يحتار اللبنانيون اليوم على من يلقون التهم بالانهيار المالي، وبقية الأزمات التي تسببت بها طبقة سياسية – مصرفية – تجارية احتكرت على مدى 31 عاما كل شيء في البلاد، إذ رغم تغيير بعض الوجوه فإن الجميع كانوا، ولا يزالوا يشاركون في إفقار البلاد والناس، أكان في خضم الحرب الأهلية، أو بعدها.
لهذا منذ العام 1992 كانت المعالم واضحة لما مقبل عليه البلد، لكن كانت العيون كليلة، والآذان صماء، لأن الرشوة فعلت فعلها في تلك الأثناء، في وقت كان حجارة الهيكل تتساقط على رؤوس الجميع، إلا أن، كعادة اللبنانيين، رأوا فيها نوعا من رذاذ مطر البحبوحة المحببة في صيف قائظ.
اليوم يتلهى هذا الشعب المسكين بأحداث أخرى، تماما كما كانت الحال عليه في العام 1968، إذ في أوج أزمة مالية كبرى جاءت المناوشات في منطقة الكحالة لتغير وجهة الاهتمام الشعبي من أزمة “بنك انترا” إلى الخوف من عودة حرب العام 1958.
كذلك الأمر بعد أحداث العام 1973، حين كانت البلاد تعيش أزمة سياسية، كان أيضا “كوع الكحالة”، هو المكمن الذي أشعل بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية التي استغلت “اتفاق القاهرة” الموقع قبل نحو أربع سنوات من ذلك التاريخ، كي تمارس استعراضا للقوة، في وقت كان فيه “حزب الكتائب” قد استعد للمواجهة المسلحة، وبعدما عزز حضوره العسكري، إذ كان ينظم تدريبات على السلاح تحت أعين السلطة التي لم تحرك ساكنا، وأيضا اتجهت الأنظار إلى أحداث نسيان/ أبريل وحرب المخيمات الأولى من ذلك العام لتغطي على الأزمة المعيشية التي افتعلها التجار عندما أقر قانون منع الاحتكار، الذي لم ينفذ أبدا.
اليوم، وعلى شفير ضياع البلد، صدر تقرير التدقيق الجنائي في ارتكابات حاكمية مصرف لبنان، الذي تولاها رياض سلامة منذ 31 سنة، وهي أطول فترة وظيفية لهذا النوع من الوظائف المهمة في العالم، وليس في لبنان فقط، وعلى وقع الدم المراق على “كوع الكحالة” أيضا ذهب الشعب إلى تلك الأحداث ونسي محاسبة من تسببوا بإفقاره.
لا شك أن رياض سلامة لم يكن وحده، لكنه يتحمل المسؤولية منذ قبل أن يكون عراب إفلاس لبنان، ونفذ كل ما طلبه أصحاب المصارف اللبنانية، الذين خسروا جراء استثماراتهم في البورصات الأمريكية، والأزمة المالية العالمية عام 2008، وما تركته من تبعات على العالم، إذ حينها أدرك هؤلاء جيدا أنهم لن يستطيعوا تعويض خسائرهم إلا عبر عملية “بونزي” بأموال اللبنانيين، يشارك فيها حاكم المصرف المركزي، وتزكيها طبقة سياسية مستفيدة من العمولات، في بلد سيطر أمراء الطوائف على كل مفاصله، وعملوا بالمثل الشعبي “من حضر السوق باع واشترى”.
لهذا يبحث الجميع عن كبش فداء، وكذلك عن مخارج لأزمتهم الشخصية قبل السياسية، ومن هنا يعلنون، بطريقة غير مباشرة، أن شعرة لا تسقط من رأس أي مواطن إلا بأمرهم، وأنهم “أم الصبي”، كما يقول المثل اللبناني.
فيما في الحقيقة هي أن لا أحد منهم “أم الصبي”، بل هم “زوجة أب” شرسة لا تعرف الرحمة، ولهذا ليسوا أهلا للثقة على الاطلاق، لكن الزبائنية تمنحهم غطاء، مذهبيا وسياسيا، ومن هنا يمارسون فجورهم من دون أي محاسبة، ولا يتوانون عن ارتكاب الموبقات والجرائم، الخشنة والناعمة، وفي هذا الأمر يتوحد رجال الدين والسياسيين والمصرفيين.
لهذا لم تكن حادثة الكحالة إلا تطبيقا للمثل الشعبي “مش رمانة قلوب مليانة”، فالشحن الطائفي والمذهبي بسبب الإفلاس السياسي فعل فعله إلى حد أن لا أحد اليوم يتحدث عن وجوب وقف الانهيار وحل الأزمة، إنما كل فريق يلقي التهم على الآخر، في حين أن الفقر والجوع لا يعرف طائفة هذا أو ذاك، وهو ما لم تدركه غالبية الشعب التي تبحث عما يسليها بشعارات السياسيين، لهذا نسي هؤلاء أزمتهم وبدأوا يتحشدوا دفاعا عن السياسيين، وهذه هي المصيبة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً