ليس لبنان كغيره من الدول، إذ تتداخل في أزماته عوامل كثيرة، وتصبح مصالح الأشخاص أكثر طغيانا من مصالح الشعب والبلد، ولهذا لم يكن مستغربا أن تصدر مذكرة حمراء من الإنتربول الدولي ضد “حاكم مصرف لبنان” ولا تنفذ، بل لم يكن مستغربا إلا يتحرك القضاء، ولو بخجل، كي يصدر أمرا بمنع سفر “الحاكم” ويصادر جوازيه اللبناني والفرنسي.
في العالم كله لا يمكن لأي مواطن يحمل جنسية ثانية أن يكون موظفا في وظيفة رسيمة إلا في لبنان، حيث ثمانية من الوزراء في الحكومة الحالية يحملون جنسيات أمريكية وفرنسية وبريطانية، وكذلك نحو 35 نائبا أو أكثر يحملون جنسيات دول أخرى، كذلك هناك موظفون فئة أولى لديهم جنسيات متعددة، من ضمنهم قضاة.
هذه الغرابة ليست موجودة إلا في لبنان، الذي يستطيع أيا كان من هؤلاء يرتكب جرما ما، وتتدخل سفارة الدولة التي يحمل جنسياتها للإفراج عنه، بل منع المحاكمة عنه، لهذا استطاع أكثر من 100 من أعضاء مجالس إدارات بنوك، وموظفين فيها، الخروج من البلاد من دون أي محاسبة، وفرار كل واحد منهم بمئات ملايين الدولارات إلى الخارج، مستغلين جنسيتهم الثانية.
هذا الوضع ليس جديدا، لكنه تفاقم في السنوات الثلاثين الماضية، حين عين بعض المسؤولين ممن يطلق عليهم “نصف لبنانيين” في مناصب حساسة، واستطاعوا توظيف إمكانيات البلاد من أجل مصالح الدول الأخرى، خصوصا التي يحملون جنسياتها.
لهذا حين تصدر النيابة العامة الفرنسية مذكرة دولية لإلقاء القبض على مسؤول لبناني، فهي في الحقيقة تصدر حكما على مواطنها، وليس على لبناني ارتكب مخالفات مالية بحجم إفلاس الدولة اللبنانية، وهنا فقط يبدأ القضاء اللبناني على استحياء التدخل بالقضية، ليس لأن المتهم مرتكب مخالفات كبيرة، بل لأن هناك طاقما سياسيا ومصرفيا يحميه، ولأن مجرد التحقيق معه أمام القضاء الفرنسي سيكشف تورط هؤلاء، وبالتالي فضحهم أمام العالم، وليس أمام الشعب اللبناني الذي استطاعوا تطويعه، وتدجينه عبر انتخابات رمزية، تأخذ الشكل الديمقراطي، لكنها في المضمون تعيد إنتاج الطاقم ذاته.
منذ العام 1926 يعمل بمبدأ ازدواجية الجنسية، وأتى قانون ليكرس ذلك المبدأ، ليس في النص، إنما بعدم ذكر أي شيء عن الجنسية المزدوجة، وفيما يمنع على الأم المتزوجة من غير لبناني منح الجنسية لأولادها، (فيما هناك استثناءات تقوم على الطائفة والمذهب)، فإن هذا المبدأ يخالف الدستور اللبناني الذي ينص في مقدمته على أن “لبنان سيد حر ومستقل وطن نهائي لجميع أبنائه”، إلا أن هذه النهائية لم تطبق منذ إقرار التعديلات الدستورية في العام 1991، بل منذ ذلك الوقت يجري خرق هذا المبدأ في كل المؤسسات.
لهذا كانت الانتخابات تاريخيا في لبنان تجرى بنسبة أقل من 50 في المئة، وفي مرات عدة أجريت بنسبة 25 في المئة، بينما في الانتخابات الأخيرة لم تتعد 34 في المئة، وبالتالي فإن التمثيل الشعبي لا يعبر عن الحقيقة، رغم أن منذ زمن كانت هناك مطالبة بإلزامية الانتخاب، كما يجري في غالبية دول العالم، لكن هذه المطالبة تصطدم بقرار المرجعيات الطائفية والمذهبية، والأحزاب المهيمنة على القرار والمؤسسات، لأن في ذلك كشف حقيقة قوتها الشعبية، وهي لا تسعى إلى ذلك مطلقا.
وكذلك فإن هذه القوى والمرجيعات ترفض إجراء إحصاء رسمي لأنه يخالف نظرتها إلى الأمور، ولهذا فإن آخر إحصاء رسمي كان عام 1932، وللغرابة أن كثيرين ممن حازوا الجنسية اللبنانية في السنوات الماضية، تكتب ملاحظة على بطاقاتهم، و”إخراجات القيد” (وثيقة بديلة لبطاقة الهوية) هي “لبناني منذ أكثر من عشر سنوات”، ويستطيع الترشح للانتخابات والاقتراع فور حصوله على الجنسية، أي مخالفة هذا المبدأ أيضا.
هذه الغرابة تتحكم بسلوك المسؤولين، فهم يفرضون المعايير التي تنسابهم، لذلك فإن الوضع في لبنان يزداد سوءا، لأن البلاد تحكم بالصفقات والمزاجية والأعراف، وليس بالدستور والقانون، ومن هنا فإن محاسبة مسؤول بحجم “حاكم مصرف لبنان”، (بالمناسبة لبنان الوحيد الذي يسمى المسؤول الأول في المصرف المركزي حاكما) ليست سهلة كما يتصور البعض.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً