“يجب على السياسيين العمل على إيجاد مخارج للأزمة التي تعيشها ليبيا، تنهي الانقسام السياسي كمقدمة لإنهاء الانقسام الاجتماعي…في هذا الإطار يعكف حزب العدالة والبناء على دراسة مجموعة من الأفكار…الغرض الأساسي منها إعادة توجيه بوصلة الجميع للحديث والبحث عن حل سياسي ينهي القتال ويوقف نزيف الدم بين الليبيين”.
هذا جزء من تصريح السيد محمد صوان، رئيس حزب العدالة والبناء، في بداية نوفمبر 2014م، والذي عكس الاستراتيجية التي تبناها الحزب خلال السنة الماضية، حيث كان يعمل دون كلل أو ملل للبحث عن حل يوقف نزيف الدم وينهي الانقسام.
ليس حزب العدالة والبناء جهاز دولة، ولم يقُد حكومة أو يترأس برلماناً في ليبيا منذ تأسيسه، وهو ككل الأحزاب الليبية، وقيادته كما بقية النخبة الوطنية، جديدون على الممارسة السياسية في شكلها الحزبي التعددي. مع هذا استطاع حزب العدالة والبناء، متسلحاً بقيم الصدق والوفاء، والالتزام بخط ثابت من إعلاء المصلحة الوطنية، واحترام مبادئ الشورى، وقيم الديمقراطية، استطاع تأسيس عمل حزبي ذي بوصلة واضحة في قضايا الوطن الكبرى.
سيجد المنصف، لو تأمل مسيرة الحزب، أن المبادئ التي خاطب من خلالها الليبيين عند تأسيسه، ظلت تحكم مواقفه التي تعبر عنها بياناته الرسمية، وتصريحات مسؤوليه المخولين، بتمثيله، ومحاضر لقاءاته مع الجهات الوطنية، والإقليمية والدولية، التي التقاها منذ إعلان تأسيسه، في مارس 2012 أي أكثر من ثلاثة سنوات.
إن أيا من المخالفين، الذي يلهجون اليوم بهجاء العدالة والبناء، لا يمكنهم أن يسجلوا عليه خرقاً للموجود من القوانين، أو تطاولاً على القائم من المؤسسات الليبية، أو يعطوا مثالاً واحداً على إخلاله بالقيم التي يؤمن بها غالبية الليبيين.
الحزب مؤسسة ديمقراطية:
انتخب الحزب رئيسه ونصف أعضاء الهيئة العليا، في مؤتمره التأسيسي العام الذي عقد في مارس 2012م، وأعاد انتخاب الرئيس وهيئة عليا جديدة، في إبريل سنة 2014م. طور الحزب بالإضافة إلى نظامه الأساسي، العديد من اللوائح الداخلية التي تنظم عمله؛ مثل لائحة الهيكل التنظيمي العام، ولائحة تكوين المؤتمر العام للحزب، والنظام الداخلي للكتلة البرلمانية، ولائحة الهيكلية العامة للفروع والتوصيف الوظيفي، والائحة المالية والإدارية.
أصدر الحزب دليل الثقافة المؤسسية، الذي حدد فيه فلسفة الحزب، ومجموعة القيم والتوجهات؛ في الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي البعد التقني والإعلامي والقانوني، ومجال البيئة وفي مجال الإدارة والبعد المؤسسي. هذا الدليل يعد الوثيقة الأساسية التي تكوّن الحزب، وتعد جزءً من المحتوي التدريبي، التي يفترض أن يعمم على الأعضاء لتعزيز اندماجهم.
أصدر الحزب أكثر من 132 بياناً سياسياً، وعشرات التصريحات، منذ تأسيسه في مارس 2012م. هذه البيانات؛ سجلت مواقفه المؤيدة للمسار الديمقراطي، واحترامه لحقوق الإنسان، وإدانية لانتهاكها، ورفضه للعنف بكل أشكاله. رفض الحزب كل محاولات العبث بوحدة الوطن، وسجل فخره بالتنوع السكاني والثقافي، وأكد على أمن المواطن واستقرار الوطن. دعم السلطة القائمة كلما ذلك ممكناً، وعارضها كلما رأى أنها سببت ضررا بمصلحة الوطن.
أكد الحزب من خلال بياناته وتصرحاته ومواقفه العملية على الحوار، ودعى إليه واستجاب لكل دعوة وجهت إليه. دعى الحزب إلى الالتزام بالتوافق السياسي والوفاق الوطني رؤية ومبدأ، ودعى إلى المصالحة الوطنية، وإلى حماية السلم الأهلي، ورفض كل أنواع العنف المادي واللفظي، وكل استخدام للسلاح خارج سلطة الدولة.
المعاناة الذهنية في مطابخ العصف الفكري، التي يشهدها كل بيان، شاقة جداً، حيث يقوم الحزب في الغالب بإصدار موقفه، في أقل من 24 ساعة. في بعض الحالات يستغرق أكثر من ذلك، فعلى سبيل المثال البيان الأخير رقم (26 لسنة 2015م)، والذي أصدره الحزب، استغرق 48 ساعة، حيث طال النقاش كل كلمة وكل جملة فيه.
كلما حدث ما يتطلب إصدار تصريح أو بيان، يتم تكليف من يقوم بصياغة البيان، ثم يعرض على غرفة القيادة، والتي تضم 14 شخصية قيادية؛ هم رئيس الحزب ورئيس الهيئة العليا ونائبه والمدير التنفيذي ورئيس دائرة الاتصال المؤسسي ورئيس الدائرة السياسية ورئيس الكتلة البرلمانية و7 مستشارين. يخضع كل بيان لعملية تشريح دقيقة، قبل أن يتم إصداره بالتوافق، أو بالتصويت في الحالات التي لا يمكن الوصول فيها إلى الإجماع.
ومع ذلك لا يسلم موقف للحزب من تبيانات، داخل الحزب وخارجه، بل أن في داخل الحزب يكون النقاش أشد، حول العديد من المواقف، ويأخذ أبعاداً كثيرة؛ فمن مطالب بعرضه على الهيئة العليا، أو المطالبة بالتحقيق عن آلية إصداره، أو عرضه على اللجنة القانونية للحزب، أو المطالبة بالإقالة، أو حتى الإستقالة وترك الحزب، لعدم الموافقة على هذا الموقف أو ذاك.
إن استعراض هذه البنية، وآلية العمل أعلاه ليس من باب منشورات التباهي التي تقدمها الهيئات، والأشخاص إلى الناخبين، لنيل ثقتهم، أو إلى الشركاء لتفسير سلوك معين؛ إنها بيان لطريقة العمل التي اجترحها الحزب، في بيئة لا عهد لها بالممارسة المؤسسية، وهي تقدم دليلاً واضاحاً جداً لمن أراد أن يرى، أن مشروع العدالة والبناء ليس حقيبة في يد فرد، أو مجموعة أفراد.
إنه مشروع لبناء وطن التقت فيه إرادة مجموعة من أبناء الوطن، ممن اكتووا بنار الاستبداد وبعضهم ممن حرقتهم المنافي والسجون من أجل مطالبتهم بوطن ينعم فيه الليبيون بحياة كريمة، وتوزع فيه خيرات ليبيا على أبنائها بعدل. وتلعب فيه ليبيا دوراً يحترم مكانتها في العالم، ويعلي من شأنها في الإقليم.
إن آلية اتخاذ القرار في المؤسسة الحزبية بالعدالة والبناء، التي تبدو لبعض المستعجلين معقدة، ومعيقة، هي الضامن الوحيد، لنضج القرار الحزبي، الذي يسهم في إنضاج الرؤية الوطنية الكبرى. وهي الضامن الوحيد لتماسك الحزب، وشرعية قراراته، وهي المثال الذي نريد أن يكون عليه الشأن، في الحياة العامة، وفي الهيئات التي تدير حياة الليبيين.
لقد كان بإمكان نصوص الحزب أن تنص على تفويض الرئيس، أو رئيس الهيئة العليا، أو الدائرة الإعلامية، بإصدار البيانات والتصريحات، دون تدقيق، أو مراجعة، ولكن المؤسسة الحزبية اختارت الطريق المعقد، والطويل، إيمانا منها بأن وضع الوطن لا يسمح بإطلاق الكلام المتسرع، ولا يمكن فتح المجال فيه أمام فرد، أو مجموعة قليلة مهما بلغ نضجهم، ومسؤوليتهم، ومكانتهم، للحديث في الشأن العام دون شورى ونقاش مستفيض يجمع ذوي الخبرة العملية، بعمق أصحاب المعالجة النظرية، وهو ما منح، مع توفيق الله تعالى، كل مواقف الحزب وبياناته اتساقاً مع المبادئ، ومع رؤية الحزب للمصلحة العليا.
لقد كان في الإمكان صياغة نصوص فضفاضة، أو لي أعناق النصوص القائمة، لمنح القائمين على الشأن في الحزب حرية التصريح، وحرية اتخاذ المواقف السريعة، وردات الفعل الآنية، لكن رغبة أخرى في العمل المؤسسي، والتأسيس الوطني، وقناعة راسخة، جعلت قيادة، وصناع القرار في الحزب، يتشبثون بهذه المؤسسية، “المعقدة” التي تقيد الحرية الفردية، وتمنح القرار للهيئات.
وتندرج ضمن هذا السياق علاقة الحزب بكتلته في المؤتمر الوطني، التي ترك لها حرية اختيار ما ترى أنه يمثل شرائح الناخبين التي اختاروها، ويحترم قرارات المؤتمر الوطني، وإن لم ينسجم في بعض الأحيان مع قرارات قيادة الحزب، ولا مع قناعات قيادته العليا. ورغم صعوبة التسليم بجدية هذا الخيار، لدى البعض، ومحاولة البعض الآخر استثماره لإحداث بلبلة في صفوف الحزب، وسعي البعض إلى شق الصف من خلال استغلاله، فإنه كان قراراً لا رجعة فيه، وخياراً لا يملك أحد حق تعديله، أو حرفه عن مساره.
الممارسة السياسية:
دخل الحزب انتخابات المؤتمر الوطني العام وكان لأفراد كتلته دور فاعل في الحياة السياسية. قام بتدريبهم في دورة عقدت في شهر يوليو 2012م بمدينة بنغازي حضرها أعضاء الكتلة وبعض أعضاء المؤتمر الوطني العام من خارج الكتلة.
صوت الحزب للمرشحين لمنصب رئيس الوزراء، دون اشتراط انتمائهم، أو حتى قربهم من خطه، ووافق الحزب على المشاركة في حكومة زيدان، وانسحب منها لاحقاً، شارك في منحها الثقة وشارك في سحب الثقة من رئيسها.
رحب الحزب بانتخابات مجلس النواب، التي لم يتحايل على القانون للترشح لها، وطالبه بتصحيح وضع البرلمان عندما أخل بالتسليم والاستلام. وعندما أصدرت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا حكمها، طالب الحزب الأطراف باستثمار هذه الأحكام كجسر للعبور إلى الحل.
رسخ الحزب عملياً المبادئ التي يؤمن بها في احترام القضاء واستقلاله وذلك بقبوله لحكمي الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا، في القضية المعروفة بقضية حكومة أحمد معيتيق، وفي قضية انعدام مجلس النواب وبطلان جلساته.
عندما تعرض المسار الديمقراطي في ليبيا لمحاولات انقلابية مدعومة من أطراف إقليمية، كان للحزب موقفاً معارضاً لهذه المحاولات، ووقف في صف الشرعية من أجل حماية المسار الديمقرطي.
نظم الحزب جولات خارجية لشرح المعضلة الليبية، من أجل حماية المسار الديمقراطي، والحيلولة دون عزل تيار الثورة سياسياً ودولياً. كما نفى الحزب، بجولاته هذه، تهمة الإرهاب عن تيار الثورة التي كانت أطراف إقليمة ومحلية، ووسائل إعلام مأجورة، تروج لها.
رحب الحزب بالحوار الذي دعا إليه السيد طارق متري أيام كان مبعوثا أمميا إلى ليبيا، واتخذ نفس الموقف من الحوار الذي رعاه خلفه، السيد برناندينو ليون. طالب جميع الأطراف بترجيح المصلحة العليا وشارك رئيس الحزب في كل جولات الحوار، وشجع الجميع على المشاركة، ولعب دوراً مهماً في تقريب وجهات النظر، وفي عرض الحلول وتقديم المبادرات.
هذا النمط من الممارسة السياسية المحكوم بالمبادئ، الثابت على خط التمسك بالوطن، ومصلحة المواطن، المؤمن بقيم التداول السلمي على السلطة، قد لا يروق لمن يرون أن المصالح التجارية، وركوب مطامع الكسب السياسي والمالي، أولى للأفراد والمجموعات.
إعلاء قيم العدل والإنصاف:
سيمكن رصد هذه المحطات، لمن أراد رؤية الأشياء بعقل مجرد، سالم من الأهواء، استخلاص شيئين اثنين على درجة عالية من الأهمية:
أولهما: الوفاء لمبادئ الشورى ولقيم الديمقراطية والتعددية، والسلمية، وإعلاء المصلحة العليا للوطن، والدوران معها حيث دارت.
لقد أوضحت هذه المواقف، وهذا التاريخ، رغم قصره، أن الحزب دائم البحث عن مصالح الوطن، أنَّى وجدها تقدم إليها، وليس متشبثًا بكرسي يفصل مصلحة الوطن على مقاسه، كلما تغير المقاس بفعل التوازنات المحلية والإقليمية والدولية.
ثانيهما: انسجام هذه المواقف، مع مبادئ الحزب المسطرة في أوراقه، وانضباطها لخط العمل السياسي الذي اختاره.
المشاركة في الحكومات، وخوض الانتخابات، مرهونان بمدى تحقيقهما للمصلحة، وانسجامهما مع الرؤية إلى المصلحة العليا للوطن، وليسا مرهونين بما يحققانه من مصالح انتخابية أو مالية، أو معنوية.
الاندماج في الحوار ودفع خيار التلاقي بين أبناء الوطن، ولمُّ الشمل، وإعلاء قيم العدل والإنصاف والمصلحة، ومدُّ اليد لمن أراد تحقيق شيء من ذلك؛ خيار استراتيجي ثابت لا موقف تكتيكي محكوم بآنية المصالح، وميزان قوى التحالفات.
إن خلاصة كل هذا الكلام أن حزب العدالة والبناء، كان وما زال، وسيظل بإذن الله تعالى، حزباً سياسياً ليبياً يخدم ليبيا، ويسعى لصالح مواطنيها، ويتشبث بوحدتها دولة قائمة على العدل والإنصاف. لا مجموعة تريد أن يخدمها الوطن، أو تتخذه بقرة حلوباً، تدر عليها دخلًا، تستخدمه لاستدامة ترفها على حساب مصلحة الوطن والمواطن.
هذا هو خط سير العدالة والبناء؛ إذا أخطأنا التقدير عاودنا النظر في خطأنا فراجعناه، وقومناه، وتراجعنا عنه، واستغفرنا الله، واجتهدنا في محاسبة المسؤول عنه إن كان مقصراً، أو استبدلناه بغيره إن كان قاصراً عن قدر المسؤولية.
وإن أصبنا حمدنا الله تعالى أولاً، ثم شكرنا الشعب الليبي وكل الشركاء والناصحين، وانتظرنا عند الله المثوبة. هذا للناظرين بإشفاق، الباحثين عن تفسير لمواقف حزب العدالة والبناء، وقيادته.
أما المرجفون، والشاتمون، ومبدلو جلودهم، مع تبدل مصادر دخلهم، فلنا معهم معاد قريب بإذن الله في هذا الفضاء، ننتصف منهم بكلمة صدق في الدنيا. ثم عند الله تجتمع الخصوم.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً