ليس هناك أفضل من هكذا عنوان في الوقت الراهن ” الحوار الليبي الليبي” ولكن ذلك الشعار الفضفاض لم يكن يوما واقعاً ملموسا، بل على العكس من ذلك؛ كان ولايزال فرض إملاءات القوي على الضعيف السمة الراجحة على مر التاريخ الليبي الوسيط والمعاصر على المستويين الفردي والجماعي، وأسباب ذلك كثيرة أهمها العقلية البدوية المنغلقة العاجزة عن سماع الأخر وإستيعاب حقوقه وإحترام أرائه، فالانتاج الفكري البشري المعاصر أوصل فولتير إلى القول ” قد أختلف معك في الرأي ولكنني على إستعداد أن أبذل حياتي من أجل إبداء رايك بصراحة” هذا السمو في التعامل كان قاعدة من قواعد الحضارة المعاصرة. بالمثل يوجد أفضل منه في أيات القرآن الكريم (ولله المثل الأعلى)، منها محاورته جل وعلا لإبليس ومنحه مهلة وتأخير عقابه، ومنها محاورة سيدنا سليمان للهدهد، رغم ذلك بقيت الأيات للتلاوة، ولم تجد لها مكان للتطبيق في الكثير من الأحيان.
في العشرينات من القرن الماضي رغم الفقر وتفشي الأمية والإحتلال الإيطالي إلا أن زعماء القبائل لم يسلكوا سُبل الحوار، وإن حاولوا لم يلتزموا به، كما في مؤتمر غريان، وإتفاق سواني بن يادم، وإتفاق جندوبة. الأبلغ من ذلك ما حدث في بداية الخمسينات، حيث أشرف البريطانيون والأمم المتحدة على الإنتخابات الرئاسية بين قطبين رئيسيين وهما الملك محمد بن علي السنوسي وبشير السعداوي، ولما شعر الأول بهزيمته رفض كشف نتائج الإنتخابات, ادى ذلك إلى عصيان مدني كبير في غرب ليبيا قامت بقمعه القوات الإنجليزية، وأصدر رئيس وزراء الملك محمود المنتصر أمراً بترحيل السعداوي ومناصريه خارج ليبيا، ومنهم السراج وأحمد زارم، فكان منفي السعداوي لبنان حتى وفاته سنة 1957م، صاحب ذلك إلغاء وتعطيل الأحزاب، وترسيخ قواعد المشهد الفردي (One man show). في الرُبع الأخير من القرن الماضي العهد الجمهوري ترسخت قيم الدكتاتورية ولم يكن الحوار إلا تطبيلاً وتلميعاً للقيادة التاريخية.
لقد حاول الليبيون سلوك درب الحوار الليبي الليبي خلال الخمسة سنوات الماضية، أولها برأسة الدكتور محمد الحراري ثم إنشاء هيئة برئاسة الفضيل الأمين، ناهيك عن عشرات اللجان التي تم تشكيلها لحل النزاع بأسلوب الحوار، ولقد بأت معظم هذه المحاولات بالفشل، بل أن البعض منها أدى إلى ويلات غير متوقعة مثل إسقاط الطائرة المنكوبة شمال منطقة ورشفانة.
الحوار وإدارة الحوار علمُ له أصوله وقواعده ومرتكزاته، وثقافة غُيبت عن الشعب الليبي لسنوات عديدة، وأستبدلت بحوار القبعات البيضاء وموائد اللحم الفاخرة، والمواثيق الشفوية، هذا الحوار لم يستطيع إيقاف الحرب في الكفرة ولا في أوباري ولا في بنغازي، وحتى إيقاف إطلاق النار في بعض الأماكن كان بعد ترجيح كفة على أخرى، وليس بسبب جهود الحوار.
إن المطالبة بالحوار الليبي الليبي في الوقت الراهن هو حق أريد به باطل، ولا يختلف عن شعارات سابقة تقودها الحكومة العميقة مثل لا للتمديد، والعزل السياسي، والتي تقودها مجموعة من الساسة في المؤتمر الوطني وفي مجلس النواب وتجد لها قاعدة شعبية مغيبة بشعارات منع التدخل الأجنبي ومحاربة الامبريالية والإستعمار، وهي شعارات مستهلكة هدفها تعطيل الجهود الأممية لحل النزاع الليبي من خلال تشكيل حكومة وطنية موحدة، وإطالة عمر الفوضى والإنفلات الأمني والتدهور الإقتصادي من أجل تعظيم المكاسب الشخصية والفئوية والجهوية.
إن العقل والمنطق يحثمان عدم إنجرار النخب، والتصدي لهذا الشعار البرًاق، والمطالبة بإستكمال جهود الأمم المتحدة من أجل بناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة وسليمة، وإحلال الأمن ومعالجة الإختناقات الإقتصادية, أما الحوار الليبي الليبي فيجب أن يقتصر على الجوانب الإجتماعية، وأهمها المصالحة الوطنية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً