قسمت دار الإفتاء التجاذب أو الصراع أو التدافع أو الاختلاف السياسي في ليبيا إلى صراع بين الحق والباطل!!!! ونتيجة منطقية أنها تقف مع الحق، ومن يخالفها يدفع عن الباطل!!!
لا شك أننا نعاني من كثير من الإشكاليات، من أهمها هذه الإشكالية، وهي الحدية في التقسيم، وتعيين الشخص أو الجماعة نفسها معياراً لتصنيف الأطراف الأخرى وفقاً لقيم مطلقة يمتلك هو أو هي سلطة تقرير مدى تطابق الآخرين معها من عدمه.
وهذا لا يعني أنه لا يوجد في الكون حقائق مطلقة يمكن تلمسها، فكون الشمس هي التي تنير الأرض حقيقة مطلقة وندركها، وهناك في نطاق كل دين حقائق لا يماري فيها إلا معاند كحقيقة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن وأن الكعبة هي قبلة المسلمين في الإسلام. فنحن نقصد إطلاق القيم المطلقة كالحق والحقيقة على اشياء هي محل خلاف بين الناس نتيجة لاختلاف أذهان الناس ومستوياتهم العقلية وزاوية نظرهم وتكويناتهم الدينية والمذهبية والفكرية والسياسية والاجتماعية وغيرها.
للأسف هناك من يخلط بين ما أشرنا إليه، وبين مذهب السفسطائية!!!! فنحن لا ننكر الحق والباطل، ولا القيم المطلقة إجمالاً بل نقول أن الفهم البشري لها يظل نسبياً.
فالقرآن مثلا حق وحقيقة ، مع التنبيه أنه حق وحقيقة عند المسلمين فقط.. وهو حق عندنا.. ولكن إياك ثم إياك أن تخلط بين آي القران الكريم وبين فهمك أو فهم وتفسير عالم لذلك. ولا أدل من ذلك إلا تذييل العلماء الكبار لكل تفسير أو فتوى بكلمة (والله أعلم) ، والتي عز سماعها في عصر انحطاطنا الحالي!!! ويرجع الجابري سبب ذلك في رائعته (تكوين العقل العربي) إلى أن “الحقيقة لدى كثير من ((المثقفين – القراء)) العرب، بل ولدى كثير من الكتاب والباحثين في الوطن العربي، فضلاً عن المثقف العادي، هي ما يقوله آخر كتاب قرأوه أو آخر حديث سمعوه، الشيء الذي يدل على رسوخ الاستعداد للتلقي وغياب الروح النقدية في نشاط العقل العربي “المعاصر”، هذا العقل الذي يتقبل المشاهد الفكرية بنفس الطريقة – تقريباً – التي تقبل بها الطفل الرضيع المشاهد الحسية البصرية التي تترا أمام ناظريه مُشكِلة عالماً خاصاً يفتقد إلى البعد الثالث، عالماً شريطياً يُنسي فيه اللاحق السابق وكأنه لم يكن”.
يجب أن نؤكد في أي نقاش فكري أو سياسي أو مجتمعي على نقاط جوهرية ضرورية لأي مجتمع أو دولة أو أمة هي كالتالي:
1- يجب أن نبتعد عن لغة النوايا .. كالقول بأنك تقول ذلك من أجل غاية في نفسك هي كذا .. . يجب أن نناقش الظاهر وأن نحسن الظن بالناس فالله يتولى السرائر . وكما تقول الحكمة: “خصلتان ما بعدهما في الخير خصلة حسن الظن بالله وحسن الظن بالناس ….. وخصلتان ما بعدهما في الشر خصلة سوء الظن بالله وسوء الظن بالناس”.
2- يجب أن نطبق فعلاً لا قولاً درر وجواهر قال بها علمائنا. ولكن للأسف نكثر الحديث والتغني بها.
كمقولة الإمام الشافعي: “والله ما جادلت أحدا إلا وتمنيت أن يُظهر الله الحق على لسانه دوني” وقوله كذلك: “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب”. و قول الإمام أبو حنيفة: علمنا هذا رأى وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه”.
3- يجب أن ندرك أن الغاية هي في البحث والاستقصاء عن الحق أو الحقيقة، فالحقيقة المطلقة لا يمكن أن نصلها ويظل إدراكنا لها نسبي، ومن يدرس نظرية النسبية وميكانيكا الكم يدرك أن كل ما يؤمن به الناس إيمانا مطلقاً بأنه ثابت هو علمياً نسبي.
وفي ذلك يقول الفيلسوف ليسنغ”: Lessing لو أخذ الله الحقيقة المطلقة في يمناه والشوق الخالد للبحث عن هذه الحقيقة في يسراه، ومعها الخطأ لزام لي، وسألني أن أختار؟ إذن لجثوت ذليلا عند يسراه بكل تواضع، ثم قلت يا رب: بل أعطني الرغبة إلى البحث، لأن الحقيقة المطلقة لك وحدك”.
وهذا أقره خير البريئة صلى الله عليه وآله وسلم منذ 15 قرناً تقريباً . حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة » [البخاري: (1/321) (904)، مسلم: (3/1391) (1770) … ولكن أصحابه صلى الله عليه وسلم اختلفوا ، فمنهم من فهم الاستعجال وإذا حضرت الصلاة في الطريق سيصلي، ومنهم من فهم الاستعجال والصلاة في بني قريظة، ولو خرج الوقت ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وآله وسلم فأقر هؤلاء وأقر هؤلاء!!!!
و من المؤكد أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقصد وقت أن قال مقالته إلا مقصداً واحداً، وكان بإمكانه أن يبين ذلك، ولكن كانت غايته هي البحث والاجتهاد في طلب الحق، مع الإدراك بأن فهمنا لها نسبي، هو ما أراد صلى الله عليه و آله وسلم أن يرسخه في أذهان أصحابه ونحن من خلفهم.
الادعاء بأنك تمثل القيم المطلقة كالحق والحقيقة له نتائج جد خطيرة، أهمها التالي:
1- من يدعي ذلك لا يمكن أن يراجع أفكاره وأن ينتقد ذاته وأن يفتح المجال لتصحيح ما قد يلفاه من أخطاء. فهل يمكن مراجعة الحق المطلق وبذلك نصاب بالتحجر والجمود والتحنط، ونعيش خارج الواقع. أما من يؤمن بأن ما يقول أو يراه أو يفسره هو نسبي يظل دائما على استعداد للمراجعة وللنقد وعدم إضفاء القدسية على تلك الآراء.
2- هذه الثقافة تتيح لصاحبها بما أنه يساوي القيم المطلقة أن ينظر في نوايا البشر، ويعرف منها بقدر معرفة الله عز وجل (والعياذ بالله) .. فثقافة أنا أساوي الحقيقة المطلقة والقيم المطلقة والخير المطلق. وهذه الثقافة لا ينتج عنها إلا إلاقصاء وإلغاء يصل لدرجة القتل. وليس القتل فقط، بل والسب والشتم بعد القتل!!!!
وهذه الثقافة انتشرت كذلك في أوربا وأمريكا ، فتسمية جورج بوش للجملة ضد أفغانستان (العدالة المطلقة) خير مثال لذلك، إلا أنه تراجع عن هذه التسمية تحت وطأة الانتقادات التي وجهت لهذا التسمية.. كذلك من ليس معنا فهو ضدنا.. وعموماً اليمين المحافظ غالباً ما تسيطر عليه هذه الثقافة.
وغالباً ما تكون هذه الثقافة نتاج نفسية مضطربة إما بزهو القوة والانتصار أو بانكسار الضعف والهزيمة أو التشكك وعدم الثقة بالآخرين أو بالتكبر والإعجاب بالرأي أو الفكر فردياً كان أو مذهبياً أو حزبياً، ومن تربية تغرس هذه القناعات في الأطفال والشباب حتى تصبح كاسمه من العسير جداً أن يتخلى عنها.
في القانون درسنا احترام الأحكام القضائية (طبعاً التي تصدر في دول حرة ووفقاً لإجراءات عادلة)، ولو صدرت بتأييد جميع القضاة في جميع مراحل التقاضي الثلاث، ابتدائي، استئناف، محكمة عليا!! أي أن ما نطق به الحكم قد يؤيده أحياناً 11 قاضياً!! غير أنه درسنا أيضاً أن الحقيقة التي يكشف عنها الحكم هي الحقيقة القضائية!! وليست الحقيقة المطلقة أو الفعلية فتلك في علم الغيب .. أي أنه يجب عليك أن تحترم ما نطق به الحكم، ولكن هذا لا يمنع أن تعتقد أنه خاطئ وأن تنتقده لكي لا يتكرر ما تراه خطأ مستقبلاً.
ما يرضاه أغلبية الناس نحترمه، وهذا لا يعني أننا نقره إذا اعتقدنا خطاءة وزيغه، بل يجب أن نجاهد بالأفكار والحجج حتى نقنع الناس بما نراه الاصوب والأفضل.. فها هو الله عز وجل يخاطب صلى الله عليه وآله وسلم فيقول تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)). ويقول تعالى: ((إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)) ويقول عز وجل ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ)).
كل هذه الآيات رغم أن الإيمان حقيقة مطلقة، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يريد الإيمان إلا بالاقتناع، فالإيمان بالإكراه والغصب والقسر أو الذي يسلم به كل إنسان يلغي قيمة الإيمان وفكرة الحساب واليوم الآخر من أساسها.
يقول صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً أحد قادته العسكريين: وإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ”.
أفهامنا تظل قاصرة، والحياة رحلة في محاولة تجسيد تلك القيم، وهي لن تتجسد على ارض الواقع أبداً، إلا بالمقدار البشري المتعارف عليه.. فعلينا أن نتفق على معيار الأغلب من الناس في احترام الآراء والأفكار، مع إتاحة المجال لنقدها وتبيان خطئها إذا اقتنعنا بعكس ذلك وبأساليب حضارية إنسانية تبتغي من وراء ذلك صلاح الناس.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً