خمس عجاف.. وها هي أخطرهم تقرع أبوابنا!

خمس عجاف.. وها هي أخطرهم تقرع أبوابنا!

عز الدين عقيل

كاتب سياسي ليبي

الجزء الثاني من مقال: “بعد أن أغرقت الليبيين بصديد سياساتها.. هل تكون ليبيا هي جحيم واشنطن الثالث.. فور انتهاءها من تفحم أوكرانيا وغزة!؟”

كنا قد انتهينا في الجزء الأول من هذه الورقة، من بيان طبيعة الصراعات الأجنبية والسياسات الأمريكية المتوقع تفجرها في ليبيا خلال ولاية ترامب الجديدة، كما ألقينا بذلك الجزء ضوء خاطفا – سنسعى لزيادة سطوعه بما بقى من أجزاء هذه الورقة – على مآلات السياسات الأمريكية التي كانت (واشنطن – بايدن) قد خططت واستعدت ومهدت لإغراقنا بصديدها خلال هذه المرحلة، التي بدأتها عمليا بإطلاق أولى بواكير سياساتها الاستحواذية على ليبيا بما خاضته من دفع عنفي لإجراءات سيطرتها على البنك المركزي، وهو ما  ظلت تواصل الخوض بإتمام إجراءات إطباقها عليه بما تسميه (بالترتيبات المالية) حتى لحظة الإعلان عن سقوط الديمقراطيين بالانتخابات الأمريكية، وكانت أولى الوجوه العنيفة لسياسات (واشنطن – بايدن)  الاستحواذية خلال هذه المرحلة قد ظهرت بتنفيذها لانقلابها المباغث ضد صبيها (ولد الكبير) المنتهية صلاحيته، وهو الانقلاب الذي ما تزال توابع زلزاله تضرب البلاد حتى اليوم، بما باتت تشهده مؤسسة النقد الليبية الأعلى، من فوضى وصراعات وتخبط وارتباك، وهي ذات السياسات الأمريكية التي ما يزال “رباعي جنيف” الذي نفذ انقلابها الأول بنظام المقاولة، يهدد بمواصلة هز البلاد بباقي التطبيقات الانقلابية لهذه السياسات الدخيلة، التي تخفي وراءها أشد التهديدات بإشاعة الفوضى العنفية في البلاد (المتدلية أصلا من قرن ثور)، وتقويض ما بقي من استقرارها البالغ الهشاشة، ورفع احتمالات توريط الجماعات المسلحة والمجتمعات المحلية بحروب أهلية، ستكون أخطر من حرب المطار، وحربي الرجمة في بنغازي وطرابلس.

حيث ها هو “رباعي جنيف” ما يزال يلوح بمضيه قدما بفرض إجراءات (واشنطن الاستثنائية)، بعد أن  اختارته ليكون على رأس سلسلة المفترسين بالغابة الليبية، كما اختاروا هم أيضا أن يكونوا “أربع هراوات” بيد واشنطن عن رضى وحماسة وطيب خاطر: ظانين ظن الجاهلية بأن “هوية الهراوة” ستطيل مكوثهم بأوكار السلطة وبقاءهم فوق رؤوس الجميع، وذلك على الرغم من جهلهم المطلق والمطبق حتى هذه اللحظة، بطبيعة القوة التي ستوفرها لهم واشنطن لتنفيذ انقلاباتهم القهرية لإلحاق كل غرماءهم الآخرين بمصير المغدور ولد الكبير، باستثناء تكهنهم السطحي بأن هذه القوة ستُنفذ عبر تسكعهم بجنائن ما وصفه الكوني “بحواري الطوارئ”، والذي قدمه لليبيين (أي هذا التسكع) كما لو كان ترانيم بودية لجلب الحظ والنجاة، أو تعويذة صوفية يحق بها لرؤوس “رباعي جنيف” أن تتساوى مع رؤوس ملائكة بدر، التي جاءت بالنصر للمسلمين وهم قلة ضعفاء، حيث يظن هذا الرباعي ظن الهلاك، بأن واشنطن ستزودهم بقوة، على غرار تلك التي سبق لها وأن وفرتها لهم لاقتحام البنك المركزي (رغم يقينهم بأن تلك القوة لم تكن إلا حبلا فُتلته لهم من شواربهم)، ليّجرُوا به ولد الكبير من ساقيه بسهولة ويسر وهو يصرخ حتى رميه على الرصيف، وذلك قبل أن يفر هاربا إلى منفاه الأخير، وهو المصير الذي لطالما انتهى إليه الآلاف من صبيان واشنطن ممن سبقوا “ولد الكبير” إلى أرصفة بلدانهم، فور تحولهم إلى محارم ورقية ملوطة بالمُخاط آو الغائط الأمريكيين، لتدوسهم النعال ويطويهم التاريخ وهم منبوذون بالعتمة (هذا بحال نجو من إراقة دماءهم)، وأما أم الكوارث هنا، فهي جهل “رباعي جنيف” كليا بحقيقة حجم وعمق مآلات وعواقب تورطهم بتقليد السيسي وسعيّد في ليبيا، بركوب سياسات أجنبية بالغة الخطورة، يجهلون حتى القاع، حقيقة أفخاخها ببلاد ما يزال أصحاب هذه السياسات الأجنبية أنفسهم، يمنعون أهلها قهرا وظلما وبنوايا مبيتة وصلفة ومتعمدة، من استعادة جيشهم، كما أنه لا يجب النظر إلى حالة الخرس التي أصابت “رباعي جنيف” خلال هذه الأيام حيال مواصلة تمجيدكم للأحكام العرفية ودعايتهم للانقلابات وتغزلهم “بحواري طوارئ الكُونِي”، على أنها تراجع منهم على ما تعاهدوا عليه مع (واشنطن – بايدن) على إعلان ثورة التصحيح الليبية، وإنما هو خرس قهري وطارئ أصله إصابة السنتهم بشلل (اللايقينية) المقلق، الذي ساقهم إليه مكرهين، إغلاق واشنطن لأبوابها بوجوههم، انتظارا لتغيير السحنات بالبيت الأبيض، أو بمعنى أدق انتظارا لانكشاف إذا ما كان ترامب سيبقيهم على رأس سلسلة المفترسين بالغابة الليبية، أم أنه سيجعلهم فرائس لمفترسين جدد!!؟ وإن كانت ضحالتهم السياسية وجنسية المواطن الأمريكي محمد المنفي ستضمن لهم غالبا البقاء بصف المفترسين.

إن السياسات الأمريكية الاستحواذية الموجهة لهذه المرحلة الخامسة والأخطر في ليبيا، أو ما يحلو لبعض الأوساط البحثية في واشنطن تسميتها (بالجيل الخامس من سياسات إنهاك ما قبل الافتراس)، والتي تقودها المخابرات الأمريكية كليا، وتنفذها حكومة واشنطن السرية المصغرة في ليبيا، المكونة [من قائد أفريكوم، ومبعوث بايدن، والقائم بأعمال السفارة الأمريكية، والمرأة المستنسخة بالبعثة الأممية، ومديرة محطة مخابراتهم في البلاد]، ما تزال تطبيقاتها تتواصل رغم تعطلها جزئيا أو مؤقتا، نتيجة التعليمات التي صدرت لهذه الحكومة السرية بتبريد أنشطتها في ليبيا، واتخاذ خطوات إلى الوراء، إلى حين ظهور الإدارة الأمريكية الجديدة، وعلى رأسها (بالنسبة لليبيا) ظهور القائد الأساسي وهو: رئيس السي آي أيه الجديد، ولعل هذا ما تسبب بفشل اجتماع تونس الأخير، الذي جاء ضمن سلسلة لقاءات ما تسميه واشنطن على غرار القذافي – مع فارق النوايا الجسيم –  “بالترتيبات المالية لتوزيع الثروة بين الليبيين!!”، وهي الترتيبات التي باتت واشنطن تزحف من خلالها نحو الموارد الليبية، زحف أفعى الاناكوندا الرهيبة نحو فريستها، والتي ما أن تشفطها بين عضلاتها الجهنمية المروعة، حتى تعصرها وتسحق عظامها وتبتلعها برمتها، قطعة واحدة، جلدا ولحما وفرتا وعظما.

ولأن الولوج إلى فهم سياسات المرحلة الأمريكية الراهنة أو الخامسة في ليبيا، وإدراك طبيعة خطورتها إنما يتطلب الدراية بطبيعة حزمة المراحل الأمريكية التدميرية الأربعة السابقة لها، أو مراحل (الإنهاك والاذلال المعنوي) الأربع لليبيين، والتي جاءت في أعقابها هذه المرحلة الراهنة، أو الخامسة ترتيبا، أو ما تسمية النخبة الأمريكية (بمرحلة الضربة القاضية)، فلقد كان من المهم جدا بحسب تقديري التعرض إلى الكشف عن (سياسات العض التصاعدي بأسنان تنين الكومودو المقرف، التي تنهك بجراثيمها كامل جسد الفريسة وتؤسس لسقوطها المؤكد نتيجة إصابتها بالتسمم حتى بحال فرارها أو بحال جاءت عضات الكومودو التالية أقل انغرازا بلحم الضحية)، حيث انتهجت واشنطن سياسة غرز أسنان تنين الكومودو بلحوم الليبيين، منذ إسقاطها الحر لدولتهم بالعام 2011، من خلال تعبئة سنوات ما بعد السقوط بأربع مراحل تأسيسة إنهاكية، وذلك قبل بلوغها للمرحلة الراهنة أو الحالية أو الخامسة، والتي سنتعرض لتحليلها بشكل موسع بجزء قادم من هذه السلسلة، بسبب أهميتها أو خطورتها البالغين، حد وصف الصحفية الشهيرة نعومي كلاين لهذا النوع من المراحل “بمرحلة الضربة الأخيرة لـ عقيدة الصدمة”، والتي أتصور أنها لا بد وأن تضيف ليبيا إلى النماذج المرعبة لمجموعة الدول التي سبق لكلاين وأن أوردتها بكتابها الذي نشرته تحت هذا العنوان، بأي طبعة جديدة لهذا الكتاب المرعب.

مرحلة الإنهاك الأولى

لقد كانت أولى مراحل واشنطن المروعة في ليبيا، هي مرحلة “عدوان تحالف غدر الأوديسا”، والتي تم خلالها قتل وإسقاط ثلاثي سيادة وهيبة الدولة وهم (العسكري والشرطي والقاضي)، لقد كانت واشنطن تعلم يقينا (كما علماء السياسة والاجتماع) بأن كلا من “الروحين” المادية والمعنوية لهؤلاء الثلاثة، إنما تقع مجتمعة بصدر مؤسسة الجيش، وإن هؤلاء الثلاثة هم أول الهالكون لا محالة، فور موت أو انهيار جيش بلادهم، وتعد هذه الحقيقة من نافلة القول، بالنظر إلى إحاطة واشنطن نفسها بالآلاف العلماء ومؤسسات التفكير المحترفة، إضافة إلى عمق خبرتها القديمة والكبيرة بتقويض وتفكيك جيوش ألمانيا واليابان وفيتنام والعراق، إلى جانب خبرتها الواسعة بسحق الجيوش وتفكيكها، التي اكتسبتها من توريطها لعشرات النماذج من الدول بانهيار جيوشها وإغراقها بحروب أهلية ونزاعات مسلحة، حيث إنه لطالما كان لواشنطن يدا مباشرة ودورا بارزا بعشرات الانهيارات العسكرية واشتعال الحروب الأهلية، التي جرت وسط ظلمات الحرب الباردة، ولا سيما على امتداد العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، وعليه فلقد كان أول من اتجهت واشنطن إلى سحقه بغدر أوديستها في ليبيا، هو جيش البلاد، الذي بدأت بتفكيكه عمليا قبل حتى أن تنجح بإسقاطها للدولة الليبية، وذلك بشن أبشع الحملات الإعلامية للتشنيع به خلال شهور الحرب التي فرضتها على البلاد بالعام 2011، وتصويره على أنه مجرد عصابة مسلحة من القتلة الذين لا يعترفون بغير القذافي، ولقد تجسدت ذروة المأساة وسخرية الأقدار، في أنه في الوقت الذي كان فيه فجور الحملات الإعلامية الأمريكية يجتاح ويصدح بكل وسائل الإعلام الإقليمية والدولية لتشويه سمعة الجيش الليبي، كان الآلاف من أبناء هذا الجيش قد فروا منه بذات هذا الوقت.

بل أن الآلاف منهم (تقول إحصائيات بأنهم قد تجاوزوا الثلاث آلاف عسكري) قد فروا إلى تونس ومصر، وهم راضون بحياة شظف العيش فيهما، لأنهم صدقوا الضلال الأمريكي بأن جيشهم سيء وقاتل، كما كان أيضا المئات من القادة العسكريين (بذات الوقت الذي كانت فيه واشنطن تنشر فجورها عنهم) إما أنهم قد رفضوا تنفيذ أوامر عسكرية عنفية وقتلوا أو اعتقلوا، وإما أنهم قد قاموا بتنفيذها، ولكن بصورة فرغتها كليا من مضمونها، وذلك حتى بالحالات التي كانت فيها فرقا منهم تواجه مسلحين لا تُعرف لهم هوية، والذين تأكد لاحقا (وبتقارير دولية وبشهادات قادة غربيين أدلوا بها بمذكراتهم بينهم كلينتون وأوباما وكاميرون) بأنهم كان بينهم الكثير من الإرهابيين الأجانب والمرتزقة والجنود الإنجليز والفرنسيين، كما كان آلاف آخرين من أبناء ذات الجيش (وبذات الوقت الذي كان يصدح فيه الفجور الأمريكي بتشويه سمعتهم) قد اختاروا الاتجاه بأسلحتهم للوقوف بصف ما اعتبروه حق شعبهم بالانتفاض والتغيير، بيد أن ما لم يخطر ببال أبناء جيشنا أبدا – بسبب تواضع وعيهم السياسي – هو اتجاه الروح الإمبريالية الأمريكية فور إسقاطها لبلادهم، إلى تحويلهم إلى أول عدو لانتفاضة شعبهم، بل وجعلهم أول ضحاياها، بتوريطهم بدفع أفدح الأثمان، وبينها تركهم  كفرائس عزلاء لجماعات إرهابية لتقطع رؤوس الكثير منهم، وهي الجماعات التي بلغت ضراوتها حد وصولها إلى السفير الامريكي كريس ستيفنز نفسه وقتله وهو بعقر داره رغم شدة الحماية التي كانت تحيط به.

ولقد ارتكبت واشنطن كل هذه الخطايا بحق جيشنا، وعن سابق إصرار وتصور، بذات الوقت الذي ساعدت فيه نفس هذه الواشنطن، قيادات وأركان من النظام الذي أسقطته، (ومنهم من تورطوا بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق الليبيين لسنوات) ليس على الفرار من ليبيا إلى دول أخرى حيث الأمان والازدهار فحسب، بل ولقد صنعت من عدد ليس بالقليل منهم، حلفاء لها، وقادة رئيسيين لدولتها الفبرايرية الراهنة، وذلك بعد أن سرقت انتفاضة الليبيين من بين أيديهم، وصنعت نتيجة انتفاضتهم أداة لتعذيبهم، بيد أن هذه الواشنطن التي أبقت على كل المؤسسات المحشورة بالأموال والرزق التي تركها القذافي من بعده رغم أنها لم تكن موجودة قبل حكمه، لم تتجه بالتدمير والسحق لمؤسستي الجيش والأمن حصرا، إلا لسبب واحد ووحيد، وهو أن هاتين المؤسستين هما اللتين كانتا سيتصديان لها ويمنعانها من كل العذاب المهين الذي تسومه لليبيين منذ الـ2011 وحتى ساعتنا هذه.

وحتى تتأكد واشنطن من نجاحها بدفنها للجيش الليبي وإهالة التراب عليه كليا، فقد اتجهت فور نجاحها بتتويج استغلالها الشنيع لعواطف الليبيين حتى نجحت بوضع نعلها على صدر القذافي، إلى ما تعتبره ضرورة استراتيجية وأولوية ملحة بهذه المناسبات لقفل باب “إفناء جيش”، وهو نزع أسلحته (تدميرا ومصادرة)، حتى آخر حربة دفاعية استراتيجية بين يديه، ولقد أوغلت واشنطن بعملية نزع سلاح الجيش سرا (لكون هذا النزع لم يرد بقرارات مجلس الأمن) بصورة ممنهجة وشاملة حد قيام واشنطن بواسطة (بواسطة طائرات أمريكية تحركت تحت غطاء النيتو) بقصف مخازن أسلحة دفاعية متطورة بمرتفعات الرجمة، في الوقت الذي لم تكن فيه المنطقة الشرقية للبلاد مشمولة أبدا بنفاق قرار (حماية المدنيين)، وذلك بالرغم من موالاة قوات الجيش بشرق البلاد للانتفاضة، بل وإعلان تمردهم الشامل على النظام وانضمامهم إليها عن بكرة أبيهم، وبالرغم أيضا من أن المدنيين بتلك المناطق كانوا قد أضحوا (بحسب ما كانت تلوكه واشنطن نفسها بنفاقها الدائر بتلك الأيام) آمنين تماما تحت حراسة ساركوزي الذي سرعان ما لحق به تحالف غدر الأوديسا بمهمة الحراسة والفصل الترابي للبلاد، ولقد اعتبر الكثير من المراقبين وقتها (وبينهم تقريرا مهما صدر عن المجلة الاسكندنافية للدراسات العسكرية) بأن إصرار واشنطن على مواصلتها تشويه رجال الجيش حتى عقب إسقاطها للدولة، وإيغالها بتدمير الأسلحة الدفاعية الاستراتيجية للبلاد، وملاحقتها للأسلحة الدفاعية للدولة أينما وجدت، والتي كان من بينها تدميرها لعشرات الطائرات الحربية وزوارق خفر السواحل التي كانت تستخدم بمكافحة الهجرة، رغم يقين واشنطن بعدم قدرة تلك الأسلحة على دخول المعركة بسبب حاجتهما للصيانة، قد أكد يقينا بأن (هذا النزع) إنما شكل بنوك أهداف رئيسية لدى واشنطن قبل حتى تبدأ بشن عدوانها على البلاد، بل ولقد اعتبر عدد من هؤلاء المراقبون – ومنذ وقت مبكر – من انطلاق عمليات تجريد البلاد من أسلحتها الدفاعية الاستراتيجية، بأن هوس واشنطن بهذا النزع في ليبيا، إنما هو شاهد قوي ومؤكد على أن واشنطن لن تسمح أبدا بعودة الجيش الليبي، وأنها تخطط لتفكيكه لصالح مسخ آخر ستقوم بصناعته بنفسها، وعلى غرار ذلك الذي صنعته في أفغانستان، قبل أن تعيد تفكيكه قبل ساعات من هروبها المخزي من ذلك البلد الفقير المحطم.

إذ لم يكن من الصعب على الكثير من أولئك المراقبين إدراك أن ما كان يجري لم يكن حماية مدنيين، وإنما كان غزوا أمريكيا صريحا لأرض جديدة، وإلحاق كل من يقاومهم من أبناءها بمصير الهنود الحمر الذين تصدوا لهم حين اجتاحوا أرضهم يوما بنية نزعها منهم، لا سيما وإن واشنطن التي جردت الليبيين بنزعها الشديد العدائية من كل قدرات دولتهم العسكرية، كانت تعي تماما بأن كل أسلحتهم كانت أسلحة دفاعية، ومصممة بالأساس لتحقيق الردع الإقليمي، وليس لاجتاح دول الإقليم أو غزو الاتحاد الأوروبي، بيد أن واشنطن التي طاردت عدد من الأسلحة الدفاعية المهمة ومن بينها صواريخ ستينجر الحرارية المحمولة على الكتف وغيرها، قطعة قطعة، وبتضور لا يشبهه إلا تضور المدمنين بمطاردة جرعات المخدر، لم تنسى أبدا ترك ما يفيض عن حاجة الليبيين من الأسلحة المفضلة لدى الدول الفاشلة (وبيئة) النزاعات المسلحة والحروب الأهلية إلى خلقتها وعززتها في البلاد، وذلك حتى توفر لنفسها أهم معاول إدارة مثلث (الفوضى، والعنف، والفساد)، وهو ما نجحت به فعلا، وخلال بضع سنوات فقط، بجعل الخراب يعلو الأرض في كل مكان ليبيا، وجعل خط فقر البلاد التي كانت تزخر وتعج قبل عقد ونيف بالأرصدة والموارد الضخمة، يقترب من خطوط أمثاله بتشاد والنيجر، مع انتشار تنبوءات سوداء عن المستقبل المعيشي للبلاد، ظهرت حقائقها بتقارير اقتصادية صدرت عن عدد من المؤسسات المالية والاقتصادية المرموقة.

مرحلة الإنهاك الثانية

وأما ثاني هذه المراحل المروعة فقد انطلقت فور سقوط العاصمة، وهي مرحلة (إطفاء ذاكرة الدولة وتفكيك وجودها المؤسسي، وتفريغها من كافة كوادرها، وردها إلى صورة مجتمعات العصر الحجري)، بيد أن الجزء الأبشع من هذه المرحلة كان قد نُفذ تحت جنح ظلام ليلة سقوط العاصمة، الواقع في الثاني والعشرين من أغسطس من العام 2011، وهي الليلة التي شهدت أكبر عملية نهب في التاريخ (للذاكرة الوطنية لشعب) و(لكل قواعد بيانات البلاد السياسية والعسكرية والأمنية والمالية والقضائية والتاريخية)، مقارنة بكل ما جرى من عمليات نهب مماثلة على امتداد الـ500 عام الأخيرة من تاريخ العالم، ما جعل من إسقاط واشنطن أو غدر الأوديسا (حيث لا فرق) للعاصمة الليبية طرابلس بتلك الليلة، لا يختلف أبدا عن اجتياح المغول لبغداد وإسقاطهم لها بالعام  1258م، مع فارق أراه شخصيا لصالح بغداد، وهو أنه في الوقت الذي كان فيه الكثير من أهالي بغداد متفطنين تماما لذلك العدوان،  حد استعداد فرق منهم لمواجهته على تواضع قدرات أولئك البغداديين مقارنة بتوحش جيوش المغول، فإن مأساتنا نحن الليبيون، التي مثلث أشد صور الكوميديا السوداء قتامة بعلاقتنا مع ليلة نهب تاريخنا وذاكرتنا وأسرارنا الأخطر، هو انشغالنا في اليوم النظير لسقوط بغداد، بالرقص في الشوارع فرحا وابتهاجا بقدوم المجهول الذي ولجنا إليه، والانشغال بنحر الإبل احتفاء بتلك الليلة الليلاء، التي لو كنا ندرك شناعة ما كان يجري فيها بأهم وأغلى مؤسساتنا، لتحولنا جميعنا إلى أجساد مفخخة ضد أولئك المجرمين الغزاة، لمنعهم من تحويلنا بما ارتكبوه فيها، إلى مجرد مهابيل فاقدين للأهلية، أو زهايمريين فقدوا أعز  ذواكرهم، حيث وبينما أضرم المغول النار ببغداد وسكانها ودفعوا بكل ذواكرها (من وثائق وسجلات الدواوين ونفائس كتب) إلى نهر الفرات، حتى تلونت مياه النهر بلون أحبارها، ليصنعوا من تلك الكنوز جسورا وطئوها بسنابك خيلهم ذهابا وإيابا بين ضفتي الفرات، فإن مغول الـ2011 المكونين من المخابرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والصهيونية، ومعهم أجهزة مخابرات دول أخرى، يعود بعضها إلى دول شقيقة، قد قاموا بالتفكيك السري، فور تسللهم لأشد مؤسساتنا أهمية وتحصينا على رؤوس أصابعهم، حتى لا يوقظوا الراقصين من سكرات رقصهم، ولا يُشغلوا ناحري الإبل عن التعبير عن فرحتهم ومباركتهم لما يجري بإراقة الدماء، لخزائن وإدراج كل مقر وكل طابق وكل غرفة، من مقار وغرف وإدراج وخزائن مقار الدولة الحساسة والسرية، بما فيها إدراج غرفة نوم القذافي نفسه، ليجردوا البلاد في تلك الليلة، وعبر عملية نهب ساحقة لا سابقة لها في التاريخ، من كل وثائقها وملفاتها وقواعد بياناتها، حتى آخر وثيقة وآخر ملف وآخر بيان من بيانات المنظومات العامة والسرية للدولة الليبية، وإلى الدرجة الحضيضية التي رخُصت فيها أخطر أسرارنا وأشدها أهمية لنا ولتاريخنا ورخصنا معها وهُنَّا على الناس، حتى قيام قناة الجزيرة بنشر جانبا كبيرا من تلك الأسرار (التي لا يعرف أحدا حتى اليوم إن كانت تلك الكمية الضخمة من الأسرار قد عثر عليها مراسلوها أثناء مرافقتهم لاقتحامات مؤسسات الدولة المنتهكة والتي ظهروا فيها جميعا، كما لو كانوا عملاء مخابرات أو عفاريت أو قادة لتلك الهجمات، أم إنهم قد اشتروها من عملاء لهم، أم أنهم قد تحصلوا عليها من مواطنين عثروا عليها وهم لا يعرفون قيمتها عند اقتحامهم لمقار الدولة الحساسة، بعد أن تركتها لهم أجهزة المخابرات الأجنبية الضارية وهي مشرعة الأبواب، بعد أن أخلتها من كل سمين فيها) على حبال غسيلها، كما  تُنشر الملابس الداخلية للمومسات على حبال الاغواء بواجهات بيوت الدعارة، وذلك قبل أن تتوقف تلك القناة فجأة عن ممارسة ذلك الاستعراض المُدمي للقلوب الشريفة، بسبب ضغوط (ذكرت الأنباء يومها بأنها أمريكية) كان وراءها بحسب مراقبين، خوف واشنطن – وربما الجزيرة أيضا – من إثارة الرأي العام المحلي ضدهما بممارسة الجزيرة لذلك الاحتقار المهين والاستعراض الفاحش لأسرار الليبيين، وما تضمنه ذلك الاستعراض من خسة واستفزاز تصورت واشنطن أنه قد يعرض أرواح الأجانب وموظفي الجزيرة الذين كانوا يملئون البلاد بتلك الأيام، لإخطار الانتقام والثأر منهم، بشارع كان ما يزال ينزف وهو منقسم على نفسه حتى الموت، ويفيض بالغضب والفوضى ومظاهر غياب الدولة من ساسه إلى راسه، ولقد أضحى حري بكل ليبي منذ ذلك التاريخ، أن يلازمه الشعور بأنه لم يعد عاريا فحسب أمام الأمم، ولا سيما الفاجرة والمجرمة واللقيطة منها، من التي انتهكت اعقار أهم دياره، بل ولقد أضحى هذا الليبي، أمامها وأمام غيرها كشخص عاري رُبطت يداه خلفه وهما قائمتي الزاوية، بحيث لا يمكنه الاستعانة بهما، لا بستر فرجه، ولا بستر دُبره.

وكان أن فتحت هاتين المرحلتين أبواب البلاد على مصاريعها أمام (إتمام إسقاط الدولة والانطلاق بتفكيكها) وهو ما بدأته واشنطن بإعلان فرض الوصاية الأجنبية على البلاد، أو إعلان الاحتلال السياسي الأممي للبلاد ظاهرا، والإنجلوسكسوني جوهرا.

ولقد قررت واشنطن أن تبدأ هذه المرحلة الثانية من الناحية العملية (بإخفاء جثماني القذافي والدولة معا)، حيث لم يكتفي الإنجلوسكسون خلال هذه المرحلة بتصفية القذافي والدفع بجثمانه إلى المجهول فحسب، بل ولقد ذهبوا بجثمان الدولة أيضا وبرمته إلى مجهول أكثر غموضا وأشد رعبا، وذلك بالجمع بين نهب شخصية وذاكرة وهوية الدولة الليبية خلية خلية وعصبا عصبا، وبين تنفيذهم لما هو أخطر وأشد هؤلاء، وهو تفكيك المؤسستين العسكرية والأمنية، وكل قطاعات الدولة المدنية قطاعا قطاعا وقسما قسما وإدارة إدارة، وتقويض الإدارة الاستراتيجية للدولة على رأس شعبها، حتى تسويتها بالأرض، وخلق مسخا بديلا لها، وحشره حشرا بالروبيضات من الجائعين الشرهين للخيانة والعنف والفوضى والفساد، من الأميين وأشباه المتعلمين والمراهقين وخريجي السجون، طالما أنه لا يمكن لغير هؤلاء مساندة واشنطن بدفع البلاد إلى المصير التي قررت دفعها إليه، منذ انطلاق تحشيدها لإصدار قرارات إسقاط البلاد عنفا عن مجلس الأمن.

ثالث مراحل الإنهاك

وأما ثالث هذه المراحل، فهي مرحلة (التمزيق السياسي لليبيا)، أو مرحلة توريط البلاد بالتوازي الحكومي والمؤسسي المتواصل والمستمر بتعذيب البلاد وتشظيتها منذ الـ2014 وحتى لحظتنا هذه، ولأن هذه المرحلة تعد من أكبر وأخطر مراحل تنفيذ السياسات الأمريكية الموجهة إلى تحقيق أولى  عمليات الإنهكاك الكبرى، فقد كان لا بد لتحقيقها من إطلاق واشنطن لثلاثيثها الجهنمية التي تكونت من ثلاث مهام بنيوية، والتي كُلف طارق متري بتنفيذ أولها، وهي توريط البلاد بإعادة تجربة الانتخابات النيابية، بدولة فاشلة لا جيش فيها، ولقد حذرته شخصيا من العواقب الوخيمة لإجراء تلك الانتخابات مرتين، إحداهما بصورة شفوية والأخرى كتابة، حيث حذرته في الأولى علنا وباجتماع رسمي كبير كان يعج بكبار مسؤولي البلاد، وحذرته في الثانية بكتاب صادر عن حزب الائتلاف الجمهوري سُلم إلى مستشاره السياسي المدعو معين شريم، ولقد تم تنبيهه بالتحذيرين إلى أنه سيتسبب بتقسيم البلاد بحال ورطها بانتخابات جديدة قبل السماح للمؤسسة العسكرية المعطلة عمدا بالعودة إلى القيام بدورها الوطني البالغ الضرورة والأهمية، ولكنه لم يسمع ولم يهتم ولم يبالي بغير تكرار جملة غبية وهي أنه يخشى على “ثورتنا وديمقراطيتنا الناشئة من الانقلابات العسكرية”!! بينما كانت الحقيقة أن أوامر واشنطن كانت أكبر وأخطر بالنسبة إليه من أن يخالفها، فجاء على يديه ما سمي بخارطة فبراير التي ولدت البرلمان، الذي تسبب بدوره وبالتضامن مع شريكه المؤتمر الوطني العام “بتقطيع أوصال البلاد”، وأما ثاني مهام هذه الثلاثية الجهنمية، فقد استخدمت فيها واشنطن مليشيات ثورجية همجية وجاهله، لم تجد كبير عناء بدفعها إلى إشعال حرب بحجم حرب فجر ليبيا، التي كانت أول حرب أهلية حقيقية تؤسس لفكرة الصراع على النفوذ والغنيمة بين الليبيين، وانتهت إلى اقتراف جريمة حرب مروعة بإضرام الجحيم بمطار وطائراته، وأما ثالثة مهام هذه الثلاثية، فكانت تدبير واشنطن لانقلاب المؤتمر الوطني العام على المسار الانتخابي (الذي كان طارق متري يخشى أن يأتينا من الجيش)، وكحلقة جوهرية مكملة لانقلاب (التحالف الإيديولوجي الجهوي داخل المؤتمر الوطني العام) على المسار الانتخابي، دبرت واشنطن مهمة فرار المدعو عبد الله الثني إلى شرق البلاد، لتفتح علينا أول أبواب جحيم الانشقاق السياسي والتوازي الحكومي والمؤسسي في البلاد على مصاريعه، وليتحول هذا المسلسل ومنذ الـ2014، إلى قداحة واشنطن المفضلة التي لا تكاد تفارق يدها حتى هذه اللحظة، بإضرام نيران الفتن وإذكاء الصراعات وتفجير العنف والدماء بين الليبيين وحرق ثروات ومقدرات البلاد حتي التفحم.

رابع مراحل الترويض والإنهاك

وأما رابع هذه المراحل فهي مرحلة (التقسيم الترابي للبلاد)، التي أُنجزت بواسطة تدخل شخصي مباشر ومخادع من كلا من دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وجون بولتون مستشار الأمن القومي للرئيس، وهو التدخل الذي نفذه هذين الأخيرين بإعادة استنساخهما لذات الخديعة التي سبق وأن استخدمتها واشنطن بالعام 1990، عبر سفيرتها في بغداد آبريل غلاسبي، لدفع صدام حسين نحو هاوية فخ اجتياح الكويت، وذلك بتمريرها خلال مقابلة أجرتها غلاسبي مع صدام  بناء على طلبها بينما كان العراق بذروة توتر علاقاته مع الكويت، لعبارة تأكيد حرص بلادها على التزام الحياد التام تجاه أي تطور للأوضاع بين العراق والكويت، بل وتعبيرها عن تفهم بلادها لغضب بغداد من السياسات النفطية الكويتية الضارة بمصالح العراق، لا سيما وإن العراق كان خارجا لتوه وهو مثخن بجراح حرب الثمان سنوات المروعة مع إيران، التي كانت تستهدف “بحسب السفيرة للإيغال بالتحريض” كل دول الخليج.

وكان أن قام ترامب وبولتون فعلا (وإن باختلاف يستمد تباينه من اختلاف ظروف “ليبيا فبراير” عن “عراق صدام”)، بدفع الرجمة نحو مصيدة اجتياح غرب البلاد، بل إن أول الأساليب المستخدمة بِحث الرجمة على اجتياح غرب البلاد، كانت خارج إطار التصور التقليدي كليا، بل وكانت أضخم بكثير حتى من تلك الخدعة التي تعرض لها صدام حسين نفسه، وهي قيام التحريض الأول على تلقي خليفة حفتر لمكالمة هاتفية مباشره من ترامب نفسه، كان طُعْمُها المسموم (هو تعبير ترامب للجنرال عن انزعاجه من تدخلات فوضى السلاح في ليبيا بعرقلة إمدادات النفط الليبية نحو أسواقهم، وضرر فوضى الإغلاقات النفطية بمصالح الشركاء النفطيين الأجانب لليبيا، وتأكيده على اعتبار أن الجيش الوطني الليبي هو الشريك الاستراتيجي لواشنطن بمكافحة الإرهاب، وتطهير البلاد من السلاح المارق وتنظيم حمله، وحماية إمدادات الطاقة الليبية نحو الأسواق الدولية)، وهي المكالمة التي سُجلت باعتبارها المكالمة الاستثنائية الأولى، بل والفريدة، بل والأغرب، في التاريخ السياسي للولايات المتحدة، بالنسبة لبروتوكول المستويات التي يستخدم فيها الرئيس الأمريكي نظام الاتصال الهاتفي بالتواصل مع قادة أجانب، كما أن مكالمة ترامب أو “المكالمة الفخ” لم تكن هي خاتمة هذا المستوى الرفيع والمغري من التواصل الهاتفي، حيث واصل جون بولتون ومساعديه تعزيزها بمكالمات مباشرة أخرى مع الجنرال ومعاونيه”.

بيد أن ما كشف عن حقيقة تلك المكالمة باعتبارها لم تزد عن فخ مُحكم، وأنها ما أراد منها ترامب إلا تهيئة الظروف لتحقيق التقسيم الترابي لليبيا بقرارات أممية ملزمة (تمهيدا لاجتياحه لمناطق البلاد النفطية، وهو الاجتياح الذي لم يقدر لترامب إتمامه بسبب سقوطه في الانتخابات التي أجريت بنهاية العام التالي لحرب 2019)، هو التراجع الدرامي للإعلام الأمريكي تجاه الرجمة، وعلى رأسه قناة الحرة وراديو صوت أمريكا، وذلك بعودة هذا الإعلام، وفور إطلاق واشنطن لعملياتها العسكرية المدغمة والهجينة بشهر فبراير من العام 2020 ضد قوات الرجمة لإجبارها على التراجع إلى حيث تقف اليوم، بانطلاق هذا الإعلام بوصف خليفة حفتر بنعث الإخوان المسلمين المفضل وهو: الجنرال المتقاعد، كما تم وصفه بعدد من برامج هذا الإعلام بالمتمرد، إلى جانب التراجع إلى وصف قواته بالميليشيا أو بنسبها  إلى اسمه أو إلى مقر قيادته، وذلك بعد أن كان هذا الإعلام يصف قوات الرجمة طوال (مرحلة حضانة فيروس الفخ) بقوات الجيش الوطني، وهنا يمكنني تسجيل شهادتي الشخصية على هذا التحول، حيث أنه وأثناء وجودي بأحد برامج قناة الحرة الأمريكية، كان المذيع قد أثار حفيظة واعتراض الضيف الآخر عند نعثه لقوات الرجمة “بقوات الجيش الوطني”، فرد المذيع على تحفظ ضيفه، وبصورة حاسمة، بأننا هنا في القناة، ملتزمون بتسمية الكيانات كما يسميها أصحابها، لا كما تعتقدها أو تسميها أنت أو نحن.

ولئن كان اجتياح صدام حسين للكويت قد خُطط له ليكون الحجة الأمريكية المُدوّلة بتدمير العراق وسط استحسان وتقدير العالم لذلك الدمار الذي ألحقته واشنطن بشعب العراق، فإن حرب الرجمة ضد غرماءها المسلحين بغرب البلاد، كانت حجة واشنطن القاطعة والمبيتة بفرض إجراءات التقسيم الترابي لليبيا عبر ما أسمته بخط الهدنة، الذي حققته بشطر البلاد إلى شطرين، وسط تصفيق العالم الذي جعلته واشنطن يظن (وكما فعلت بالـ2011 تماما)، بأنها قد اضطرت فعلا إلى تمزيق التراب الليبي، لمنع المجرمين الليبيين الهمج من إبادة أنفسهم!!

ولقد نجح ترامب وبولتون فعلا بتوريط الرجمة بتصديقها لخدعة إدماجها بشراكة استراتيجية مع إدارتهما واعتبارهما لها ظهيرها المخلص في ليبيا، ولا سيما بعد أن عُززا هذا الفخ بترتيب نيل الجنرال  لمقابلة عالية المستوى وتزكية ووعد بالتمويل لحرب الـ2019 من دولة خليجية كبرى، (وهي المساندة التي قُطعت لاحقا بنصف المعركة بأوامر من واشنطن نفسها).

ورغم أن الرجمة كانت قد أخذت بحسبانها فعلا غضب ترامب، بحال رفضها لجهود دفعه لها نحو الحرب، والتي كان يمكن لعواقبها أن تصل إلى حد تدبيره انقلابا دمويا داخل الرجمة، لا سيما وإن ظهر الرجمة كان عاريا تماما من أي حماية بذلك الوقت السابق على التدخل الروسي، إلا أن الحقيقة هي أن واشنطن لم تكن بحاجة إلى توجيه أي تهديدات للرجمة لدفعها للهجوم على مسلحي غرب البلاد، لا تصريحا ولا تلميحا، أو لمنعها من التمسك بالسلام ورفض الحرب، فلقد كان مخبري ترامب يدركون تماما وقتها شدة استخفاف الرجمة بما ظهر من فقاعات جوفاء لترتيبات ما سمي وقتها بمؤتمر غدامس العقيم، والذي كانت ذروة التعبير عن تفاهته هي خروج غسان سلامة على الليبيين عقب تصاعد جدل حول وصول عدد من دعوات حضور المؤتمر لعدد من الأشخاص، ليقول وبتسلط مقرف، يكشف حتى النخاع عن حقيقة نفاق الأمم المتحدة عند ترديدها لعبارة (محدودية دورها “بتيسير” التوافق بين الليبيين)، بأن: (قوائم أسماء المدعوين ما تزال “بجيبتي” ولا يعلمها إلا أنا ودائرة ضيقة وموثوقة من مساعد، وأنا لست مسؤولا عن شائعات وثرثرة الشارع)، وهو التعليق الذي أثار غضب قطاع واسع من الليبيين وأسس لموت فكرة غدامس التي انهارت كليا بتعجيل ترامب لهجوم الرجمة على مسلحي غرب البلاد، ولعل أهم ما استندت عليه أجهزة ترامب بإشعالها لهذه الحرب هو إدراكها لعمق الطموحات العسكرية للجنرال حفتر ويقينها بانتظار هذا الأخير وعلى أحر من الجمر لساعة إطلاقه لمعارك توحيد الجيش وإعادة بسط نفوذه العسكري على كامل البلاد، فما بالك حين تأتي فرصة تحقيق هذا الطموح عبر ضوء أخضر إنجلوسكسوني جلي، يضمن للجنرال استمرار معركته إلى نهايتها دون عرقلة أو تعطيل، وهي مخاوف الرجمة التي تحققت لاحقا  فعلا، ومن ذات الأطراف التي تخيلت الرجمة أن الضوء الأخضر الإنجلوسكسوني سيحميه منها، حيث قام ترامب فعلا باستخدام ذات هذه الأطراف، وفور تقدير أجهزته لنضج ثمرة التقسيم الترابي للبلاد، ليأتي تدخلهم العسكري ضد الرجمة مفاجئا وصادما لإجبارها على الانسحاب والتراجع إلى حيث تقف اليوم.

حيث إن المؤكد هو أن ترامب لم يكن غافلا أبدا على أن هجوم الرجمة سيصبح واقع لا محالة فور انتهاء واشنطن من حبك كل خيوط فخها المتقن، وكان أن استجاب الجنرال فعلا بدفع قواته بكل عنفوانها لتنفيذ رؤية الشراكة مع ترامب، بخوض حرب ضروس ضد غرماءه من مسلحي غرب البلاد، حتى أنه غاص بالبارود والدماء حتى القاع، ولما يقارب العام، بيد أنه ما أن رصد مخبري وخبراء ترامب وبولتون بأن الطرفين المتحاربين قد بلغا لحظة تلبية كل شروط تنفيذ إجراءات التقسيم الترابي للبلاد، حتى انطلقا بوضع الرجمة تحت ضغوط أسوأ إحساس بالخيانة والغبن يمكن لمغدور أن يشعر به، وذلك على الرغم من أن الطعنة الأخطر التي وُجهت إلى الرجمة من الخلف، قد جاءت وعلى حين غرة، من الحليف فلاديمير بوتين، الذي كان أول من قاد مسلسل الغدر بالرجمة، عبر توجيه أوامره لمرتزقة فاغنر التي كانت تُؤمن خطوط الدفاع الجوي لهجوم الرجمة، بالانسحاب لمئات الكيلومترات نحو الشرق، وهو ما نفذته فعلا ودون اعتبار لموقف الرجمة، خلال ليلة وبعض يوم، وترك من لا يريد الانسحاب والتقهقر معها من قوات الرجمة تحت رحمة الطيران المسيّر التركي، الذي لم يكتف ترامب بأمره بقتل الليبيين فوق أرضهم، بل وفتح له خطوط التوجيه الملاحي الفضائي الخاص بالجيش الأمريكي والنيتو، ليضمن إنجاز قتلها لليبيين على أكمل وجه، بيد أن ما أغاظ الرجمة حتى الموت، ودفع بإحساسها بمرارة الغدر الروسي إلى قاع سحيق، هو أنه كان يفترض بالفاغنر (أو لنقل نص اتفاق كراء خدماتها مع الرجمة) هو أن تتلقي أوامرها من الرجمة وليس من بوتين، باعتبارها (وهو ما اتضح بأنه كان مجرد حالة نظرية) مجرد شركة عسكرية خاصة بحالة تأجير خدمات مقاولة حربية لزبون، وضمن علاقة محكومة بعقد صارم (كما تظن الرجمة التي استبعدت عامل دخول البلطجة الدولية على الخط) يقوم على التزام الشركة بطاعة زبونها بخوض الحرب، مقابل الأجر المتفق عليه.

ويؤكد أحد المراقبين الأتراك بأن ذلك الانتقام الروسي من الرجمة قد جاء بسبب رغبة بوتين بعقاب حفتر، على رفضه توقيع اتفاق روسي أمريكي باطنا، وروسي تركي ظاهرا، لوقف إطلاق النار، صاغته موسكو، بنوايا انتقامية (أمريكية أو تركية، حيث لا فرق)، جعلت من ذلك الاتفاق مجرد مسودة مهينة للرجمة وتضحياتها، وهو ما أثار غضب واستياء خليفة حفتر الشديدين من التواطؤ الروسي مع أنقرة أو واشنطن (حيث لا فرق)، وإلى درجة دفع حفتر، ليس إلى رفض التوقيع على المسودة (التي وصفها مساعدوه بالفاسدة) فحسب، بل وإلى مغادرته موسكو بصورة مفاجئة فجر يوم 14 يناير 2020، عقب وقت قصير من اطلاعه على تلك الوثيقة التي قُدمت له قرين تلميح روسي بتوصية تهديدية مستفزة، بوجوب التوقيع عليها ذرء لأخطار كبيرة محدقة في الطريق، بينما أظهرت تلك المسودة وبصورة لا تقبل الشك بأنها كانت مجرد عقد بيع، أراد به بوتين بيع طموحات الرجمة برمتها، لصديقيه ترامب وأردوغان، مقابل ثمن ما تزال تُجهل هويته حتى الآن، وإذا ما كان قد سُدد لموسكو أم ليس بعد، طالما أن بوتين قد حقق لحليفيه ترامب وتابعه أردوغان (بالغدر الحربي) ما لم يستطيع تحقيقه لهما (بالغدر السياسي)، ولعل ما جعل خيانة موسكو أو طعنة بوتين هي الأسوأ، هي أنها جاءت بوقت كانت فيه الرجمة قد قدمت ذروة تضحياتها، وباتت تستعد وهي على بعد مرمي حجر من قلب طرابلس، إلى الوقوف على رأس السراج وهو بمخدعه، وكان أن نجحت واشنطن فعلا بمرحلتها الرابعة اللعينة هذه (وكما هي عادتها مع كل مراحلها السابقة) إلى فلق البلاد بخط هدنتها الألعن إلى شطرين، لنصبح بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي الملزمة حول هذا الفلق أو الصدع، أشبه بوضع الكوريتين أو القبرصيتين أو الألمانيتين قبل انهيار جدار برلين.

وما أن استقر كل طرف من الطرفين المسلحين على جانبي خط الهدنة حتى كلفت واشنطن حارسيها الإقليميين السيسي وأردوغان، بمهمة حفظ توازن الرعب بين شقي البلاد المشطورة، وذلك بتخويل كلا منهما بضرب الطرف المهاجم للمنطقة المكلف بحراستها، وحتى تتم واشنطن مؤامرتها بدفع الليبيين أنفسهم إلى صناعة حبال عبوديتهم وتكبيل أنفسهم بأنفسهم، ليبدو للعالم كما لو كانوا هم صانعوا الشر الذي يتكدس من حولهم، فقد دفعت واشنطن ابنتها ستيفاني وليامز إلى العمل على توثيق هذا الصفد الجديد بالرسغ الليبي، بالعمل على إصدار قرار دولي بالخصوص، يجعله سلسال جديد من السلاسل الأجنبية أو الأممية المكبله للسيادة الليبية حتى الشلل، بيد أن ما يدعو إلى شديد الأسف والحسرة بهذه المؤامرة الأمريكية، فهو نجاح واشنطن أو ستيفاني وليامز بحفر خندق تقسيم البلاد بواسطة عشرة “شهود زور” من عسكريين ليبيين شاركت الرجمة بتقديم خمسة منهم، ما يزالون يصرون حتى هذه اللحظة – وعقب سنوات من ملء صراخ فشلهم المدوي لآفاق الدنيا – على مواصلة إطعام أنفسهم وأبناءهم من امتيازات هذه الخديعة الكبرى، عبر إصرارهم على مواصلة وجودهم (بتنظيمهم العشري الذي لن يلقى من التاريخ إلا الإدانة والتوبيخ) طالما أنهم ما يزالون يرفضون التطهر منه بخروجهم بصورة علنية مدوية تفضح لليبيين والعالم الحجم الهائل من الخداع الأجنبي الذي تم توريطهم  فيه، بل وتقديم اعتذارهم لشعبهم عما ألحقوه به من ضرر بالغ بإضافتهم قيد جديد إلى جملة القيود الأجنبية التي تشل سيادة البلاد كليا، والتي لن ينجي الليبيين عند حلول موعد رفعها من دفع أثمان باهضة لذلك الرفع، ولعل ما يورث العار هنا، هو إصرار هؤلاء العشرة على مواصلة ممارسة خداع شعبهم رغم يقينهم بإصرار واشنطن على إفشالهم الذريع والمتعمد، الذي كان مبيتا منذ لحظة عرضهم الأولى على مسرح عرائس جنيف، وهو الفشل المخزي الذي يشمل ودون استثناء كل مهمة من المهام التي أدعت المخادعة الكبرى و(صانعتهم) ستيفاني ويليامز بأنها ستكون من مهام “التنظيم العسكري العشري”، الذي لا يحمل من الروح العسكرية حتى اليوم إلا بزاتها وسيوفها النحاسية الراقدة على أكتافهم، بل ولقد بلغ الفشل المستفز لهؤلاء حتى بقدرتهم على الظهور بمؤتمرات صحفية مستقلة يوضحون فيها لشعبهم ما يجري فوق أرض وطن محتل، يدّعون (ولو على ألسنة آخرين طالما إننا لم نسمع لهم أصواتا حتى اليوم) بأنهم هم من سيتصدون لتطهير البلاد منه، رغم أنه حتى ادعاءهم هذا كنا قد سمعناه على ألسنة أجانب وليس على ألسنتهم، حيث أنهم لطالما وقفوا بكل المؤتمرات الصحفية التي قدر لهم أن يشاركوا فيها، كما لو كانوا أصناما أو ظلالا وليسوا بكائنات حية، خلف شخص أجنبي، كان دائما ما يتولى مهمة التصريح عنهم.

إن استمرار ممارسة هؤلاء العشرة للخرس المخجل، ومواصلتهم العيش على امتيازات مراكزهم ووجودهم الخائن (سواء أدركوا هذا أم لم يدركوه) باعتبار أن وجودهم هذا، قد أصبح وجودا يوفر أخطر المبررات المنافقة  لواشنطن بمواصلة حرمانها البلاد من وحدتها العسكرية والأمنية، من خلال تقديمها  لهؤلاء العشرة على أنهم هم الذين سيستعيدون سراب الوحدة العسكرية لليبيا، وهو ما بات يشكل اليوم  الجريمة السياسية الأبرز المرتكبة بحق الليبيين، ولا سيما حين تجري هذه الجريمة بوقت يقدم فيه هؤلاء العشرة أنفسهم على أنهم الضامنين وصمام الأمان لتحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي وعودة الجيش الذي يتضور الليبيون جوعا إلى عودته، بينما تقول الحقيقة بأن وجودهم إنما يقدم جريمة منع واشنطن لعودة الجيش، على أنها جريمة لا تتصل بنوايا إمبريالية مبيتة تخفي وراءها أشد الأخطار والتهديدات المتربصة بالبلاد، وإنما هي مجرد حالة تعثر وارتباك إجرائي محلي يتحمل الليبيين المسؤولية الكاملة عنها.

وأما ذروة مأساة البلاد مع وجود هؤلاء العشرة، فهي أنه بينما يتمخطر هؤلاء بسيوفهم ونياشينهم بين اجتماعات جوفاء، يقودها منافقون أجانب لا يكرهون شيئا في ليبيا بقدر ما يكرهون جيشها، فإن أرض هؤلاء العسكريين العشرة، مترعة بالمرتزقة وتعج بقوات الاحتلال الأجنبي الرسمية، وترزح العشرات من قواعدها ومؤسساتها العسكرية الاستراتيجية تحت براثن قوات الاحتلال الأجنبي، إلى جانب ما  تضيق به البلاد من حماة الاحتلال من الميليشيات المتصارعة، والدويلات المسلحة شبه المستقلة المتربصة ببعضها بعض، وهو ما جعل هؤلاء العشرة يبدون بصمودهم بمراكزهم المخجلة هذه (كمن باع صمته لأعداءه)!! أو كمن يرفض التخلي عن دور شاهد الزور، وذلك طالما ظل وجود هؤلاء العشرة يجمع بين تكديس تراكم هائل للفشل، وبين السماح لوجودهم الذي لا قيمة له البتة حتى اليوم، بالتحول إلى حجة المحتل الأقوى للعالم، على أن الليبيين هم الذين يعطلون عودة جيش بلادهم، بل ولقد فشل هؤلاء حد أن كل التصريحات التي تصدر حول مواقفهم وأخبارهم وأنشطتهم وبينها الإعلان عن مواعيد لقاءاتهم ونتائجها، إنما يُدلي بها أجانب وجهات أجنبية نيابة عنهم.

وبحيث لم يبق لهم من دور سوى حضور اجتماعات جنائزية، يقودها منافقين يمثلون الدول المحتلة للبلاد، ولا يوجد من هو أشد منهم كرها وعداوة لجيشنا، بل أن الدول المحتلة لم تتأدب على عقد أو قل  جرجرت عشرتنا نحو اجتماعاتها الجنائزية، إلا كلما شعرت بتصاعد قلق الليبيين وزيادة استياءهم من جمود أزمة بلادهم، فتلجأ إلى إرسال سياسيين أو عسكريين منها أو موظفين أمميين، دائما ما يكونون موظفين استعراضيين من الدرجة الرابعة، ليجمعوا هؤلاء العشرة المبشرين (بالعار ما لم يلحقوا أنفسهم قبل فوات الأوان)، حول طاولة (من نوع طاولات فض المجالس وتبويس اللحى)، لينفُضُوا عنهم ما تجمع من غبار فوق بزاتهم العسكرية، وليُعرِضُوا النحاس الزائف من السيوف والصقور والنجوم الباهتة التي تتزاحم فوق أكتافهم والميداليات التي تتدلى على صدورهم، لأضواء كاميرا، غالبا ما يحملها مخبر أجنبي، لأخذ صورة أو صورتين لهم لنشرها مع خبر الاجتماع، علّ بريق أضواء تلك الكاميرا أن يعيد بريق سيوفهم الهارب ويحقن الليبيين بجرعة أمل جديدة بفحولة رجالهم العشرة، ولينتهي ذلك اللقاء بإصدار بيان منافق جديد يوضع على ألسنتهم، وهم براء منه ومن صياغته، ليردد صدى العبارات المنافقة التي باتت تحرك على الليبيين القولون العصبي، حول وعود توحيد الجيش وإنهاء الاحتلال الأجنبي للبلاد، ولينتهي كل هذا بعودة الموظفين الأجانب المهمشين إلى وظائفهم التافهة، وعودة الرجال العشرة إلى مواقعهم العقيمة عقم الصخور عن إنجاب الظباء إلى أن يأتي الموعد الجديد لنفض التراب عن بزاتهم وإطلاق شعاع ضوء كاميرا على سيوفهم الراقدة على أكتافهم رقدة أهل الكهف!!

وبوصولنا إلى مرحلة الإنهاك الخامسة لم تبق لنا إلا عبارة …….. إن للحديث بقية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

عز الدين عقيل

كاتب سياسي ليبي

اترك تعليقاً