لا يكاد يمر يوم دون خبر جديد عن معضلة تهريب النفط الليبي، هذا المورد الضخم الذي بات جزء كبير منه خارج الوثائق الرسمية، ويتم التعامل معه كخزان مال سائب لا أصحاب له، ولا رقابة عليه، في ظل الانقسام الحاد داخل مؤسسات الدولة الليبية.
وتختلف التقديرات لحجم تجارة النفط غير الشرعية في ليبيا لكن وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية تذكر في تحقيق مطول لها أن 40% من الوقود الذي تستورده ليبيا يتسرب من خلال التجارة غير المشروعة.
وعنونت الوكالة التحقيق بعنوان “ملحمة السفينة كوين ماجدة” ورصدت من خلاله ظاهرة تهريب النفط الليبي، فما حكاية هذه السفينة، ولماذا تعتبر دليلا على فساد كبير تنطوي عليه إدارة ملف النفط في ليبيا.
بدأت الوكالة العالمية، القصة بسرد أحداث وقعت في سبتمبر 2022، حين غادرت السفينة “كوين ماجدة”، محملة بزيت الغاز البحري، تبلغ قيمتها أكثر من مليوني دولار، ميناء بنغازي الليبي وانطلقت إلى بورتو رومانو في ألبانيا، بقيادة القبطان الليبي، زهير الكوفي، حاملا معه شهادة موقعة توضح أن الوقود نشأ في ليبيا من “شركة البريقة لتسويق النفط”.
وعندما دخلت “كوين ماجدة” المياه الألبانية، تقدم منها قارب صغيراًتابع لخفر السواحل، وبدأت عملية تدقيق الوثائق، ثم جاءت إلى جانبهم سفينة أكبر لخفر السواحل، ووجد المفتشون الألبان أنه حتى خزانات المياه ضخت بالكامل بآلاف الجالونات من زيت الغاز، واشتبهوا في أن الوثائق التي تظهر الوقود الذي مصدره ليبيا مزورة.
وكانت هناك إشارة استفهام واحدة وهي أن “شركة البريقة” تتعامل مع الوقود داخل ليبيا، في حين أن المؤسسة الوطنية للنفط هي الكيان الوحيد المصرح له باستيراد وتصدير المنتجات البترولية، في ليبيا.
واقتيدت السفينة “كوين ماجدة” إلى ميناء دوريس، وأخذ بعض أفراد الطاقم المكون من 10 أفراد إلى مركز الشرطة، ووجهت إليهم تهمة التهريب.
وبحسب المدعون الألبان فإن المتلقي المقصود هي شركة “كاستاراتي غروب أس أتش دوت إيه”، وهي شركة طاقة تدير شبكة من محطات الوقود في جميع أنحاء البلاد، وقامت شركته “إلداوادي شيبيتغ ليميتد”، بتشغيل السفينة “كوين ماجدة” خارج ليبيا حتى أوائل عام 2022، وهي الآن مسجلة في جزر مارشال، وفقاً لقاعدة بيانات المنظمة البحرية الدولية، وفي يونيو 2022، تغير علم السفينة من ليبيا التي اعتبرتها الصناعة البحرية مدرجة على القائمة السوداء بسبب افتقارها إلى الرقابة إلى الكاميرون.
وأكدت شركة “كاستاراتي” في رسالة بالبريد الإلكتروني أنها تلقت شحنات من زيت الغاز البحري من السفينة “كوين ماجدة” في شهري يوليو وأغسطس الماضيين، لكن الشركة قالت إنها لا تملك عقد شراء للشحنة التي كانت تحملها السفينة الليبية وقت احتجازها.
وتقول الوكالة العالمية، إن احتجاز السفينة أثار تساؤلات حول تهريب الوقود المزعوم أكثر ممن من يقف وراءه؟ وما مدى انتشار السرقة؟ لماذا كان من الممكن أن يحدث؟ ومن أين أتى الوقود، وأين كانت الأموال تذهب؟.
وأشارت إلى أن الأمر استغرق ما يقرب من عام للإجابة عن هذه الأسئلة، لكن تحقيقاً أجرته استناداً إلى سجلات الشحن والمقابلات مع مسؤولين ليبيين، وأشخاص مطلعين على أعمال النفط الليبية وأفراد الطاقم، وجد أن ما يصل إلى 40 في المئة من الوقود الذي تستورده البلاد بموجب برنامج دعم حكومي، أو حوالى 5 مليارات دولار سنوياً، يتسرب من خلال التجارة غير المشروعة، ويأتي معظم هذا الوقود المستورد من روسيا، ويحول إلى دول في أوروبا التي حظرت استيراد تلك المنتجات نفسها.
وقال مدير التحقيقات في شركة “سنتري”، تشارلز كاتر، “أدى إغلاق الأسواق الأوروبية في أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا، والعقوبات الغربية التي تلت ذلك، إلى زيادة حادة في صادرات النفط الروسي المكرر إلى شمال أفريقيا، وهي منطقة تعاني ندرة المصافي”.
وأجاب الكابتن الكوفي عن أسئلة “بلومبيرغ”، ونفى ارتكاب أية مخالفات، قائلاً إن التحقق من الأوراق ليس من مهماته، وأوضح أنه عين في أبريل 2022 بعقد مدته خمسة أشهر في مقابل 3500 دولار شهرياً، مضيفاً “نحن عمال بموجب عقد بيننا وبين الشركة، نحن لسنا أصحاب السفينة أو الشحنة. لا أعرف لماذا يحتجزوننا”.
وبعد ذلك اختفى الكابتن من الميناء، وخرج كبير ضباط السفينة، عماد الشعلة من مدخل أعلى ممر صدئ، وكان متردداً في التحدث في البداية، قائلاً إنه لا يريد إزعاج مالك السفينة، الذي قال إنه كان يدفع أتعاب محام يمثل الطاقم.
لكنه لاحقا قال للوكالة “بعد ستة أشهر في السجن، سمح لي ولأفراد الطاقم الآخرين بالعودة للسفينة تحت الإقامة الجبرية” مضيفا إن السفينة سلمت شحنات إلى ألبانيا في يوليو وأغسطس الماضيين، من دون وقوع حوادث، وإنه فوجئ عندما احتجزت في سبتمبر الماضي، قائلاً “كان الأمر نفسه، الأوراق نفسها، والمشتري نفسه، نحن لم نفعل أي شيء خاطئ”.
لكن المحققين الألبان يروون قصة مختلفة، فبحلول رحلة “كوين ماجدة” الأخيرة، كانت لديهم معلومات استخبارية تشير إلى أنها كانت تبحر بوثائق مزورة، واشتبهوا في أن الوقود، لو دخل ألبانيا، كان سيباع محلياً في محطات الوقود، وربما إعادة تصديره إلى دول أخرى.
وبالقرب من المكان الذي رست فيه سفينة “كوين ماجدة”، يوجد مبنى من طابقين يرفع العلم الإيطالي، وهو موقع لقوة شرطة تحقق في الجرائم الاقتصادية والمالية. ويعمل أفراد الجيش الإيطالي هناك بشكل وثيق مع خفر السواحل الألباني لمراقبة الأنشطة المشبوهة على البحر الأدرياتيكي، الذي يفصل بين البلدين.
وحقق المكتب في الاتجار بالمخدرات والبشر، وفي عام 2022، بدأ الضباط في رؤية اتجاه آخر، إذ انخرطت سفن الصيد الألبانية في عمليات نقل من سفينة إلى أخرى في البحر، مع حصول القوارب على شحنات الوقود المهربة من ليبيا.
وتمتلك ليبيا أكبر احتياطيات نفطية في أفريقيا، ولديها طاقة تكرير صغيرة، لذلك تستورد شركة النفط الوطنية الوقود بأسعار السوق وتبيعه للمواطنين بخصم كبير، مما يمنحه عملياً كمنفعة اجتماعية، مما يخلق فرصاً للمهربين لبيعه بأسعار أعلى.
وفي يناير 2023، ساعدت قوة الشرطة الإيطالية التي تحقق في الجرائم الاقتصادية والمالية، في القبض على سفينتي صيد، “جيني” التي ترفع العلم الألباني، وقارب يرفع العلم الليبي، لنقل الوقود باستخدام أنابيب مطاطية، وفي المحصلة، أحبطوا خمس عمليات لتهريب الوقود منذ الحرب الروسية في أوكرانيا.
وقال دابونتي في مقابلة أجريت معه في مكتبه المطل على الميناء، “أصبحت المشكلة واضحة للغاية منذ الحرب الروسية، ففي الماضي، كانت جريمة صغيرة، قوارب الصيد، والصيادون هم الذين يستفيدون بشكل مباشر. والآن نشهد تزايداً وتدويلاً لهذه الظاهرة، مع تورط الجريمة المنظمة أيضاً”.
وتقول “بلومبيرغ نيوز” في تحقيقها إن حال السفينة “كوين ماجدة” توحي بشيء أكبر، كما لم يذكر المدعون الألبان مصدر الوقود، لكنهم يزعمون أنه جرى الاتجار به بشكل غير قانوني، فيما يواجه القبطان وأفراد الطاقم الثلاثة أحكاماً بالسجن تصل إلى 10 سنوات، وسمح لستة آخرين بالعودة لبيوتهم.
وقال رئيس ديوان المحاسبة الليبي خالد شكشك، إن الجهاز ينفذ حملة للقضاء على آفة تهريب الوقود، وهي المشكلة الراسخة التي تفاقمت منذ انهيار نظام العقيد معمر القذافي في عام 2011، مما أدى إلى صراع مستمر بين الفصائل العسكرية المتنافسة وأمراء الحرب والشبكات الإجرامية.
وفي عام 2017، كشف المدعون العامون في إيطاليا ومالطا عن شبكة إجرامية دولية هربت وقود الديزل إلى السفن في مالطا، ثم إلى السوق الأوروبية في نهاية المطاف. وتتعلق القضية بنجم كرة قدم مالطي سابق، وميليشيا ليبية مسلحة، وشركة شحن إيطالية والمافيا، بحسب المدعين الإيطاليين.
وبحلول مايو 2022، لاحظ مسؤولو شركة النفط الوطنية نمطاً من تجارة الوقود المهرب من ليبيا إلى تركيا، لكنهم لم يتمكنوا من إيقافه، وفقاً للوثائق التي اطلعت عليها “بلومبيرغ”. وفي مذكرة بتاريخ الـ10 من مايو الماضي، إلى النائب العام الليبي، قال رئيس المؤسسة الوطنية للنفط السابق في ليبيا مصطفى صنع الله، إن ثلاث سفن، بما في ذلك “كوين ماجدة”، تنقل شحنات وقود غير قانونية، وحث المدعي العام على اتخاذ الإجراءات اللازمة.
ووفقا لشكشك انتشر برنامج الوقود المدعوم في ليبيا، في السنوات القليلة الماضية، وقفز بأكثر من 70% إلى 62 مليار دينار (12.8 مليار دولار) في السنة المالية 2022، من 36 مليار دينار (7.4 مليار دولار) في 2021، وكان هذا ما يقرب من نصف الموازنة الوطنية، وكان في طريقه لأن يصبح أكبر في عام 2023، وجرى تهريب ما يصل إلى 40% من ذلك، أي حوالى 5 مليارات دولار في عام 2022، وفقاً لتقديرات مكتب التدقيق التي شاركها شكشك مع “بلومبيرغ”.
وكانت تقديرات مصرف ليبيا المركزي أعلى من ذلك، إذ قال إن التهريب كلف البلاد 30 مليار دينار (6.2 مليار دولار) في عام 2022.
وقال رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط الحالي فرحات بن قدارة، في يوليو 2022، عبر البريد الإلكتروني، إن تهريب الوقود يمثل “مشكلة كبيرة” لكنه لا يستطيع تقديم تقدير لحجم السرقة أو قيمتها، وقال إن مؤسسته طلبت من شركة “البريقة” تركيب أنظمة تتبع بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) لمساعدة السلطات في التحقيق، وأوصت الحكومة بإعادة النظر في برنامج الدعم الخاص بها.
ودعا شكشك إلى استبدال الدعم بدفع مبلغ مقطوع قدره 1000 دولار لعائلات لتلبية احتياجاتها من الطاقة، وقال إن “سياسة دعم الوقود بشكلها المطبق حالياً هي هدر للمال العام، واستنزاف لموارد الدولة. إنه ينشر الجريمة وعدم المساواة في توزيع الموارد ويقوض الديمقراطية”. نجا شكشك من محاولة لإقالته في عام 2014، وفي عام 2017، ودعا إلى رقمنة برنامج الدعم كوسيلة للحد من النفقات، بحيث تمنح العائلات الليبية بطاقة شحن محملة مسبقاً يمكنهم استخدامها لشراء الوقود بأسعار مدعومة، في نقاط البيع في جميع أنحاء البلاد، وبمجرد استنفاد الأسر لمخصصاتها الشهرية، سيطلب منها شراء الوقود بأسعار السوق، إلا أن الاقتراح لم يذهب إلى أي مكان.
وقال شكشك إن المؤسسة الوطنية للنفط لديها نظام محاسبي ضعيف، لا يتوافق مع المعايير الدولية، وليس لديه رؤية كاملة لما تفعله الشركات التابعة لها، وقال إن ليبيا تواصل استيراد مزيد من الوقود المكرر الذي لا يصل أبداً إلى المواطنين، مضيفا أن كميات كبيرة من الوقود تهرب لدرجة أن الليبيين في بعض المناطق الجنوبية والحدودية يقفون لساعات في طوابير طويلة، لتزويد سياراتهم بالوقود أو شراء الوقود من السوق السوداء بأسعار متضخمة.
ويمكن للتهريب أن يهز الأسواق العالمية، ففي يناير الماضي أجبرت الاحتجاجات في حقل الشرارة النفطي، التي اندلعت جزئياً بسبب نقص الوقود، المؤسسة الوطنية للنفط الليبية على إغلاق المنشأة لمدة ثلاثة أسابيع، وساعد إغلاق أكبر حقل نفط في البلاد، الذي يمكن أن ينتج حوالى 300 ألف برميل يومياً، في رفع أسعار النفط الخام أكثر من ثلاثة في المئة في ذلك الأسبوع.
وأدت حرب روسيا مع أوكرانيا إلى فارق أكبر ي الأسعار. وفي حين يدفع الليبيون قرشاً واحداً فقط في مقابل لتر البنزين، أي نحو واحد في المئة من سعر السوق، فإن المستهلكين في أوروبا يدفعون نحو دولارين.
ويقدر المسؤولون الإيطاليون أن ما يصل إلى 20 في المئة من الوقود المستخدم للنقل في عام 2021 يأتي من السوق السوداء، وذلك بشكل رئيس من خلال الواردات غير القانونية التي تتهرب من الضرائب بنحو 3 مليارات دولار سنوياً.
وفي اجتماع متلفز في نوفمبر الماضي، اتهم رئيس الوزراء الليبي عبدالحميد الدبيبة “شركة البريقة”، التي تستقبل الوقود المستورد وتسلمه لشركات النقل لتوزيعه، بالإسهام في ارتفاع تهريب الوقود من خلال تقديم طلبات كبيرة للمنتجات النفطية، وهذه هي الشركة نفسها التي كان اسمها موجوداً في وثائق الشحن الخاصة بالسفينة “كوين ماجدة”.
من جانبه وصف رئيس شركة البريقة لتسويق النفط فؤاد علي هذه الادعاءات بأنها “لا أساس لها من الصحة”، وفي مقابلة مع “بلومبيرغ” في يناير الماضي، قال إن الشركة تجمع، ولكنها لا تدقق في طلبات الوقود للوكالات الحكومية الرئيسة، إنما تمررها للموافقة على الموازنة، وهي ليست مسؤولة عن نقل الوقود بعد تسليمه لشركات التوزيع. ليس هناك ما يكفي من الرقابة”.
اترك تعليقاً