لا شك أن لا دولة مدنية ولا ديموقراطية ولا تداول سلمي للسلطة بلا مؤسسات سياسية حزبية، فتطوير نظام الشورى الإسلامي في أبهى معانيه لا يكون إلا بمؤسسات سياسية ذات برامج تنموية يستفتى عليها الجمهور لقبول أفضلها، وما عدا ذلك سوى اجترار لصنوف من الاستبداد الفردي أو الطبقي باسم الدين أو الشرعية التاريخية أو شرعية القوة أو حتى الشرعية الثورية كما يزعم الكثيرين سابقا وحاليا.
خلال قرن من الزمان لم تستطيع النخب الليبية إنتاج مؤسسات فاعلة في المجال السياسي بسبب انتشار الأمية والتشظي وغياب برامج وطنية جامعة؛ كان الجهاد ضد الإيطاليين من أجل صون العرض وحفظ الدين، ولم يكن لتحرير الوطن أو قيام دولة بمؤسسات فاعلة ولم يكن هناك تخطيط لبرامج ما بعد الوصول للحكم.
بالمثل خلال العشرية الماضية، لم تتغير الصورة كثيراً؛ فشعارات “الحزبية إجهاض للديموقراطية ومن تحزب خان” التي أبدعها القذافي أخذت من الجمهور والنخب كل مأخذ، فتأفف عن الهياكل السياسية وعاد الجميع إلى التجمعات الجهوية والقبلية والعرقية لتسويق أنفسهم على الساحة الليبية، فكانت المجموعات المسلحة والحروب والدمار والتهجير والتشتت، إضافة إلى العمالة للخارج.
عندما عجزت الأمم المتحدة عن إيجاد حلول بواسطة الهياكل القائمة وهي مجلس النواب ومجلس الدولة، (وهما في الحقيقة نتاج لتمثيل التصويت الفردي من قوى جهوية وقبلية ومناطقية)، بدر لها تفكيك المشكلة وإعادة تركيبها بإنشاء ملتقى الحوار السياسي من خمسه وسبعين شخصا يمثلون القوى السياسية في الدولة الليبية، وهي الطريقة التي يُبنى بها مجلس نواب في دولة ديموقراطية بالانتخابات وليس بالتعيين، هذا المجلس يضم (حزب الأمة أو التجمع الوطني) من القوى المنادية بالدولة المدنية، وهم ممثلو حركة التغيير في ليبيا، وقيادات من حزب (الجماهيرية) أنصار العهد السابق، وقيادات من الحزب (القبلي الراديكالي) وهم ممثلو عقيلة والمجموعات القبلية، ثم حزب (الكرامة) كممثلين لجيش حفتر والجمهور المؤمن بالقيادة العسكرية للدولة.
نتج عن هذه الاجتماعات تمثيل كل أصحاب المصالح (Stock holders)، فكان الاتفاق على معايير اختيار الوظائف السيادية، وأسلوب الاختيار (وهو جهوي بسبب التراكمات السابقة)، وهذا الأسلوب وإن كان أسسه غير ديموقراطية بسبب عدم إشراك المواطنين في الاختيار، وأن التقسيم الجهوي يعارضه جمهور كبير من الشعب إلا أنه ناجع مرحلياً للوصول إلى توحيد المؤسسات ووضع أسس لانطلاق العمل السياسي.
تاريخيا، لم تستمر الأحزاب لفترة طويلة وكانت مرآة للتشظي المجتمعي، فعقب هزيمة الإيطاليين في الحرب العالمية الثانية وبروز الأمم المتحدة كهيئة دولية يمكن لها التصرف في تركة دول المحور المهزومة، بداء بعض النشطاء الليبيين في تشكيل جمعيات وأحزاب سياسية للمشاركة في تقرير المصير للتراب الليبي، فكانت أو هيئة سياسية في الشرق الليبي جمعية عمر المختار التي تأسست في مصر في 31 يناير 1942 برئاسة الشاعر إبراهيم الاسطى عمر، واقتصر عملها على بنغازي ودرنه، وحيث أنها جمعية لم يكن لها دور سياسي كبير رغم نشاطها الثقافي، والأمر الآخر أنها تمثل النخبة الشبابية المثقفة، ولم تشرك المجموعات البدوية، مما جعلها في صراع مع هذه القوى، لاحقا، استطاع الملك وحكومته تحييدها وحلها ثم اختفائها من المشهد الليبي.
في الغرب الليبي كان هناك تيارات كثيرة وشخصيات متعددة، فلقد تأسس الحزب الوطني بزعامة أحمد الفقيه حسن سنة 1944م، الذي بداء كتنظيم سري تم إشهاره بعد سنتين، وكان هدفه الأساسي هو الوصول لإستقلال ليبيا موحدة، تغير الهدف إلى المطالبة بالوصاية المصرية فانشق أحمد الفقيه وتولى رئاسة الحزب مصطفى ميزران، ولم يكن لهذا الحزب قواعد شعبية، حيت أنه يمثل طبقة اجتماعية من العائلات الطرابلسية. كان نتيجة الانشقاق ظهور حزب مغمور هو الاتحاد المصري الطرابلسي في سنة 1946م، ومؤسساه يوسف المشيرقي وعلي رجب، ولم يكن لهذا الحزب أثر سياسي يذكر.
في 10 مايو 1946م تم تأسيس حزب الجبهة الوطنية المتحدة بزعامة سالم المنتصر وضم عدد من وجهاء طرابلس وبعض المناطق القريبة، ومن شعارات الحزب استقلال ليبيا تحت رئاسة إدريس السنوسي. وشبيهه حزب العمال الذي تأسس تحت زعامة بشير بن حمزة بعد انفصاله من حزب الكتلة الوطنية في سبتمبر 1947م، وقد دعا إلى استقلال ليبيا تحت زعامة السنوسيين.
ربما أهم وأكبر الأحزاب في تلك الحقبة، قبل الاستقلال هو حزب المؤتمر الوطني الطرابلسي الذي نتج عن اندماج الحزب الوطني والجبهة الوطنية المتحدة في شهر مايو 1949م برئاسة بشير السعداوي، وكان لهذا الحزب زخم كبير وقاعدة شعبية، خاض من خلالها اول انتخابات نيابية في ليبيا بتاريخ 19 فبراير 1952م، والذي حدث فيه صدامات كثيرة بين الحكومة وقيادة الحزب الذي رفض الوصاية الأجنبية، ورفض جنوح الحكومة إلى تزوير الانتخابات وإقصاء الخصوم، وتم إخماد المعارضة بقوة البوليس ومساعدة الإنجليز، وبذلك تقرر نفي بشير السعداوي إلى مصر، وحل الأحزاب، ووأد العملية الديموقراطية في مهدها، مع الاعتماد على المستقلين في كل الانتخابات اللاحقة.
من تدارس تجربة الأحزاب القصيرة السابقة التي فاقت تسعة أحزاب في فترة وجيزة إبان الانتداب البريطاني، أن معظم الأحزاب نخبوية لم تحاول إيجاد قاعدة شعبية كبيرة لها سوى حزب المؤتمر الذي انطفأت شعلته مبكراً، الأمر الثاني أن هذه الأحزاب لم تضع لها برامج يمكن للمجتمع أن يتبناها، بل كان همها هو الاستقلال بصوره المختلفة مع التركيز على أدوات الحكم دون التفكير في بناء المؤسسات، وأخير أنها مرتبطة بأشخاص أسسوها، وما أن يغيب المؤسس يتلاشى الحزب.
لا يسع المجال للحديث عن كراهية حقبة الدكتاتورية بعد انقلاب 1969م للأنظمة الديموقراطية، فهو حكم الفرد وجبروت القوة التي أحدثت خللاً وانفصالا عن الواقع لطبقات كثيرة من الشعب الليبي بسبب التزوير الإعلامي الممنهج لأربعة عقود حتى أن الحديث عن الحزبية سبة، وطرح البرامج والاستعداد لتنفيذها جريمة، وتجهيز كوادر وطواقم لتولي زمام أمور الدولة بمهنية عالية خيانة عظمى.
اليوم هناك فرصة سانحة لتكوين هياكل حزبية سياسية مؤسسة على أفكار وبرامج عابرة للقبائل وللمدن والقرى والمناطق الليبية، لها كوادر مؤهلة لخوض غمار التغيير إلى الأفضل، تقوم بطرح أفكار جديدة وروى فاعلة لحل المختنقات التي تواجه الشعب الليبي دون اللجوء إلى هياكل ما قبل الدولة مثل المحاصصة القبلية والجهوية التي تفرض شخصيات متخلفة تعيق تقدم الدولة، وتجر مؤسسات الدولة إلى شفاء الهاوية كما حدث في السنوات الستة الماضية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً