب الغرب الليبي.
الاحتقان في طرابلس هو في بنغازي وفي العديد من المدن الليبية يتلخص في أنه صراع بين إرادتين، إرادة تعبت من التشردم والتشتت ونقص السيولة وطوابير البنزين وغلاء الأسعار والانفلات الأمني فكفرت بفبراير ورموزها وأهدافها، وهي على استعداد تام للتنازل لحفتر ولمصر وحتى لإسرائيل من أجل الأمن والأمان وعودة الحياة الطبيعية بجمعياتها الاستهلاكية وقواها الأمنية، وسفرياتها إلى تونس والأردن للعلاج، فلا يهم إرساء الدكتاتورية أو الديموقراطية، ولا يهم إطلاق الحريات أو كبحها، وإرادة تنشد التغيير وعدم الرجوع إلى الوضع البائس قبل 2011، وترى أن التنازل جريمة بعد دفع قوافل من الشهداء وألاف المعاقين والمبثورين، وهي خيانة للوطن وانتكاسة لمشروع الدولة الحديثة التي تستثمر فيه عوائد النفط لبناء دولة عصرية، وتوعد نفسها بالنصر القادم، وقيام دولة مدنية عقب حرب ضروس.
للأسف لم يكن لدول جوار الغرب الليبي دوراً سياسيا فاعلاً، فمثلا تونس منكفئة على مشاكله الداخلية وهي لا تعدو أن تكون حاضنة لأي اجتماعات ممن كان، أما الجزائر فقد سلكت نهج الحياد السلبي، الذي يرضي الجميع ولا يصل إلى نتيجة، مقابل التدخل العلني والصريح للحكومة المصرية لمناصرة طرف ضد آخر. أما الدول الغربية فلا ترى للمشكلة الليبية إلا أنها معرقلة لإمدادات الغاز والنفط (رغم استمرار تدفقها بصعوبة) وأن ليبيا مصدر للهجرة ومكان لتجمع الإرهابيين وهو ما استطاعت أن تحد منه عبر توافقات مع المجلس الرئاسي، أي أن الغرب ليس منزعجاً من الحالة الليبية ولا مانع أن يبقى هكذا إذا توقف المهاجرون عن عبر المتوسط، والنتيجة أن بناء الدولة المدنية ليست في معجم القبائل البدوية المتصارعة في صحراء شاسعة تدخر في بطونها سبل العيش الكريم.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً