مجالس الأعيان لها تاريخ طويل في ليبيا يمتد إلى ما قبل قيام الدولة الليبية، وهي وسيلة لحل المشاكل الاجتماعية مثل المنازعات على الأراضي والخصام الزوجي والنفقة ودفع الدية للمغدورين بهم وكذلك النزاع بين القرى وغيرها بعيداً عن المحاكم والقضاء.
تعتبر مجالس العزابة في جبل نفوسة من أقدم هذه المجالس والتي يرجع تاريخها إلى نهاية القرن الثالث للهجرة، وهي مجالس أوجدتها ظروف تباعد المدن عن بعضها وضعف الدولة المركزية بعد سقوط الدولة الرستمية لإقامة العدل في غياب مؤسسات الدولة، فكانت قراراتها نافذه، وتتكون من مجموعة من رجال الدين ووجهاء المدينة يجتمعون كلما اقتضى الأمر، ومن أقصى قرارتهم هو نبذ المجرم الخارج عن الدين والعرف؛ حيث يقاطع ولا يتم التعامل معه في المجتمع فيضطر إلى طلب السماح أو مغادرة المدينة.
في العهد الملكي انتشرت لجان الأراضي لفض المنازعات، أما العهد الجماهيري فقد فكك الأعيان وأوجد قيادات للقبائل مصطنعة ممن لهم الولاء للسلطة وتم استخدامهم في التأييد الشعبوي وفي لجان التطهير وفي المبايعات (للقائد)، ثم أصبح الرفاق أعيان، وهي بداية تسميم مجالس القبائل الأعيان.
بعد ثورة 17 فبراير استمر منوال مجالس الأعيان في الكثير من المدن منها لجنة 30 في جالو والمجلس الاجتماعي في بني وليد ومجالس الأعيان في معظم مدن الغرب الليبي ومجالس القبائل في الشرق الليبي، مع شطحات أخرى مثل المجلس الأعلى للقبائل الشريفة، والمجلس الأعلى لقبائل ليبيا في كل من المرج وترهونة وسبها ومزدة، والجميع يدعي تمثيل الشعب الليبي، وذلك على غرار المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا وهو مجلس تم إنشائه من أجل متابعة الحقوق الثقافية لفئة من الليبيين ولا دور اجتماعي أو سياسي له.
هذا الدور الاجتماعي كان مرحبا به رغم علاته، فهو لا يعدوا أن يكون عمل رجل صالح يتوسط بين الفرقاء، ولا إستراتيجية محددة في المصالحة أو حتى في إطفاء نيران النزاع بين القرى، فكان يرى أنه سلسلة من الزيارات المضنية والولائم التي لا تتوقف لتكوين صدقات ومعارف يمكن استعمالها لحل بعض النزاعات عند حدوثها.
من الناحية القانونية لا وجود لهكذا مجالس أعيان وحكماء، فالقانون 59 لسنة 2012 والقرارات التنفيذية التابعة له مثل القرار 212 لا يذكر مجلس الأعيان ولا كيفية انتخابه ولا مهامه، وهو عمل عرفي غير مقنن.
والجدير بالذكر أن الأعيان موزعين تبعا للانقسام السياسي، فلحفتر مجلس مشايخ وأعيان بقيادة المفوه السنوسي الزوي، ولعقيلة أبوعكوزه، ولرجالات العهد السابق رئيس أعيان في سبها منهم صاحب السبيحة، ولترهونة رئيس أخر الأفندي فاندي صاحب الخطب النارية، وللمنطقة الغربية مجلس أعيان للمصالحة يرأسه الدكتور المبشر.
ويعتبر مجلس القبائل الليبية في المنطقة الشرقية هو المحرض والمسئول عن مقتل أكثر من ثمانية آلاف شاب من قبائل الشرق على أبواب طرابلس، وهو المسئول عن قتل وبتر أكثر من عشرين ألف شاب في بنغازي ودرنة، فكيف يكون مجلس حكماء وأعيان ومهمته التحريض على القتل؟.
ما لا يمكن الصمت عنه أن الأعيان أصبحوا مطية للوبيات سياسية وعسكرية، وأصبحوا يصدرون بيانات شبه يومية تؤيد هذا الفريق العسكري أو السياسي أو ذاك، وتتبرأ وتسفه بعضها البعض (كما حدث في اللقاء مع الرئيس التونسي)، وهذه المجالس تُعقد اللقاءات والاجتماعات بناء على رغبة تلك القوى العسكرية أو السياسية، وأخص بالذكر مجلس مشايخ وأعيان ليبيا ببنغازي وترهونة وسبها.
هؤلاء الأعيان اقحموا أنفسهم في السياسة ليست الداخلية فقط بل سافروا إلى مصر وتونس والجزائر والإمارات لعقد لقاتهم والاجتماع مع قيادات ورؤساء تلك الدول، وإيهامهم بأنهم المتحكمين في خيوط اللعبة السياسية في ليبيا، وأن أحزاب ليبيا هي مجالس الأعيان والقبائل.
بالمثل في المنطقة الغربية هناك الكثير من التجاوزات الإجرائية؛ منها زيارة الجبهات بدعوى دعم المقاتلين، والتبرع بالمساعدة الخدمية اللوجستية (وهو تقصير من الدولة أقحم فيه الأعيان) ففي العرف العسكري لا زيارة للجبهات من المدنيين وليس هناك كتائب تابعة لأعيان أو لمدن، وليس هناك ترتيبات في الحضور بين أبناء المدينة الواحدة، فالجيش يكون بانضباطية عالية وقيادة وسيطرة أو لا يكون.
بسبب ضعف حكومة الرئاسي وسؤ أداء المستشارين وجلهم من فصيلة الحرباوات، ووقوعهم في أيدي محور الشر، تبين للعالم أن هؤلاء الأعيان لهم اليد الطولى في الدولة الليبية؛ فهم من أغلق موانئ النفط، وهم من أوقف الماء عن المدن، وبأمرهم يحارب الشباب في الجبهات، وهم من أقفل أبواب مجلس النواب وأهان نواب الأمة إلى درجة اجتماعهم في مقهى، وهم من منع هبوط الطائرات في مطاراتهم، وهم من تواطئ مع حفتر لسجن وزراء وتغييب نواب.
هذه الصورة المأساوية تشجع السيسي لاستخدامها لتفتيت الدولة الليبية عن طريق إرسال متخلفين جياع بدعوى أنهم ليبيون يعودون لأرضهم (كما حاول حامد بإشاء مع المصريين والامريكان) في عهد يوسف باشا القره مانلي لفصل برقة، وكما أرسل قبل ذلك المستنصر بالله الفاطمي قبائل بني هلال وبني سليم للقضاء على الزيريين في طرابلس، وكما استعمل الأمريكان الصحوات في العراق، والإيرانيون الحشد الشعبي لاستمرار التحكم في العراق.
بالمثل فرنسا التي راهنت على حصان خاسر يسرها أن تسمع من الرئيس التونسي تفتيت ليبيا إلى قبائل وكانتونات تستطيع من خلالها قضم الجنوب وسرت ليكون لها بوابة لمستعمراتها جنوب الصحراء، ولا يستنكف رئيس تعصف به أزمات اقتصادية وسياسية أن يقوم بهذا العمل.
الأكثر أهمية من الموقف الخارجي هو ترتيب البيت الداخلي، وذلك بإلغاء هكذا أبواب مشبوهة التصرف، واحتكار السياسة الخارجية على مؤسسات الدولة، وتقنين العمل الداخلي على المؤسسات الدستورية من بلديات وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني ونقابات وروابط مهنية، بعيدا عن مجالس القبائل والأعيان والحكماء الشريفة منها والوضيعة، فلتقم الدولة بتفكيك هكذا دكاكين وواجهات للاستغلال الخارجي.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً