تواجه الأمة الليبية خلال السنوات الثلاث الماضية تدخلات سافرة في شئونها الداخلية لم تكن في حسبان العديد من الليبيين، وكأن تلك الدول تقتص لنفسها من تدخلات النظام السابق في شئونها. لم تتوقف تلك الدول عند خلق أدرع لها أو تمويل دُمى، بل تجاوز الحد إلى الدفع بالمأجورين والمؤدلجين إلى حبك الإنقلابات ومحاولة تقويض أركان الدولة، أو كما يقولون هدم المعبد على من فيه. لو كانت هذه التصرفات من ورائها إيطاليا أو بريطانيا أو فرنسا لهان الأمر، فلقد تعلم الليبيون على مدى أربعين سنة أن الدول الرأسمالية الغربية هي أس البلاء والعدو اللدود للعرب والمسلمين.
للأسف لو إستعرضنا التاريخ القديم والحديث بتجرد لوجدنا نحن الليبيون أن العسف والدسائس وصناعة الدُمى، من الشرق لا تقارن بعشرين سنة من الإحتلال الإيطالي الدامي لليبيا. لن أتحدث عن غزو نبونخد نصر لفلسطين وهروب ألاف من الساميين إلى شمال أفريقيا، ولا الحروب الطاحنة في القرنين السادس والسابع الميلادي، ولا الهجرة غير الشرعية في القرن الحادي عشر الميلادي، فهده جميعها من الأحداث التي طويت في التاريخ رغم أنها تحتاج إلى مجلدات لعرضها بطريقة غير تقليدية. أما مجئ الأتراك إلى ليبيا فلم يكن إلا بسبب دُمى تقاعست عن دورها في مقارعة المستعمر وأرادت أن يكون لها شأن وحظوة عند الوالي العثماني، لم يختلف الأمر في العهد الإيطالي، فيقول المثل ” من وصَل الطليان للكفرة” ومن الذي أهدى السروج العربية الأصيلة لموسيليني.
قبيل الإستقلال بقليل كان الوفد المصري يحاول جاهداً لضم إقليم برقة إلى مصر، ولما عجز عن ذلك بإصرار المبعوث ألأممي ودول الوصاية، حاول أن يقضم جزاً منها بإدعاء أن الجغبوب جزء من الأراضي المصرية، وهو ما لا يزال يرن في أذهان بعض المثقفين المصرين أخرهم تصريح محمد حسنين هيكل لمجلة لبنانية بأن الجغبوب يجب أن تعود إلى مصر، وأن أخطاء حدثت في إتفاقية سايكس بيكو حول الحدود.
بعد الإنقلاب الناصري كان عداء مصر للمملكة الليبية متجذراً بتهمة أن عدوان 56 كانت طائراته تنطلق من قاعدة العدم الليبية، وبذلك عمل على أدلجة الضباط المبعوثين للدراسة بمصر وأصبح الناصريون الليبيون دُمى إستخدمهم القذافي لتمرير إنقلابه في سنة 1969 م، ونواة للبهرجة الإعلامية خلال العشرة سنوات الأولى من حكمه. بذلك تحولت ليبيا إلى ممول للفساد في الدولة المصرية على حساب إحتياجات الشعب الليبي، بشعارات جوفاء مثل قومية المعركة ، ومساعدة الشركات المصرية، وإيقاف قطار الموت.
بعد سنة 1986م إنتهى مسلسل الناصرية في مصر وليبيا، ووصل قطار آخر، ألا وهو القطار السلفي إلى ليبيا بعد عبوره عن مصر، كانت حصيلة التيار الجهادي في مصر قتل السياح وترويع الأهالي وذروة سنامه إغتيال السادات في 6 أكتوبر 1981م. وصل السلفيون إلى ليبيا من طريق معبد آخر تحت مظلة إقامة شعائر الله في الأراضي المقدسة، مدججين بالكتب الصفراء وأشرطة شيوخ القصور الملكية، كانت تصرفاتهم لا تعدوا أن تكون مظهرية في البداية، مثل إعفاء اللحى وتوسيع فتحة الأرجل عند الصلاة، وإستعمال السواك نهار مساء، ولكن إزداد نشاطهم في المنطقة الشرقية من ليبيا بهدف إنشاء إمارة إسلامية بدعم الإخوة عرب الرز (وذلك بسبب العداء المتآصل بين النظامين)، مما أدي بالنظام السابق إلى وصفهم بالزنادقة ثم التنكيل بهم في السجون، وبذلك نرى أن معظم السجناء في تلك المرحلة (والذين ينهال عنهم التعويض المادي الآن) لم تكن قضياهم وطنية، بقدر أنهم مؤدلجين وتبع لشيوخ العربية السعودية ومن أنصار المذهب السلفي، وبغباء النظام السابق جعل ممن يصلي صلاة الفجر في المساجد زعيماً وطنياً يشار إليه بالبنان، بالمثل لا ننسى من دافع عن الوطن بالداخل وإستشهد دونه، ومن رفع هموم الوطن معه وناضل في سبيله، ولم تغريه المناصب والمكاسب وهم أقل من القليل، أذكر منهم الأستاذ فاضل المسعودي الذي وقف مدافعاً عن الشعب الليبي لما يربوا عن ستين عاماً، أطال الله في عمره.
ما نراه الآن من إغتيالات، وقتل وخروج عن الإجماع، وتكفير الأمة ورفض لقيام الدولة، هو من نتاج تلك الحقبة البغيضة، وهو ما يعلمه الكثير من رجالات الدولة الليبية مثل وزارة الداخلية ومباحث أمن الدولة (ولا يريدون أن يبوحوا به خوفا على منصبهم) وبما التصريح الصريح الوحيد، ذلك الذي أبدى به وزير الثقافة حين قال: أن بعض الإسلاميين في ليبيا هم المسؤولون عن عرقلة قيام الدولة، لقد ذكر لي أحد الأصدقاء من بنغازي أن أحد المحسوبين على التيار الجهادي المتشدد قد أفتى بأن من قتل عقيد من الجيش الليبي سينال الجنة بلا حساب، قول دمية إلى مجموعة من المغفلين الذين نصب نفسه شيخاً لهم. وياليته تحدث عن إسلام الشفقة والرحمة والتسامح والإخاء والرفق والمحبة والتمكين في الأرض، وبعيداً عن الإثم والعدوان.
لم نري لعرب الأرز دوراً فارقاً في ثورة 17 فبراير، بل أن من منح عدة دولارات مساعدة للشعب المُهجَر، طالبوا بإسترجاعها قبل أن يرد إليهم طرفهم، ومن سلط شيوخه على دُمى الوطن، جعل مريديهم ينقسمون بين مؤيد للطاغية بدعوى عدم الخروج عن الحاكم الظالم، وبين من يرى أن ما حدث فتنه وعليه إلزام البيت، وفي كلا الحالتين مواقف سلبية تجاه الوطن.
بعد وصول مرسي إلى سدة الحكم وأعلن عن مشروع إنشاء المنطقة الحرة في الإسماعلية (عند تلاقي الشرق بالغرب) إنزعجت الإمارات كثيراً لهذا المشروع، ووجدت صنو لها في الإنزعاج من الثورة المصرية، وهي السعودية التي ليس لها أليات التغيير أمام الإنتفاضات المتلاحقة، وهنا يعني أن ثورة قادمة من الطائفة الإسماعيلية بنجران لا محالة، وسيلتف حولها جميع القوى الوطنية (غير الوهابية) بالخارج، مما سيعمل على قلب النظام الملكي، فكانت قصة إنقلاب السيسي في 30 يونيو 2013، ولكن ضعف الإقتصاد المصري وأتون الفساد في الدولة أكبر من مقدرة السعودية والإمارات على التمويل، والذي وصل إلى 16 مليار دولار، ولذلك يجب التفكير في ممول آخر.
كنا نعتقد أن الإرتباط بالأماكن المقدسة والسلطة المنظمة لها إرتباط ديني يرتقي بالإنسان ويسموا عن الحاجات الدنيوية، إلا أن المراقب لأحوال الشباب الليبي يجد أن إقامة الشعائر يشوبها الكثير من التقليد لأهالي الحرمين الشريفين، في اللباس والمأكل وشراء السيارات الفارهة وتعدد الزوجات، بل تطور إلى إعتناق مذهب أهل المدينة. على النقيض من ذلك هناك صنف آخر أغرته الأبراج العالية فأصبح يحج إلى أبوظبي ودبي لينال البركة الدنيوية قبل إنقضاء العمر.
وهنا تتحدث وسائل الإعلام عن دخول دحلان على الخط، كمساعد لوزير الخارجية الإماراتي، حيث تم تدبير إنقلاب في ليبيا ليفي بغرضين أساسيين أولاهما لن يكون هناك نموذج ديمقراطي حضاري مجاور لمصر، وأن الانقلابيين الليبيين الجدد سيقومون بتخفيف حمل تمويل الدولة المصرية، وتم إختيار دُمى وطنية لتستقبل السلاح بطائرات إماراتية منها في تامنهنت، ولا نستبعد أن تكون الباخرة الكورية المملوكة لرجال أعمال سعوديين وإماراتيين أن تكون محملة بالسلاح إلى العقيد حفتر والفيدراليين، ناهيك عن تصرفات بعض المليشيات التي لا تأتمر بأوامر الدولة، ويقوم رئيس الوزراء بالغض عن أفعالها حينا وتمويلها أحياناً كثيرة، فهو فعلاً الدجاجة التي تلد بيضاً ويجب المحافظة عليها.
كان الأنقلاب الهزلي من أتباع سبتمبر 69 مخجلاً، حيث لم يؤيده أحد من الليبيين عند حدوثه في طرابلس، سوى إذاعة العربية، والمواقع التابعة لها، فأعاد الفاعلين ترتيب أوراق الإنقلاب بإستغلال اسطوانة التهميش والإنتماء القبلي والحراك الفدرالي ليصبح العمل بطولياً عند بعض الدُمى من الجهويين، في حين أبدى الكثير من الوطنيين من مدن شرق ليبيا إمتعاضهم بل وإستهجانهم من أفعال هذه الدُمى.
لا يخفي على أحد أن الإسلاميين المتشددين قد وقعوا في وهم بناء الدولة على أسس الخلافة، حيث لا يوجد تكرار لها على مر التاريخ الإسلامي، وتتركز فلسفتهم في تطبيق الحدود دون تغيير العقول، لذلك يرفضون النهج الديموقراطي الحديث الذي يبعدهم عن تولي مهام الدولة الحديثة وتنفيذ أفكارهم، بالمثل الفيدراليون يرون أن حل مشكلة التهميش والمركزية لا يتم إلا بالإستحواد على جزء كبير من عائدات النفط، بدعوى وجودة في الإقليم، ولذلك يرون أن إنتخاب برلمان ليبي ورئيس دولة سيجردهم من أسلحتهم وسيجعلهم خارج الشرعية، أما أنصار سبتمبر 69 فإن عقدهم قد إنفك بعد إنفكاك أعضاء حزب التحالف، وأن قيام برلمان جديد يجعل من الكتائب الموالية لهم لا فائدة منها، وإمكانية بناء الحزب من جديد تتضأل يوم بعد يوم، ولذا إستنساخ التجربة المصرية في الإنقلاب على الثورة يعيد البلد إلى نوفمبر 2011 وهو ما يساعد على ترتيب الأوراق من جديد.
نحن مع الامركزية وضد التهميش وشيوع مبداء المواطنة الذي يشمل العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، ولكننا نعلم من التاريخ لم ولن تكون برقة دولة مستقلة، فهي على مدى التاريخ جزء رئيسي ومهم من التاريخ الليبي أو جزء تابع للدولة المصرية، بالمثل المنطقة الغربية كانت جزءاً مهماً من الدولة الليبية، أو جزءاً تابعا للقيروان أو تيهرت بالجزائر، فنأمل أن نغلب الوطن على البطن.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً