لا شك أن الإستخبارات الإقليمية والدولية تستفيد جداً من محاكات الأحداث، ففزاعة الحرب على الإرهاب مثلا إستخدمتها بريطانيا وفرنسا في الحرب العاليمة الثانية ضد ألمانيا ثم ضد الروس في الحرب الباردة، وفي الثمانينات ضد القذافي، وبعدها ضد عمر البشير في السودان ثم العراق ، وأستخدمها آخيرا النظام المصري ضد المعارضين له في سينا، وبالمثل سلكت الكرامة طرقهم لتصفية معارضيها في الشرق الليبي.
برقة اليوم قريبة إلى حد كبير من وضع جنوب السودان في بداية الثمنينات، قبائل تشعر أنها مهمشة وعند أقدامها أبار النفط، وشباب خاض الحرب وعلى أهبة الإستعداد للإستمرار في حروب أخرى، وقيادات لا تفكر في تأهيل الشباب وتوطين المشاريع والتخطيط للتنمية المستدامة بقدر تفكيرها في وجود نظام فيدرالي أو نظام دستوري يراعي خصوصية برقة المزعومة من أجل ضمان عائد كبير من صادرات النفط للإقليم، وقوات عسكرية لا تفكر إلا في التسليح وضم أكبر مساحة من الأرض لتاكيد شرعيتها كلاعب رئيسى في أي تسوية مرتقبة، ولا تألوا جهدا للإتصال بالقاصي والداني من أجل تمويل (الحرب على الإرهاب) ، وبين هذا وذاك نواب متماهون مع المواقف ولا يهمهم إلا الريع؛ المهايا والمزايا، وقطاع من السكان هُجروا فتقطعت بهم السبل وليس لهم من طريق للعودة. بالمقابل مجموعات إسلامية مسلحة لها أدرع فقهية في الغرب الليبي تصدر الفتوي في الكثير من شئون الحياه، بداية من القبض في الصلاة إلى إستهجان الأغاني الوطنية ومن يؤديها بمناسبة العيد السابع للثورة.
جنوب السودان كان يمكن أن يكون سلة أفريقيا في الغذاء ومصدر للطاقات المتنوعة (75% من ثروة السودان النفطية في الجنوب إضافة إلى طاقات المياه التي لا تنضب) ولكن جهل الساسة وتغول القبيلة حال دون ذلك، كانت هناك حروب قبلية وجهوية منذ 1955م، ولكن ما فاقم الأمر ظهور حكومة البشير التي إدعت تطبيق الشريعة الإسلامية وصبغ السودان بصبغة إسلامية عربية في دولة متعددة الأجناس واللغات. عندها بدأت الحركات المعارضة في الجنوب، تم إرسال جون قرانق الضابط في الجيش السوداني لأكثر من إحدى عشر سنة، والحاصل على دورات في أمريكا للجم المعارضين، ولكنه فضل الإنضمام إليها وأعاد تشكيلها فيما يسمى الجيش الشعبي لتحرير السودان، وتحصل على العون من أمريكا ومن القذافي لما يزيد عن عشرون سنة في قتاله مع الشمال، ثم دخل في مفاوضات أفضت إلى تكوين فيدرالية سنة 2005م، ولكنه قتل بعد شهر من تسلمه مهامه كمساعد للرئيس السوداني في تحطم طائرة أوغندية.
لم تستمر الفيدرالية ولم يتم تكوين مؤسسات دولة ولا جيش وطني في الجنوب حتى كان إنفصال جنوب السودان عن شماله في سنة 2011م، وبداية التناحر والحروب بين قبائل الدنكا والنوير والمسيرية إلى يومنا هذا، ولم يغني عنهم النفط ولا نهر النيل ولا الأرض الزراعية المترامية الأطراف، فقتل مئات الألاف وشرد الملايين مع إنتشار المجاعات والملاريا، إنها القبلية والجهل بعينه. بالمقابل أزال الشمال عن كاهله تكاليف الحرب وفوضى المعارضة العبثية، وقام بمراجعات كثيرة لأسلوب حكمه.
ومع تفاقم وضع اللا-إتفاق بين نواب برقة وبقية نواب ليبيا، والموت السريري لمجلس النواب، والذي أفضي إلى معانات الدولة والمواطن أمنيا وإقتصاديا، هل سنسمع عن أصوات تنادي بالموافقة على إنفصال برقة والتخلص من عبئ الإبتزاز والنقاش العقيم من متصدروا المشهد اليوم من المنطقة الشرقية، خاصة وأن للمنطقتين الجنوبية والغربية كل المقومات الملائمة لتكوين دولة عصرية سياسيا وإقتصاديا. هذا ما لا يحدث بسبب رفض القاعدة الشعبية من أهل الشرق الليبي للتقسيم (حسب إستفتاء جامعة بنغازي 2012)، وتستمر المعاناة.
تكملة السيناريو الذي لم يتم مناقشته من المجتمع البرقاوي، هو ماذا سيحدث لو أصيب جون قرنق الليبي بنوبة قلبية حادة؟ وهل المناقشات الأحادية الجارية في مصر لتوحيد الجيش مجدية؟ عند وفاة جون قرنق السوداني في تحطم طائرة نعاه جورج بوش وحضر مأتمه الكثير من المسؤلين الأفارقة إحتراما له لأنه عارض حكما ثيوقراطيا دينيا وقومجيا عرقيا، وقامت زوجته بمساندة الدولة الوليدة، ولكن في حالة جون قرنق الليبي لا شك أنه ليس هناك إختلافا فكريا يشفع له ولا مؤسسة عسكرية تتولى زمام الأمور من بعده، فأبنائه سيهرعون إلى أمريكا بحكم أنهم مواطنين تلك الدولة، وسيغادر جل الطاقم العسكري إلى مصر حيث الأصهار والأقارب، وتقفل إذاعات لأنها لا تجد من يدفع تكاليف التطبيل، أما مجلس النواب فلن يجد له قاعة يجتمع فيها بالفندق لأنه فقد المساند على العبث، بالمقابل سيزحف ألاف المهجرين براً وبحراً وجواً عائدين إلى ديارهم في الصابري وبوعطني وسيدي خريبيش والفويهات والسلماني. لا شك أنه سيناريو قادم لا محالة ولكن السؤال الكبير لأجل ماذا دمرت المدينة وقتل الآف الشباب وبثرات أطراف ألآف أخريات؟وما مصير طلبة العلم النافع الداعمين، والقوات المساندة المغضوب عليها من الجميع؟ .
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
من بنغازي الغالية ياتي الجديد