سيقف المؤرخون كثيراً عند تدوين الأربعة سنوات الماضية من تاريخ ليبيا، لشدة تعقيداتها وتعدد أطرافها وتداخل المحلي بالخارجي، وهذه الفترة تعتبر منعرجا خطيرا تتشابه في تعقيداتها بمرحلة الإنتداب البريطاني في أواخر الأربعينات من القرن الماضي. فالمرحلة مليئة بالإنتصارات والإخفاقات والنكسات بل بالدموع والدماء أحيانا.
وحيث أن إرادة التغيير إنتفاضة شعبية فهي لا رأس لها ولا زعما يقودونها ولا بيان عسكري يحدد أهدافها ويبين المسئولين عنها، كما أن حدوثها في زمن تفتقر الأمة الليبية إلى كوادر قيادية فاعلة، كل ذلك جعل الإنتفاضة فريسة للمغامرين والعملاء ودعاة الإنغلاق الفكري والمتربصين من النظام السابق كفارين أو حكومة عميقة.
كان سقف توقعات الليبيون كبيرا، فبعد سقوط جدار الخوف والتخلص من الحكم السابق إعتقد الكثيرون من الشعب الليبي أن معركة البناء ستكون سهلة ويسيرة، إلا أن التركة السابقة في فساد العقول أكبر من أن تزاح بإسقاط رأس النظام الحاكم وأن غياب النخبة الفاعلة أكبر من أن تبنى في أشهر معدودة، وبذلك دخلت الدولة في دوامات كثيرة حالت دون تحريك الإقتصاد أو دفع حركة التعمير أو الإهتمام بالتعليم والصحة، بل أن برنامج التحول الديموقراطي قد واجه عراقيل كثيرة حالت دون إصدار الدستور حتى الآن.
جذور المشكلة تكمن في إنهيار الأجهزة الأمنية (شرطة ومباحث ثم الجيش)، والمؤتمر الوطني كان بين أمرين: إما تفعيل الأجهزة الأمنية والمجازفة بحدوث إنقلاب عسكري كما في مصر واليمن، أو تبني كتائب الثوار في اللجنة الأمنية العليا كبديل لتلك الأجهزة، وهما حلان أحلاهما مرَ، ومع تزايد أصوات المنادين بتصفية اللجنة الأمنية العليا التي إستطاعت تأمين المدن خلال سنة 2012 وبداية سنة 2013، تم تسريح معظم أفراداللجنة الأمنية أو تحويلهم إلى قطاعات أخرى وبذلك دخلت الدولة في فراغ أمني كبير وجد المجرمون والمهربون والقبليون والإنفصاليون ضالتهم للإنقضاض على ممتلكات الدولة، وبذلك ظهرت عصابة جضران في المواني النفطية، وجيش برقة عند الفيدراليين، والصواعق والقعقاع عند القبليين وأزلام النظام السابق، وفيلق عيسى عبد المجيد الذي تتزعم الخارجين عن القانون في الجنوب الليبي.
في هذا الأثناء وجدت إستخبارات بعض الدول العربية ضالتها للتدخل في شئون الدولة الليبية بالضغط لتنصيب رؤساء وزراء أو بدعم أطراف داخلية بالأموال وحتى بالسلاح أو التدخل المباشر، ومع هشاشة الدولة وضعفها أنتشرث الفوضي في مؤسسات الدولة وإستولى جضران المطلوب للعدالة على المواني النفطية التي تمثل المصدر الوحيد لتمويل الخزانة العامة، بل أن الحكومة السابقة كانت غطاء لأبشع عمليات السرقة والتهريب والصفقات المشبوهة، وكانت الداعم الأساسي للمليشيات القبلية، بل عاشت في كنفها وفي حراستها، حتى آخر أيامه عندما قامت هذه المليشيات بتهريبه خارج البلد بعد أن صدر كتاب توقيف من النائب العام بحقه.
هذه المساوي كارثية من جانب، والطبيعية من جانب آخر، عند مقارنتها بما حدث للكثير من الدول التي عانت من التحول الثوري ضد الدكتاتوريات العتيدة مثل إيطاليا وإسبانيا وأخيرا دول شرق أوروبا، وهي بحق تدفع بالدولة إلى حافة الإنهيار وتجر المواطن إلى اليأس بل لبعض المواطنين إلى الحسرة على أيام القذافي ” عندما يتنقل الرجل بسيارته الفارهة في الثانية ليلا دون أن يفكر في أن يمسسه أحداً بسؤ”. رغم تلك المثالب هناك فروقات جوهرية بين العهدين وبداية تغيير بنيوي ثقافي عميق للأمة الليبية، وبداية إنفتاح كبير على العالم، وهو ما يبشر أن الحصول على الحرية يمكن أن يكون سبيلاً ناجحا للمواطنة والأمن والأمان وقاعدة جيدة للتنمية، ومن أهم التغيرات ما يأتي:
إنتها الحكم الكتاتوري، وبه إنتهاء الخوف من الأجهزة الأمنية، ومن الزج في السجون، ومن التغييب القصري، ومن إنعدام المحاكمة العادلة والتصفية الجسدية، ومطاردة المعارضة بالداخل والخارج.
تنسم المواطنون لمعنى الحرية، فلم يعد هناك حجر على الفكر، وإنقضى عهد الرأي الواحد والتفسير الوحيد للصقر الوحيد، وإنتهى عهد الإنغلاق؛ فمثلا إختفت الصورة النمطية لإعلام الجماهيرية والفجر الجديد أو الزحف الأخضر، وأصبح هناك صحف متنوعة وقنوات وطنية وأخري موجهة والكثير منها قنوات خاصة.
إنتهاء عهد المغامرات الخارجية وصناعة العملاء، وتبدير أموال الدولة على الإنقلابات العسكرية في أفريقيا ومناصرة الإنفصاليين عن دولهم، والحركات الإرهابية والمجرمين، بداية من كارلوس إلى الحركة السنديانية وأبوسياف. كذلك إنتهى الإنفاق السخي على نشر الكتاب الأخضر وإقامة ندوات له وتوزيع جوائز عالمية لمفكريه والمطبلين له.
عادت الدولة الليبية المختطفة إلى أهلها بعد أن قام النظام السابق بتزوير تاريخها وتشويه رجالاتها وإلباسها ثوب مستعار لا يمت لها بصلة.
رغم التأرجح الكبير في النواحي الأمنية والتهجير من منطقة إلى أخرى لفترات متفاوته، إلا أن هناك إرتفاع نسبي في مستوى المعيشة للمواطنين يقارب 30 إلى 150% بل يتجاوز ذلك للكثير من القطاعات، كما حدث تدني نسبي للأسعار عن سنة 2010 بسبب إنتهاء إحتكار الدولة ورجالاتها للكثير من السلع وتوقف جباية الضرائب عن المواد المستوردة، بل هناك هدر للسلع المدعومة والبنزين الذي يساوي اللتر منه 1/5 من سعر الماء الأمر الذي شجع على تهريب كميات كبيرة منه إلى دول الجوار.
قبل الثورة كان عدد المحالين خارج الملاك الوظيفي للدولة يقارب 450 ألف مواطن بمرتب لا يتجاوز 230 دينار لمعظمهم، هؤلاء رجعوا إلى أعمالهم أو تم إلحاقهم بأعمال أخرى برواتب لا تقل عن 450 دينار كحد أدنى، بل أن هناك من يتحصل على أكثر من مرتب من عدة جهات.
بعيدا عن المكاسب نرى هناك تفائل كبير نحو بناء الدولة بعد تصريح الدول الغربية برفض قوى العنف وشخوصه، وبداية التصالح بين قطاعات كثيرة من الشعب الليبي، وبداية سقوط المغردين خارج المصلحة الوطنية الليبية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
يا بغنى، سؤال لو سمحت، أنت د. فى شنو بالظبط؟
لقد كانت تحليلك منطقي في طريقة سرد رائعة ، والكثير من المحللين أمثالك أتفقوا مثله .
وهنا أدعوا كل الخبرات الليبية بالاستفادة من مثل هذه المعلومات وطرحها على طاولة المثقفين والعلماء والخبراء لوضع الحلول الناجعة للأخطاء المرتكبة طيلة أربع سنوات والاستفادة من تجارب سابقة لدول صديقة أو شقيقة في حلها وإجتناب غيرها .
وشكرا
محمد سالم