اشتعلت نار قنابل الخوف العنقودي الروسي، وتحركت القوات الروسية نحو الأرض الموعودة، أوكرانيا، الرقعة التي ربطتها خيوط التاريخ مع الدب الضخم، انهيار الإمبراطورية الروسية الشيوعية، فكّك الكيان الكبير ووُلِدت من جسده العملاق دول في أوروبا وآسيا، وتبخر حلف وارسو العسكري الذي كان يقارع حلف «الناتو».
ثقل التاريخ إذا تداخل مع خنادق الجغرافيا، يتحول إلى عناقيد متفجرة تتحرك من دون أن تتقادم. ليلة 23 فبراير تقدّمت القوات الروسية في الأراضي الأوكرانية، بعد أن رسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع كبار مساعديه خطوط الطول والعرض التاريخية والاقتصادية والأمنية لخريطة أفكاره الاستراتيجية حول دولة أوكرانيا طليقة الكيان الروسي التاريخي.
المظلومية التي ما زال طعم مرارتها في فم روسيا وعقلها ونطق به فلاديمير بوتين، وهو الابن غير البكر لظلم الحرب العالمية الثانية، لكنه الابن الذي أضافت له شهادته على انهيار الاتحاد السوفياتي مرارة خاصة. لقد قُتل أخوه الأكبر في لينينغراد بغارات نازية، وكان والده من المحاربين ضد الغزو الألماني للاتحاد السوفياتي. فلاديمير بوتين هو صورة قلمية وعقلية لروسيا التي لا تزال دماء التاريخ تفعل فعلها فوق ملامحها السياسية والأمنية، بل تعيد تحريك أطرافها. عاش بوتين حلقة من تكوينه التأسيسي في ألمانيا الشرقية، أرض التماس بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي. كان إحدى الآذان والعيون الأمنية الخاصة للإمبراطورية الروسية العملاقة التي تمد قوتها فوق أوروبا وآسيا، وتشع قوة سطوتها عبر البحار.
أوكرانيا التي تمثل حزاماً أمنياً وامتداداً اقتصادياً واجتماعياً لروسيا، تختلف عن كل الكيانات التي تسربت من أصابع روسيا بعد انهيار الكيان السوفياتي. روسيا تعتبرها توأمها الصغير. سنة 2014 قام بوتين بقضم شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا بكل جرأة وبلا حساب لرد الفعل الغربي، وتمكن من هضمها بسهولة. تدخل كذلك في جورجيا بقوة وأنشأ جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا. توسع حلف «الناتو» في دول شرق أوروبا التي كانت حبات صغيرة في كف الاتحاد السوفياتي، الذي لم يتردد في استعمال القوة ضدها عندما حاول بعضها رفع قشة الطاعة على الاتحاد السوفياتي وهيمنته الكاملة عليها. لا شك أن ذلك المشهد ما زال يسكن رأس بوتين وآخرين حول حزام سلطته.
روسيا سواء القيصرية أو الشيوعية، عاشت بعقل وحقيقة المجال الحيوي الكبير وخاضت من أجله حروباً كما أنفقت من أجله الكثير.
في الوقت الذي كانت فيه روسيا تعد جيوشها للتحرك نحو أوكرانيا، دفعت بزفرات إعلامية، وتحركت في خطوات سياسية، حملت الكثير من تضاريس التاريخ والأمن وخيوط النسيج الاجتماعي. إعلان استقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك بحجة أنهما، وكل إقليم دونباس الأوكراني، تنتميان شعباً ولغة وأرضاً إلى روسيا وليس لأوكرانيا، وأن العهد السوفياتي أعاد رسم خرائط الكيانات التابعة له، فأخذ وأعطى أراضي من كيان قومي لآخر، وهو ذات المعطى الذي توكأ عليه بوتين عندما ضم القرم إلى روسيا.
هل اقتحام روسيا لأوكرانيا، هو قفزة ضفدعة ستلحقها قفزات أخرى لتكوين مجال حيوي اقتصادي وعسكري وأمني لروسيا العظمى؟ وهل سيجري استفتاء في الجمهوريتين المستقلتين كي تنضما إلى دولة روسيا الاتحادية؟
رد الفعل الأوروبي والأميركي، وضع حزمة من العقوبات الاقتصادية والمالية على روسيا، وأهمها إيقاف مشروع «نورد ستريم 2» لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا. لا شك أن بوتين وفريقه في مجلس الأمن القومي الروسي قد درس موضوع العقوبات ورتب له منذ زمن ليس بالقصير واستعد له، وقد أعلن ميدفيديف الذي تبادل رئاسة الجمهورية والحكومة مع بوتين، أن أوروبا ستفرض عقوبات وسوف تتراجع عنها في النهاية. هل سيكون الغاز الروسي، هو الثلج الذي يكسر عقوبات الغرب كما فعل الثلج الروسي قبله مع الجيش الألماني؟ الشعوب الأوروبية بدأت تعبر عن أنينها من ارتفاع أسعار الطاقة، خاصة الغاز الذي يستورد أغلبه من روسيا.
الآن بدأ فصل البرد في الرحيل، لكنه سيأتي في وقته القادم ولا بد من الغاز الروسي للتدفئة، وليست هناك مصادر أخرى قريبة أو بعيدة قادرة على توفير الكميات الكبيرة المطلوبة، كما أن روسيا هي أكبر منتج للنفط في العالم، ولها تأثير كبير على تحديد أسعاره.
أوروبا لن ترفع سقف ردود فعلها إلى عمل عسكري مباشر ضد روسيا ولن تتعدى حزمات مختلفة من العقوبات التي ستكون لها بدون شك ضربات مؤلمة للاقتصاد الروسي، وستمس حياة الناس، لكنّ هناك عوامل مهمة سيكون لها تأثير فاعل في هذه المعركة التي ستطول.
في روسيا كل القرارات في يد الرئيس وحده ولا يُناقشه فيها أحد، ومهما عانى الناس من العقوبات فلن يكون لذلك أثر في القرارات المهمة الاستراتيجية، في حين يختلف الأمر في أوروبا وحتى في أميركا، حيث للناس صوت فاعل، خاصة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
بوتين يراهن بدون شك على هاتين الحقيقتين، فهو يحارب بقوة الوقت أيضاً التي يرى أنها تقف إلى جانب قواته التي تقدمت نحو أوكرانيا. إذا فاز بالمحافظتين المنشقتين، قد لا يتردد في ضم كل أوكرانيا، ولن يتوقف عند حدودها، بل ستسيح قواته في جمهوريات أخرى إذا ضمن أن حلف «الناتو» لن يحرك قواته نحو الأراضي الروسية.
سياسة التهدئة the appeasement التي تبنتها بريطانيا مع ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية، هي التي دفعت أدولف هتلر للتحرك نحو بولندا ثم فرنسا وبعدها الاتحاد السوفياتي. الرئيس بوتين الذي وُلد سياسياً وعسكرياً وأمنياً من رحم زمن روسي إمبراطوري له مجاله الحيوي الحي بقوة آيديولوجية وعسكرية وسياسية فرضت نفسها على العالم بعد انتصارها الكاسح على ألمانيا النازية، لن يتردد في تحريك ما برأسه فوق الأرض مهما كلفه ذلك. ما نراه اليوم يتحرك خارج حدود روسيا سيكون بداية رسم خريطة جديدة للتوازن أو الاهتزاز في عالم يتحرك كل شيء فيه.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً