لقد تأسست ليبيا بقرار دولي رقم 289 في العام 1949 ويقضي القرار بمنح ليبيا استقلالها في موعد لا يتجاوز الأول من يناير 1952 م، وكُوِنت لجنة لتعمل على تنفيذ قرار الأمم المتحدة ولتبذل قصارى جهدها من أجل تحقيق استقلال كامل التراب الليبي ونقل السلطة إلى حكومة ليبية مستقلة. وتم حماية مواطنيها من بطش نظام مستبد بقرار دولي رقم 1973 في العام 2011، وساعد الناتو في الإطاحة بالنظام السابق بناء على القرار السابق. وتدخل المجتمع الدولي في رعاية الحوار الليبي الذي انتج اتفاق الصخيرات بقرار دولي، وتعمل الأمم المتحدة في مساعدة بناء الدولة عن طريق بعثتتها في طرابلس بقرار دولي صادر عن مجلس الامن رقم 2009 في شهر سبتمر 2011.
بناء على هذه الحقائق فإن ليبيا هي “طفل أنبوب” الأمم المتحدة، شكلت صبغياته ولعبت بالدي ان أي الذي يتجلي في مظهرها العام، وعلى قولة “القائد” “الطفل تربيه امه” استمرت الأمم المتحدة في رسم شكل الجنين الذي انتجته وأشرفت على تربيته ورعايته، لذلك فإن اكبر كذبة يسوق لها في ليبيا (ومثيلاتها من الدول) بكل مكوناتها السياسية هي كذبة السيادة الوطنية.
طبعا هذا لا يعني غياب حد ادني من السيادة الوطنية تتمتع به البلدان المستقلة، يسمح بها المجتمع الدولي المهيمن لتمكين المجتمعات من النمو وتحقيق نوع من الاستقرار الذي ربما ينعكس على رفاهية مواطنيها. ولتوضيح هذه الرؤية، علينا النظر في المجتمع البشري الحديث وفي دول هي اعظم شأنا من دولنا بل دول من اعظم دول العالم قاطبة. فالعالم بعد الحربين العالميتين تشكلت دوله حسب خارطة رسمتها الامم المنتصرة، وقبلت بها الأمم المنهزمه، وأصبحت واقع للأمم التي كانت خارج لعبة الصراع، والتي كانت مناطق نفود للأمم المتصارعة (تنتمي جلها الى ما يعرف الان بدول العالم الثالث).
اليابان مثلا، هي اعظم دول العالم الصناعي، خرجت من الحرب مهزومة ومحطمة بل ومحتلة للمرة الأولى في تاريخها، وقبلت بشروط الصلح مع الولايات المتحدة ودول التحالف التي فرضت عليها شروط غاية في القسوة، اجل مظاهرها قواعد عسكرية أمريكية تحميها وحرمانها من تطوير قدراتها العسكرية. استسلمت اليابان لقوات الاحتلال في 14 أغسطس 1945 عندما أعلمت الحكومة اليابانية قوات الحلفاء قبولها إعلان بوتسدام الذي ينص على إستسلام اليابان استسلاما كاملا بدون أي شروط. وفي اليوم التالي أعلن الإمبراطور هيروهيتو إستسلام اليابان غير المشروط على المذياع، وكانت المرة الأولى التي يستمع فيها الشعب الياباني لصوت إمبراطورهم، وهو اليوم الذي يعتبر آخر يوم في الحرب العالمية الثانية. في نفس اليوم قام الرئيس الأمريكي هاري ترومان بتعيين الجنرال دوغلاس مكارتر قائدا أعلى لقوات التحالف للإشراف على احتلال اليابان (تماما كما تم تعين بليمر قائد عسكري في العراق عقب احتلالها من قبل الرئيس جورج بوش).
كانت قوى التحالف قد اتفقت على تقسيم اليابان فيم بينها مثلما حدث في احتلال ألمانيا، إلا أنه في النهاية قام الجنرال مكارتر بمنح اليابانين حق الحكم المباشر على جزر اليابان الرئيسية، وأستثنا جزيرة أوكيناو التي أصبحت قاعدة أمريكيا حتى وقت متأخر. وقامت قوات الاحتلال بوضع الدستور الياباني وصادق البرلمان الياباني على هذا الدستور. وتضمنت الفقرة التاسعة فيه الحد من تحول اليابان إلى قوة عسكرية وتحجيم قدراتها القتالية. كما تدخلت قوات الاحتلال أيضا في الاشراف على النظام التعليمي وجعلت منه مماثل للنمط التعليمي الأمريكي. ورغم ان الاحتلال الأمريكي لليابان انتهى رسميا بتوقيع معاهدة سان فرنسيسكو في نهاية العام 1951، الا ان الوجود العسكري الأمريكي استمر حتى وقتنا الحالي، حيث يوجد ما يزيد عن 45000 جندي امريكي قبلت بهم اليابان المستقلة حسب بنود إتقافية تعاون امني مشترك بينهما.
المانيا ايضا خرجت بعد الحرب بقرارات مجحفة في حقها، حيث تم تقسيمها وفرض شروط عليها لا تقل قسوة على الشروط التي كبلت القدرات العسكرية اليابانية. فقد قسمت بعد الحرب بين الاتحاد السوفيتي وامريكا وفرنسا وبريطانيا، واقتطعتت أجزاء من أراضيها ضمت لبولندا وفرنسا، وتشرد نحو 12 مليون ألماني كانوا يعيشون في شرق اوربا، واعتقل نحو 8 مليون الماني إستخدموا كعمال سخرة في معسكرات العمل، وضل جزء كبير منهم في المعتقلات حتى عام 1956، وقامت أمريكا وبريطانيا بإهداء مليون اسير الماني الي فرنسا استخدمتهم كعمال سخرة في مشاريعها، وفكك السوفيات المصانع الألمانية ونقلوها الى بلادهم. وتعرضت إلى اشد من ذلك قسوة وأستهانة في ما يعرف بمبدأ “إعادة تربية الالمان” الذي تجلى في اقالة 90% من جهازها القضائي وإغلاق دور النشر والمدارس وتطهير المناهج الدراسية. وقد قام الامريكان بتحجيم قدرة المانيا وذلك بتوقيف عجلة الصناعة فيها، وتحويلها أولا الى دولة زراعية في اطار ما يعرف بـ”مشروع مورجنتاو” حتى لا تتمكن من تطوير قدراتها التقنية التي قد تعمل على تطوير قدراتها الحربية، مما قد يشكل تهديدا في المستقبل، ولم يتمر مشروع مورجنتاو في النهوض بألمانيا فقام الرئيس الأمريكي روزفلت برفضه والبحث عن مشروع بديل يضمن نهضة المانيا دون ان تخرج عن نطاق سيطرة الحلفاء الغربيين، فاستفادت المانيا اسوة بالدول الاوربية بمشروع إعادة الاعمار الذي عرف بـ”مشروع مارشال” الذي وضعه وزير خارجية أمريكا جورج مارشال، والذي كان يهدف أساسا الى ربط الاقتصاد الأوربي بالاقتصاد الأمريكي للحصول على عائداته المستقبلية، وابعاد شبح الشيوعية عن دول اوربا الغربية. وفي حين استفادت المانيا الغربية من مشروع مارشال امتنع الاتحاد السوفياتي في السماح لالمانيا الشرقية بالاستفادة من المشروع، مما أدى الى تطوير قدرات الأولى. والنتيجة ان المانيا ارتهنت اقتصاديا في يد أمريكا، كذلك ارتهنت عسكريا في يد أمريكا، فقد فاق عدد الجنود الأمريكيين في القواعد الامريكية في المانيا 13000 جندي، وكانت بلدة “بومهولدر” في جنوب غرب ألمانيا نسخة مصغرة من أميركا بسبب كثافة التواجد الأمريكي فيها.
ويتمتع الجنود الأمريكيين في كل الدول التي توجد بها قواعدهم بحصانة عالية، إذ لا يتم محاكمتهم عن جرائمهم الكثيرة التي يرتكبونها في الدول التي تقع فيها جرئمهم كما تنص عليه الأعراف الدولية، والذي ممكن ان يترجم بانه استهانة بالسيادة الوطنية.
ليبيا، ليست كألمانيا او اليابان او كوريا الجنوبية، هي كغيرها من الدول الخارجة من عبائة الجغرافيا، لم تملى عليها شروط لانها لم تكن لاعب في صراع الأمم، خرجت بعد الحرب بالخارطة التي عليها الان ، بشكلها الحالي بعد ان اسقطت مشروع بيفن سفورزا الذي ينص على تقسيمها الى أقاليم ثلاثة بين بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، وحكمتها حكومات “وطنية” بعد تقاسم الغنائم بين الأمم المنتصرة في منتصف القرن الماضي. لكن هذه الدول الخارجة من عبائة جغرافية ما بعد الحرب العالمية لم يكن يسمح لاهلها “باللعب قدام حياشينهم”، وإن أرادوا اللعب فلا باس ان يلعبوا كما شائو ولكن “داخل عتب حياشهم” مع بعض الاستثناءات للعب “على الرصيف” في حدود ضيقة مرسومة سلفا وبإذن مسبق ضمن ترتيب محسوب. لا عيب في ذلك مادام واقعنا لا يسمح لنا الا بهذا المتاح، فنحن لسنا افضل من المانيا أو اليابان او كوريا الجنوبية، لكن العيب كل العيب ان نتحدث عن “سيادتنا الوطنية” ونسوقها كانها قدرا نصنعه بارادتنا الحرة ونحققه بقدراتنا التي لا نملكها.
في الواقع الليبي الحالي، اصبح مفهوم السيادة الوطنية عند ادعيائه منحصرا في التوجه الايدلوجي لهؤلاء الادعياء. التيار الإسلامي مثلا يرى ان القدح في النظام القطري كفر، ولا يرى فيه تدخل يهدد السيادة الوطنية يجب التصدي له. بالمقابل التيار الخصم للتيار الإسلامي يرى في التدخل المصري مصلحة تخدم الوطن ولا تمس بالسيادة الوطنية. والنتيجة ان التدخل الخارجي وخاصة تدخل ما يسمى بالدول الشقيقة افسد الحالة الليبية واجج نيرانها وابعدها عن احتماليات الحلول الممكنة والتوافق المحتمل. وفي حين تغير دول الغرب مواقفها من الازمة الليبية تمشيا مع مصالحها في الملفات الثلاثة التي تهمها، وهي ملف الإرهاب وملف الهجرة وبدرجة اقل ملف النفط، وبناء على الواقع على الأرض الذي يتغير باستمر اخدا ورد، يضل موقف الدول العربية ثابت في دعمها احد الأطراف ضد خصمه ومحاولة تغليبه، لانها في حقيقة الامر تخدم مصالحها بدعم هذه الايدلوجيات الموالية لها دون النظر الى مصلحة ليبيا. والنتيجة ان السيادة الوطنية النسبية التي يسمح بها المجتمع الدولي لاعضائه فقدت تماما لصالح محور قطر- تركيا او لصالح محور مصر – الامارت. وفي حين يتهم تيار الكرامة وتيار فجر ليبيا حكومة الوفاق بارتهانها في يد دول الغرب، الا انها لا ترى ان قراراتها مرهونة بيد محور الإسلاميين او العسكر، وكليهما مرتهن بأحد محوري الدول الداعمة.
ان اجل مظاهر السيادة الوطنية في تقديري، يظهر واضحا في رفاهية المواطن وتحريره من الحاجة، وتمكينه من التعبير عن نفسه، فإن غابت هذه المظاهر لا يكون للسيادة معنى سواء كان النظام المهيمن يسري فيه دماء المواطن او دماء الاجنبي. هذه السيادة لا علاقة لها بالسيادة التي يراها الدكتور الصادق الغرياني ومن يدور في فلكه او الدكتور الدغيلي ومن ينتظم في كتلته البرلمانية. وقد كان من المرجح نجاح اتفاق الصخيرات لما لاقاه من دعم دولي رسمي علني، لو سهل له الفرقاء الأرضية التي يعمل عليها. الا ان مزاعم السيادة افسدت كل ممكن يؤدي الى الإصلاح، واصبح التراشق بالاتهامات مظهر لوطنية زائفة تمكن الادعياء من تسويقها في قواعدهم الجهوية، فكسب تيار العسكر دعم القبيلة في الشرق، وكسب تيار الإسلاميين بنادق الميليشيات، وتشتت جهود بناء الدولة بين التياريين، وضاعت السيادة الوطنية، وارتهنت البلاد في جلسات برلمان ميت لا تعقد وقرارات مجلس رئاسي لا تتجاوز الورق المسطر عليه.
لا حاجة لنا للـ”سيادة الوطنية” اذا استمر هدر كرامة المواطن في طوابير المصارف، او ضاقت بالمحتاج حاجياته اليومية الاساسية، او لم يتوقف هبوط العملة المحلية. ولا معنى للسيادة الوطنية اذ لم نستطيع ان نحاسب النائب عن استهتاره رغم ما يقدمه الوطن له من ميزات.
والله من وراء القصد
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً