“المرتزقة التي جلبها الحرب على طرابلس أخطر على ليبيا من الميليشيات المسلحة التي جاءت الحرب لتفكيكها”.
لا يُجادل عاقلين في خطورة الميليشيات على الوضع الأمني في البلاد، ولا في دورها في إعاقة أداء أجهزتها المختلفة.
لكن أيضا لا يجادل عاقلين في أن هذه الميليشيات تستمد قوتها من ضعف الدولة وضعف مؤسساتها، وفي الانقسام السياسي الذي رزئت به.
لذلك فقناعتي تتزعزع في إمكانية حل الميليشيات في ظل هذا الانقسام، وترسخت في ذهني أن الحالة الليبية هي حالة صراع سياسي اتخذ من وجود الميليشيات مبرر له، بدلا أن يعمل على توحيد جهوده لتفكيكها.
وتزداد هذه القناعة رسوخا حينما أقارن بين أخطار الميليشيات المحلية وبين المرتزقة التي جلبتها الحرب على طرابلس.
كتب السيد ديكلان والش (Declan Walsh) رئيس مكتب النيويورك تايمز بالقاهرة، مقال عن المرتزقة في ليبيا وشبكة النفعيين على صفحات جريدة النيويورك تايمز في 25/5/2020، قراءة هذا المقال تثير الخوف وتنشر الرعب في كل من يحرص على هذه الأرض ويأمل في سلامتها.
يتحدث السيد ديكلان في بدية مقاله عن “عالم أولئك الذين انتعشوا من فوضى ليبيا”، حيث أشار إلى أحد فرق المرتزقة المناط بها مهمة قصيرة لصالح حفتر كشف عنها محققو الأمم المتحدة ونشرتها جريدة التايمز النيويوركية هذا الأسبوع، هذا الفريق وصل إلى بنغازي جوا وبحرا، ويتكون من اثنين من مشاة البحرية البريطانية السابقين وصلا عن طريق البحر، قادمين من مالطا بزوارق مطاطية عسكرية إلى الشواطئ الليبية الشرقية، كما وصل عددا آخر جوا وهم يحملون أوراق مزورة، ونقلو على متن ست طائرات هليكوبتر انطلقت من بوتسوانا وحطت في بنغازي.
ووصل بقية الفريق -الذي أُطلِق عليهم المقال اسم جنود الثروة– من دول مختلفة شملت جنوب أفريقيا وبريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة –وقد انطلقوا من منطقة في الأردن وحطت بهم الطائرات في بنغازي.
أكد محققو الأمم المتحدة في وقت لاحق، أن مهمة ها الفريق المختلط هو القتال إلى جانب القائد الليبي خليفة حفتر في هجومه الشامل على العاصمة طرابلس، وقد كان ثمن تعاونهم 80 مليون دولار، إلا أن الأمور بين المرتزقة والسيد حفتر الذي نعثه المقال بالزعيم الزئبقي سارت بشكل سريع وخاطئ، واندلع نزاع بينهم حول صلاحية الطائرة التي ستقلهم إلى الجنوب.
وفي 2 يوليو بعد أربعة أيام فقط في من تواجدهم في ليبيا، غادر المرتزقة نتيجة هذا الخلاف على ظهور قواربهم السريعة وتوجهوا إلى مالطا.
على الرغم، كما يقول المقال، من قصر عمر هذه المهمة الفاشلة، فالشجار الذي حدث بين حفتر وهؤلاء المرتزقة يقدم توضيحًا صريح جدا لما انتجته هذه الحرب التي يقودها رعاة أجانب أقوياء -بشكل أساسي الإمارات العربية المتحدة وتركيا وروسيا ومصر– من خلق ملعبًا مربحًا للمهربين وتجار الأسلحة والمرتزقة وغيرهم من المستفيدين الذين ينتهكون الحظر الدولي على الأسلحة مع القليل من الخوف من العواقب.
ويرى المقال أن ليبيا أصبحت “مغناطيس فريد لمزيجها من الثروة النفطية ومعايير القتال المتقطعة”، ويصف الحرب الدائرة فيها أنها حرب مرتزقة على مرتزقة، تشمل قائمة المرتزقة خليط من الروس والسوريين والسودانيين والتشاديين والغربيين إلى القتال، وفي بعض الأحيان حرب بين رجال من نفس البلد كما في الحالة السورية، فالمرتزقة السوريين موجودين على جانبي الصراع لقتال بعضهم البعض.
قال السيد ولفرام لاشر (Wolfram Lacher) الخبير الألماني في الشؤون الليبية من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية أن ليبيا مجانية للجميع، وأن الجميع يجلبون كل الأنواع السخيفة من الأسلحة وكذلك المقاتلين إلى ليبيا، مع وجود سوريين من كلا الجانبين، ولا أحد يمنعهم”.
وتحت عنوان ” البنادق الأجنبية والمال والمقاتلين”، قال الكاتب إن هذه الدولة الغنية بالنفط وذات الكثافة السكانية المنخفضة، قد عانت من الفوضى منذ الإطاحة بالمستبد القذافي في عام 2011، وقد أسست محادثات السلام دولة هشة مدعومة من الأمم المتحدة وحكومة في طرابلس يعمل السيد حفتر على استهدافها والإطاحة بها، ومنذ هجومه الأول في عام 2014، تم دعم السيد حفتر بمجموعة من القوات الأجنبية.
في العام الماضي، قام جيش فاغنر القوي المدعوم من الكرملين، بشن هجوم توربيني على طرابلس، لكن تركيا انضمت إلى القتال نيابة عن طرابلس في يناير وألقت بحملة السيد حفتر في حالة من الفوضى، وأفادت وكالة رويترز أن كتيبة كبيرة من المقاتلين الروس انسحبت من الخطوط الأمامية بكامل أسلحتهم من جنوب العاصمة خلال عطلة نهاية الأسبوع، وتم نقل هذه القوات في ثلاث طائرات إلى معقل حفتر، ومن المرجح أن يحدد الرعاة الأجانب الأقوياء للسيد حفتر خطوته التالية.
ووفقًا لتقرير سري قدم إلى مجلس الأمن في فبراير الماضي، قامت شبكة من الشركات السرية تتخذ من الإمارات العربية المتحدة مقرا لها بعملية تنظيم وتمويل حملة المرتزقة الفاشلة في الصيف الماضي، ويملك هذه الشركة جزئيًا رجل الأعمال الأسترالي كريستيان دورانت (Christiaan Durrant)، وهو طيار مقاتل سابق، وشريك مقرب لأشهر مقاولي المرتزقة في العالم، الأمريكي إريك برينس (Erik Prince)، وللسيد برنس علاقات وثيقة مع إدارة الرئيس ترامب، وقد تعرضت هذه العلاقات وخضعت إلى التدقيق من قِبل الكونغرس الأمريكي خلال السنوات الأخيرة.
زود السيد برنس ولي عهد الإمارات الأمير محمد بن زايد، الراعي الرئيسي لحرب السيد حفتر في ليبيا، بقوات خاصة لتقوم بمهام قتالية داخل وخارج الإمارات، وأيضا لحماية النظام الحاكم الذي يشك في كفاءة قواته المحلية.
يدرس محققو الأمم المتحدة ما إذا كان السيد برينس قد لعب أي دور في عملية المرتزقة الفاشلة ذلك الصيف، وقال برنس من خلال المتحدث الرسمي إنه “لا علاقة له بأي شكل من الأشكال بأي عملية عسكرية خاصة مزعومة في ليبيا”.
وقد وصف السيد شون مكفت (Sean McFate)، وهو مقاول عسكري سابق وكبير زملاء المجلس الأطلسي الحالة الليبية على أنها “حالة للطابع المتغير للحرب”، فالحرب كما يقول “نشاط سياسي”، لكنها في ليبيا أصبحت تجارة، فالمحاربين من أجل الربح يأتون من من كل ناحية، ويشنون تلك الأنواع من الحروب التي ناقشها مكيافيلي في القرن السادس عشر.
وتحت عنوان “أي شيء وفي أي وقت وفي أي مكان” في نفس المقال يذكر الكاتب أن الضابط السابق في سلاح الجو الجنوب أفريقي المدعو ستيف لودج (Steve Lodge)، والذي عمل أيضًا في الجيش البريطاني، وعمل كمقاول عسكري خاص في نيجيريا، قاد فريق مكون من 20 مرتزقًا تم نشرهم في بنغازي في يونيو الماضي، ويتكون هذا الفريق من عسكريين سابقين أيضًا من اكثر من دولة، ضم 11 مرتزق من جنوب إفريقيا وخمسة بريطانيين وأستراليان ومدرب طيار أمريكي واحد، وكلف الفريق بمنع شحنات الأسلحة التركية من الوصول إلى الحكومة في طرابلس عن طريق البحر، ويقول محققو الأمم المتحدة، الذين كشفو العملية، إن الخطة كانت تتمثل في إنشاء قوة هجومية بحرية باستخدام الزوارق السريعة وطائرات الهليكوبتر الهجومية التي ستمكنهم من الصعود إلى السفن التجارية وتفتيشها، ويعتقد المحققون أن القوة البحرية كانت جزءًا من عملية أكبر تضمنت أيضًا قوات كوماندوز تقوم بمراقبة أهداف العدو وتدميرها.
لإنجاز هذه العملية تم شراء ست طائرات هليكوبتر من جنوب أفريقيا نقلت بالشاحنات إلى مطار غابورون الدولي في بوتسوانا، وعلى الرغم من السرية والتكتم على العملية إلا أنها تركت سلسلة طويلة من الأدلة، منها صور نشرت على صفحات مجلة بوتسوانا غازيت على الإنترنت (The Botswana Gazette) لثلاث مروحيات سوبر بوما، مربوطة على ظهر شاحنات، منطلقة على الطريق السريع، وقد تم تحميل هذه المروحيات في طائرات شحن، إحداها كانت مملوكة لشركة أوكرانية تدعى سكاي ايفييشن ترنس (SkyAviaTrans)، شعارها “أي شيء وفي أي وقت وفي أي مكان وبشكل احترافي”، وقد عملت هذه الشركة أيضا في نقل عناصر عسكرية إلى ليبيا حسب ما ورد في تقرير للأمم المتحدة، وكانت وجهة هذه الرحلة حسب مستنداتها الأردن، إلا أنها هبطت في مطار بنغازي، كما تم استئجار زورقين سريعين، من تلك الأنواع الذي تستخدمه القوات الخاصة من تاجر مالطي مرخص له يدعى جيمس فينيش (James Fenech).
قام السيد لودج بالتفاوض على هذه الصفقات، ولكن تم التعاقد عليها ودفع ثمنها من قِبل العديد من الشركات التي يوجد مقرها في دبي والتي يسيطر عليها أو يملكها السيد دورانت، إحدى الشركات، وتدعى لانكستر 6 (Lancaster 6)، هي جزء من شبكة من الشركات ذات الأسماء المماثلة في مالطا والإمارات وجزر فيرجن البريطانية، ويحمل موقعها على شبكة الإنترنت شعار براق لا يعكس نشاطها يقول “الازدهار يولد السلام” (Prosperity breeds peace)، وتدير شركة أخرى، تُعرف باسم أوبوس كابيتال أسيت (Opus Capital Asset)، سيدة تدعى أماندا كيت بيري (Amanda Kate Perry)، وهي سيدة أعمال بريطانية بارزة في دبي تروج لصاحبات المشاريع، وقد أشادت بها مجلة الإمارات للمرأة المحلية، كواحدة من المتميزات ذات “الرؤيا” لعام 2019.
في بنغازي، غضب السيد حفتر من الطائرات التي جلبها المرتزقة في إطار هذه الصفقة، ووصفها أحد مسؤولي جناح حفتر بأنها “مروحيات مصفقة” كناية عن قدمها وعن مخالفتها للمواصفات المتفق عليها، وأشارت وثيقة حصلت عليها الأمم المتحدة إلى أن الطائرات الموعودة تضمنت طائرة هليكوبتر هجومية من طراز كوبرا وطائرة من طراز LASA T-Bird ، وهي طائرة زراعية عدلت لتصبح أداة للاستطلاع والحرب.
بسبب عدم الاتفاق مع حليفة حفتر، قرر فريق المرتزقة الانسحاب إلى مالطا. ولكن بعد مغادرة بنغازي ليلة 2 يوليو، واجه أحد قواربهم متاعب مما دفع بهم إلى التخلي عنه، وحشروا انفسهم جميعا، وكان عددهم عشرون، في قارب واحد حتى وصلوا إلى مالطا.
بعد أسابيع، عثر خفر السواحل الليبي على القارب المهجور وظهرت صور له في وسائل الإعلام الإخبارية المحلية.
يقدم السيد دورانت نفسه على أنه رجل أعمال وعامل في المجال الإنساني، ويظهر في موقعه على الإنترنت حاملا طفلًا كينيًا، وكتب في أحد مدوناته “لإنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب”، ومع ذلك، فقد تم ربط جزء كبير من حياته المهنية الأخيرة بالسيد برينس، الذي نظم وأشرف على المشاريع العسكرية الخاصة التي اشتهرت بها شركة بلاك ووتر.
من عام 2014 إلى عام 2016، عمل السيد دورانت تحت قيادة السيد برنس في شركة تسمى فرونتاير سيرفس قروب (Frontier Services Group )، حيث قاد مشروعًا مثيرًا للجدل لتحويل طائرات زراعية إلى طائرات حربية رخيصة.
تم نقل المشروع في وقت لاحق إلى شركة بلغارية مرتبطة بالسيد برنس، وأطلق على هذه الطائرات اسم LASA T-Bird نفس الطائرة الموعودة للسيد حفتر، وفي عام 2017، ارتبط السيد دورانت بمقتراح السيد برينس الخاص بإنشاء سلاح جوي خاص لمحاربة طالبان في أفغانستان عندما أدرج السيد برنس لانكستر 6 كشركة شريكة لوزارة الدفاع الأمريكية، حسبما أفادت صحيفة ذي تايمز العسكرية.
يرتبط التاجر المالطي السيد فينيش بالسيد برنس بعلاقات تجارية وطيدة وفي صفقات الأسلحة المشبوهة، ففي عام 2018 انشؤوا شركة بلاك ووتر للذخيرة (Blackwater Ammunition)، والتي تبيع الذخيرة للبنادق الهجومية والسكاكين والساعات تحت العلامة التجارية (Blackwater).
إن الحظر الدولي المفروض على توريد الأسلحة إلى ليبيا لا معنى له، ويواجه أي شخص ينتهكها حظراً محتملاً على السفر وتجميد الأصول فقط، لكن لم يعاقب على الإطلاق حتى الآن سوى مهربين إريتريين، وحتى كبار مسؤولي الأمم المتحدة يصفون حظر السلاح على ليبيا بأنه “مزحة”، فلا يمكن للقوى الكبرى أن تتفق على من يجب أن يُعاقب، إما بسبب خلافها العلني بشأن ليبيا، أو بسبب السياسات المتذبذبة والمتناقضة كالتي تمارسها أمريكا.
حرب ليبيا الفوضوية طليقة للغاية لدرجة أن بعض المستفيدين تمكنوا حتى من العمل على جانبي خط الجبهة، ففي 5 أغسطس الماضي، قُصِفت طائرة مُسيَّرة تديرها قوات السيد حفتر طائرة شحن على المدرج في مطار مصراتة، كانت هذه الطائرة هي نفس طائرة الشحن الأوكرانية التي سلمت طائرة الهليكوبتر إلى السيد حفتر قبل شهر. وقال المسؤولون هذه المرة إنها كانت تحمل إمدادات عسكرية إلى طرابلس.
هذه فقط أحد الحالات التي كشفها محققو الأمم المتحدة، والاعبين في هذه العملية كالسيد برنس والسيد دورانت والتاجر فينيش ما هم إلا رقم صغير في شبكات التهريب العالمية التي تعصف بالساحة الليبية، هم مجموعة صغيرة من مجموعة كبيرة من اللاعبين الذين تحركهم دول وحكومات، كمجموعة الفاغنر الروسية، والتي لا شك أنها ليست الفريق الوحيد الذي تقف وراءه حكومة دولته، فكل هؤلاء العملاء المحترفين والمرتزقة يرتبطون بمصالح سياسية واقتصادية بدولهم.
لهذا أرى أن خطورة المرتزقة أكثر شدة على المجتمع من الميليشيات المحلية التي كما أشرت أعلاه تستمد قوتها من ضعف الدولة ومن الانشقاق السياسي الذي تغديه للأسف أطماع عملاء الداخل.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً