ترانيم إسرائيل.. وتراتيل السنوار

ترانيم إسرائيل.. وتراتيل السنوار

“خلق الإنسان للموت.. وهو الحقيقة الإلهية الأبدية الراسخة التي لا هروب لمخلوق منها.. لكن الفرق في كيفية الموت”

لا تندثر التنظيمات ذات الايدولوجية الدينية بمقتل زعمائها وقادتها لأنها بنيت على فكرة التضحية بالروح والاستهانة بالحياة من أجل العقيدة والمبادئ.. وبالتالي تعتمد بنيتها الهيكلية على آلية إحلال القيادة البديلة بشكل تتابعي سلس ومبرمج.. ولذا فهو نوع من الوهم والسذاجة الاعتقاد ان تنظيمات المقاومة في فلسطين ولبنان وفروعها ستنتهي برحيل القيادات.

فقبل عشرين عاماً في مارس 2004 اغتالت القوات الإسرائيلية الشيخ (القعيد) أحمد ياسين مؤسس وقائد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وهو خارج من المسجد لصلاة الفجر بصواريخ من مروحية أتت على كرسيه المتحرك.. ولا زال التنظيم حياً ورقماً في المعادلة الفلسطينية برغم ضراوة الخسائر في معركة غزة الحالية.. وقبل أسابيع بنفس الأحقاد والعنجهية والصلف ألقت طائرات حربية إسرائيلية أكثر من خمسة وثمانين قنبلة تزن الواحدة طنا.. أي ألف كيلوجرام من الحقد والكراهية لتمسح مربعا سكنيا على بكرة أبيه بالضاحية الجنوبية ببيروت المثقلة بالكوارث والمحن البشرية من أجل القضاء على زعيم تنظيم حزب الله.

يحاول الكيان الإسرائيلي إقناع نفسه وخداع مواطنيه في نفس الوقت بفكرة إنهاء فصائل المقاومة المتعددة.. لكنه يغالط ذاته ويتغافل عن حقيقة أن هذه التنظيمات شرعية وجودها مرتبطة بوجود الاحتلال.. ومشروعها في المقاومة منبثق من الحق في الوجود والعيش والمِلكية.. وضريبة الدم التي دفعت على مدى عقود وأجيال.

بينما يحمل القادة السياسيون بطاقات الائتمان، يحمل القادة المقاتلون قضية.. فعلى مدى عام ومنذ السابع من أكتوبر 2023 تنهال على حكومة نتنياهو بلا حدود وبكل سخاء الأموال والأسلحة والدعم من إدارة الرئيس الأميركي (الأبله) لمزيد من الاستثمارات ومصانع السلاح وتعزيز البنى التحتية وتوسيع الاستيطان.. ليرقص الاحتلال الإسرائيلي طرباً على رائحة الدماء الفلسطينية والأشلاء والدمار.. ويتغنى نظام القتلة في تل أبيب (ترانيم) القتل والحقد والعنصرية واللإنسانية.. ويغيب أكثر من أربعين ألف فلسطيني ثمناً للقضية برغم الألم والضنك.. وسيلحقهم المزيد مدفوعين بمشهد (السنوار) وهو ينزف ويتلو (تراتيل) الفخر والرجولة وحسن الخاتمة.

المختلف في هذه الحقبة (السوداء) الجديدة هو اعتماد الكيان (الإسرائيلي) لاستراتيجية جديدة تقوم على فكرة استخدام القوة العمياء الغاشمة من أجل تدمير البنى التحتية (المرافق) وسبل الحياة.. والبنى الفوقية (المعنويات والنفسية) وصولا للتهجير وإخلاء الأرض وإعادة تخريط الإقليم.

في هذه الحقبة القاتمة كل الأصوات الدبلوماسية والمؤسسية الدولية والاوربية والإسلامية والعربية خفتت تجاه إيقاف المجازر والمحارق (الإسرائيلية) في غزة ولاحقا لبنان.. ولا صوت يعلو فوق صوت مجلس الحرب الإسرائيلي.

الواقع الأكثر إيلاما هذه المرة حمل ثلاث صور بشعة.. الأولى هي التفويض والحماية والدعم اللامحدود (سياسياً وعسكريا وإعلامياً) للإدارة الأمريكية الحالية للقوات الإسرائيلية لممارسة هذه الإبادة غير المسبوقة في العصر الحديث.. فاق أكثر من 100 ألف قتيل ومصاب فلسطيني خلال عام استخدمت فيه كل أنواع القتل والتنكيل.. حتى وصل معدل القتل اليومي للمدنيين أرقاماً قياسية فاقت المئات من الضحايا.

والثانية هي تعري أوروبا (عرين) الحرية (المفصلة) مجددا من لباس حقوق الانسان والديمقراطية.. فمن الناحية الدبلوماسية غضت أوروبا النظر عن الجرائم اليومية لإبادة المدنيين في المخيمات والمستشفيات ومراكز الإيواء.. ومن الناحية الحقوقية سُحل المتظاهرين بعواصم أوروبية تاريخية بقوى الشرطة والأمن لمنعهم من التعبير السلمي تجاه الجرائم الإسرائيلية.. تحت غطاء النفاق الذي يجيده ساسة أوروبا ببراعة.

أما الثالثة فهي مواصلة دول عربية (قيادية) الاختباء وراء سواتر الخوف والهزيمة والفرجة.. بينما حاولت دول أخرى الاشتباك (الكلامي) مع إيران في معرض دفع الحرج الذي سببته صواريخ طهران و(دسكة) الشيعة والسنة لتغطية مواقف دونت في كراس الخذلان للقضية الفلسطينية.. أما بغداد ودمشق وصنعاء وطرابلس فقد دارت عليها الدوائر.. وزال بريقها وغاصت في بحر مرحلة (الفوضى) والتشرذم.. لا تملك حتى ستر عوراتها.

ما يحدث اليوم من تمزيق لبقايا جسد امة منهكة تم التخطيط والدفع المسبق له مبكراً.. مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تم تدشينه قبل ثلث قرن وعقب اجتياح العراق للكويت عام 1990 تنجز مراحله قبل الأخيرة الآن بشطب الفلسطينيين وكل قوى المقاومة في الشام من حسابات المنطقة تمهيدا للمرحلة الأخيرة قريبا حين سيرقص الأنجاس (بحسب القرآن الكريم) أمام المقدسات وينتهي كل شيء.. حيث بدأت بروفات (المجون) والجنون بإدارة وتنفيذ هيئة الترفيه في بلاد الحرمين وغض البصر لمن استطاع لذلك سبيلا.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. إسماعيل علي الشريف

كاتب وسياسي مستقل

اترك تعليقاً