درج المسلمون في شتى بقاع الأرض على القول بأن القرآن صالح لكل مكان وزمان، وأنه المخرج من كل الأزمات الحالية والمستقبلية، وهو كذلك، ولكن السؤال الذي أذهل الكثيرين وأيقظ مضجع الباحثين والمفكرين، فضلا عن المشائخ ورجال الدين؛ هو لماذا هذا التردي والانحطاط للأمة الإسلامية حتى لا ينفك الغربيين من ربط التخلف بالإسلام، فالدول الإسلامية أكثر تخلفا اقتصاديا (ومعظمها يعيش على إعانات الغرب) والدول الإسلامية أكثر فسادا وأقل شفافية، وتحتل أدنى المراتب في الخدمات الصحية والتعليمية وبرامج التنمية البشرية ولها أدنى معدلات الأداء، كما تعاني من كبت الحريات العامة، وهبوط أخلاقي كبير نراه في الحروب العبثية في أكثر من 30 نقطة ساخنة على مستوى العالم، منها العراق واليمن وليبيا وسوريا والساقية ودارفور والفلبين وكشمير وأفغانستان والصومال وغيرها الكثير، وفي معظم هذه الدول يكون القتال بين المسلمين أو يكون المسلمون هم الحلقة الأضعف. وفي هذا ينطبق على الدول الإسلامية قول الشاعر:
كالعير في البيداء يقتلها الظمأ ….. والماء فوق ظهورها مجمول
الدين الذي جاء به القرآن واضح، وما عسر فهمه، تفسره آيات قرآنية أخرى جلية لا لبس فيها، ورسالته إلى البشرية جمعاء بسيطة، وقد لا يحتاج المسلم البسيط إلا إلى فهم التقسيم التقليدي للديانات السماوية ومنها القرآن، وهو أنها تتكون من عبادات ومعاملات، فالعبادات كالصلاة والصيام والحج شعائر تؤدى شكراً لله على نعمائه (كما قال سيدنا إبراهيم)، والقسم الآخر؛ المعاملات كالصدقة، وإتقان العمل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في القول والعمل والسلوك الحسن عامة، هي تعاليم تحدد مجال المعاملات الحسنة بين البشر أفرادا وجماعات من أجل بناء مجتمع سليم وخالي من العاهات الجاهلية. وحيث أن الله لا حاجة له بعبادة العباد (وهو الغني عن أقوالهم وأفعالهم) فإن هدف العبادة بشعائرها القولية والفعلية لا تتجاوز أن تكون تربية للنفس البشرية على السلوك الحسن وإتباع ما ورد في نهج المعاملات، وينتج عن ذلك التمكين للأمة في الأرض، وفوز الفرد والمجتمع بخيري الدنيا وحسن ثواب الآخرة، أما تمكين غير المسلمين فتحكمه الآية الكريمة: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (هود: 117)، أي الصلاح.
هذه الصورة البسيطة الواضحة في القرآن ما أن يدخل عليها تاريخ المسلمين بتفاسيره وعقده وممارساته الخاطئة، وسلاطينه وولاته الذين قاموا بتفسير القرآن على نهج تصرفاتهم ورغباتهم بعد البحث عن أحاديث نبوية تؤيد توجهاتهم؛ منها المنقطع وآخر ضعيف وغيره حسن ورابع متواتر أو صحيح، وهناك الأحاد، والمنكر، والموضوع وغيرهم، وهناك العشرات من الفتاوي المتناقضة، مما أوجد العشرات من المذاهب الفقهية قديما وحديثا، بل أنتج مدارس حديثة تعتمد بالكامل على تفسير تاريخ الإسلام مثل القاعدة والحركة السلفية الوهابية العلمية وحركة داعش، وأنصار الشريعة، والحركة السلفية الجهادية وغيرها، وهذا يؤكد أهمية تفسير القرآن بالقرآن وليس تفسير القرآن بالسنة، وأن السنة مفسرة ومؤيدة لواضح القرآن وليست سبيل كامل منفصل لإقامة الدين، يقول ابن رشد اذا اردت ان تتحكم في جاهل غلف له الباطل بغلاف ديني !!.
وما يؤكد قصور البشر عن إدراك مكنون الدين الإسلامي خارج منظور القرآن، مثالين في وصف طبيعة الأشياء إحداهما في الصدر الأول للإسلام والآخر في القرن العشرين. تقول الرواية: “كان مُعاويةُ يُلِحُّ على عمرَ بنِ الخطابِ في غَزوِ قُبرصَ، ورُكوبِ البَحرِ لها، فكتبَ عُمَرُ إلى عمرو بن العاص أنْ صِفْ ليَ البحرَ وراكبَهُ، فكتبَ إليه: إني رأيتُ خَلقاً كَبيراً يَركَبُهُ خَلقٌ صغير، إنْ رَكدَ حَرقَ القلوبَ، وإنْ تَحرّكَ أراعَ العقولَ، تَزدادُ فيه العقولُ قِلَّةً والسيئاتُ كَثرةً، وهُم فيهِ كَدُودٍ على عودٍ، إنْ مَالَ أغرق، وإنْ نجا فَرَّق. فلمّا قرأ عُمر الكتابَ، كَتَبَ إلى معاوية: والله لا أحمِلُ فيهِ مُسلما أبدا”، ولم يركب جيش المسلمين البحر إلا بعد مجيء الخليفة عثمان بن عفان. بالعكس من قول (داهية العرب) كان الوصف القرآني للبحر أنه وسيلة نقل السفن ومصدر رزق وحلية وله منافع عديدة.
المثال الآخر هو فتوي الشيخ عبد العزيز ابن باز في سنة 1976 م عن دار الفتوى والإرشاد السعودية، تقول بخروج من الملة لكل من قال أن الأرض تدور:” القول بدوران الأرض قول باطل والاعتقاد بصحته مخرج من الملة، لمنافاته ما ورد في القرآن الكريم من أن الأرض ثابته وقد ثبتها الله بالجبال أوتاداً، قال: سبحانه وتعالى: والجبال أوتادا وقوله جل وعلا: وإلى الأرض كيف سطحت، وهي واضحة المعنى فالأرض ليست كروية ولا تدور كما بين جل وعلا، وقد يكون دورانها أو تغيرها من غضبه سبحانه….” ولمن يريد المزيد فهناك ردود كثيرة في الموضوع. ولا تقتصر الفتاوي على البحر والأرض بل تتعدى إلى الصحة والتعليم والعلاقات الاجتماعية والنهج الاقتصادي، فنرى السبي وتجارة الرقيق وزواج القاصرات وزواج المسيار والبراءة من أهل الكتاب، والتبديع والتكفير والتفجير، والتداوي بالألفاظ لجميع الأمراض والعلل، وتحريم الانتخابات والديموقراطية والحكم الرشيد.
هذه الصورة النمطية القاصرة والمناقضة للنهج القرآني هي التي أوجدت الدول الإسلامية منذ الفتنة الكبرى حتى الآن، وفي كل خلافة أو دولة يكون لها مشائخ سلاطين يقومون بتجهيز فتاوي سلطانية تخدم الطبقة الحاكمة ومن يدور في فلكها، وهو شأن لا علاقة له بروح الإسلام بل هذا السلوك هو الذي أودى بالأمة الإسلامية إلى الحضيض. نرى بعض المشائخ والمصلحين قد راعى انتباهه هذا السلوك المتناقض، فمثلا يروي ابن تيمية “أن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة”، ويقول الشيخ محمد عبده “رأيت في أوروبا إسلاما بلا مسلمين وفي بلدنا مسلمين بلا إسلام”.
في دراسة أكاديمية بجامعة جورج واشنطن الأمريكية نشرت في 2010م، قام بالإشراف عليها الأستاذ حسين عسكري، أستاذ الاقتصاد والعلاقات الدولية، تمحورت الدراسة حول مدى تطابق تعاليم الإسلام القرآنية مع قوانين وسلوك عدد 208 دولة ومقاطعة على مستوى العالم، وكان هناك اثني عشرة معيار، منها قيم تكافؤ الفرص والعدالة في التوزيع، والقيم الاجتماعية مثل تقديم الخدمات الاجتماعية والمساعدات الداخلية والخارجية للمحتاجين، ومنها الحرية، والعدالة، والمساواة، والتكافل الاجتماعي والاستثمار في التعليم.
وخلصت الدراسة إلى تصنيف الدول تبعا لتوافقها مع القيم الإنسانية القرآنية (ولم يستخدم جزء العبادات في التقييم) فكانت النتيجة أن الدول العشرة الأولي هي: إيرلندا (أولهما) ثم الدنمارك ولوكسمبرج ونيوزيلندا وأيسلندا وفنلندا وكندا أستراليا وهولندا وبريطانيا. وكان أول الدول الإسلامية ماليزيا في الترتيب (33). أما الدول العربية فليس هناك أحد في المجموعة الخمسين الأولى سوى الكويت في المرتبة (42)، وكانت البحرين في المرتبة (61)، وتونس في المرتبة (72)، والسعودية في المرتبة (91)، أما مصر ففي المرتبة 128 وليبيا في المرتبة (174).
هذه النتائج تفسر طلاسم التأخر في العالم الإسلامي وتضع الكثير من الأسئلة التي يجب الوقوف عندها، منها من هو الكافر في نظر الإسلام هل هو من يقوم بتطبيق تعاليم الإسلام أو من يدعي كذبا وزورا رفع راية الإسلام قولاً، وأفعاله لا علاقة لها بالدين داخل الوطن وخارجه؟ والسؤال الثاني للجماعات الإسلامية وخاصة السلفية منها، هل نرى أن السعودية مثالاً لنا لتكوين دولة إسلامية وهي في المرتبة الواحد والتسعون من التصنيف؟ والسؤال الأخير لليبيين والمصريين هل هناك عاقل يريد أن يعود إلى حكم العسكر الذي ثبت بالدليل أنه فاسد ومفسد للشعوب والدول، فمصر ترتيبها 128 وليبيا 174، وهذا التقييم مناظر جدا لتقييم الأمم المتحدة لدول العالم حول الشفافية والحرية وانتشار الفساد خلال العقود الماضية، وهو يفسر فعلياً الواقع المعاش، حتى يلقي المسلمون بأنفسهم في البحر أملا أن يصلوا إلى الجنة الموعودة على الشاطئ الآخر، قد نكون الآن خارج التصنيف بسبب الوضع المتأزم ولكن لا رجوع للوضع السابق البائس، وللأمم خياراتها.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
لنحرر الإسلام من جٌبِ العروبة يُمْكِن لنا الله ونسموا بإنسانيتنا إلى ما تمنيناه ….
فلم نرى من محتكري الدين ومشائخ القصور والسلاطين إلا ترسيخ للجهل والجاهلية والتعصب لعادات وتقاليد لا يقبلها عقل إلا إن قدمتها على شكل فتاوى دينية فصدق ابن رشد حين قال ( اذا اردت ان تتحكم في جاهل غلف له الباطل بغلاف ديني )!!.