بعد أن أغرقت الليبيين بصديد سياساتها.. هل تكون ليبيا هي جحيم واشنطن الثالث.. فور انتهاءها من تفحم أوكرانيا وغزة!؟

بعد أن أغرقت الليبيين بصديد سياساتها.. هل تكون ليبيا هي جحيم واشنطن الثالث.. فور انتهاءها من تفحم أوكرانيا وغزة!؟

عز الدين عقيل

كاتب سياسي ليبي

الجزء الأول: عودة ترامب!!

قبل أيام كتبت منشورا (مختزلا) بصفحتي على فيسبوك، عن (مرحلة ما بعد المحافظ المخلوع) التي أظن أنها ستؤسس لما سيهز البلاد هزا شديدا، لكونها ستمثل واحدة من أخطر المراحل التي أضحت ليبيا متورطة فيها فعليا، لا سيما وأنها المرحلة التي سيميزها وبقوة تعاظم تكالب الصراع الأجنبي الشديد على البلاد ومواردها، ولقد جاء ذلك المنشور تحت عنوان (لقد فاحت “رائحة الطبخة الأمريكية لهذه المرحلة الليبية العصيبة”)، من رائحة حبر بيان دبيبة حول لقاءه الأخير بالمنفي، ومن فحيح الصوت الذي ألقى به خطابه بمصراتة، بما أسماه المحتفلون به (بيوم التحرير)!!

ولقد احتوى ذلك المنشور على النص التالي: “بعد أن جعلت الليبيين يتضورون جوعا لافتراس قادتهم وتمني زوالهم من على وجه الأرض، واشنطن تستعد لطرح (قصاعي) شديدة السُمية على موائد الليبيين، بعد أن أوشى لها اختبارها للرأي العام المحلي، الذي أجرته عبر تلويحها بهراوة “هيئتها العرفية للاستفتاءات المعلبة والاستعلام المبيت”، بأن الليبيين قد باتوا جاهزين فعلا، بل وجاهزين جدا، للإقبال بنهم وشراهة على التهام طعامها المسموم والمتجرثم، الذي تخطط لتقديمه على موائدهم قريبا جدا”!!

ولأن معظم التعليقات على ذلك المنشور جاءت معبرة عن عدم فهمه، قرين المطالبة بتوضيح ما جاء فيه، فقد قطعت للأصدقاء والمتابعين وعدا بنشر مقال تحليلي لمساعدتهم، ومن سيُقدر له من الناس الاطلاع عليه، على فهم حقيقة هذه المرحلة، التي تقول كل المعطيات الجارية، بأنها ستكون من أشد المراحل إظلاما بتاريخ البلاد على الإطلاق، وهو الإظلام الذي ستزيده عودة ترامب حتما عتمة وسوء.

بيد أن الوجه الأكثر بشاعة بهذه المرحلة سيكون هو وجه فيضان وطغيان السياسات الأمريكية الصديدية على الليبيين، لا سيما بعد فوز واحد من أسوأ الرؤساء الأمريكيين وأشدهم حسدا وعداء وانتهازية وقسوة ضد كل ما هو عربي، وأما نحن الليبيون فيكفينا مراجعة حدثين لندرك طبيعة المصير الذي ينتظرنا على أيدي ترامب ومخالبه وأنيابه، أولهما طبيعة سياساته الأخيرة والخطرة، التي حاصر بها  البلاد قبل خسارته لتجديد ولايته السابقة، والتي امتدت من أواخر سبتمبر من العام 2020 وحتى يوم سقوطه بالخامس من نوفمبر من نفس العام، وهي السياسة التي بدأها فور تقهقر قوات الرجمة إلى ما عرف بخط  الهدنة، بتعيين الجنرال ميغيل كوريا، الذي كان يشغل كرسي الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومي الأمريكي بمنصب غامض بالسفارة الأمريكية بطرابلس، وهو المنصب الذي لم يعلن عن طبيعته حتى ترك كوريا لوظيفته الغامضة فور سقوط ترامب، وهو ما اعتبره المراقبون تحضيرا لما يمكن اعتباره (بريمر ليبيا)، إلى جانب ممارسة إدارة ترامب بشهورها الأخيرة وفور انتهاء حرب الـ2019، لأشد الضغوط على الرجمة لدفعها إلى الانسحاب إلى ما وراء مدينة إجدابيا، وذلك تمهيدا لتنفيذ الغزو الأمريكي للمناطق النفطية (على غرار ما سبق لواشنطن وأن فعلته بمناطق النفط العراقي، وما تزال تفعله حتى اليوم بالحقول السورية)، وهو المخطط الذي أكده ترامب نفسه سواء بتغريدته التي لام فيها “بوش الابن” باعتبار أن غزو ليبيا كان أصلح للأمريكيين من غزو العراق، أو بتغريدته الأخرى التي اتهم فيها إدارة بايدن ووبخها على وقوفها مكتوفة الأيدي أمام الغزو الروسي للحقول الليبية “التي كان يجب أن تكون لنا”!! وكأن بايدن وليس ترامب، هو الذي ورط البلاد بقوات فاغنر!؟

وأما التأكيد الأبرز لهذا المخطط فقد أعلنته ستيفاني وليامز للعالم بذات الوقت الذي كانت فيه إدارة ترامب متورطة بممارسة ذروة ضغوطها على الرجمة لتنفيذ انسحابها الكامل من مناطق الهلال النفطي والمنطقة الوسطى، وذلك بخروج وليامز علينا، بعنفوان تلك الضغوط على الرجمة للانسحاب من كل مناطق الشمال ذات الامتدادات الجنوبية النفطية، لتبرير مخطط الغزو (بلقاء مع قناة العربية قيل يومها بأنه أُجرَّي بناء على طلبها)، وهو اللقاء الذي دافعت  فيه فعلا (وإن بصورة مواربة) على مخطط الغزو (وهي التي يفترض بها أنها مبعوثة أممية إلى ليبيا وليست سفيرة واشنطن بطرابلس)، سائقة أمامها بذلك اللقاء حجة ضرورة حماية منابع النفط الليبية، باعتبارها – بحسب قولها – مصدرا حيويا للأسواق الدولية لا يخص الليبيين وحدهم!! وكان ذلك الخروج التلفزي الستيفاني، قد جرى قبل أيام قليلة فقط من يوم افتكاك بايدن للبيت الأبيض، الذي توافق هو الآخر مع تاريخ عقد ستيفاني وليامز لآخر جلسات برلمانها الموازي في قمرت التونسية.

وأما ثاني هذين الحدثين وربما أقواهما بقدرته على الكشف الحي لحقيقة نوايا وسياسات ترامب تجاهنا، فيمكن استحضاره صوتا وصورة بمجرد إعادة مشاهدة الفيديو الذي ما يزال يسبح بعالم اليوتيوب، والذي يطالب فيه ترامب ويدعو، وبغطرسة زعماء المافيا، ودون أن يشعر بأدنى درجات الخجل السياسي (بلاش الخجل الإنساني)، بوجوب افتكاك الأمريكيين واستيلاءهم على نفط الليبيين، الذي اعتبره من حق بلاده، ساخرا من (الثوار!) أو ممن أسماهم هو بالمتردين “بأننا نحن الأمريكيون أو النيتو (حيث لا فرق بين الاثنين بحسب قوله)، من (استعدنا) ليبيا من القذافي بقصف كلفنا الكثير، وليس المتمردين الليبيين! الذين سرقوا نصرنا هناك ونسبوه إليهم زورا!!”.

هذا.. ولسوف تبلغ السياسات الأمريكية في ليبيا بهذه المرحلة (ما لم يلحق الليبيين بأنفسهم قبل فوات الأوان) حدا من التوحش والمهانة وسلب الموارد العلني والمستفز، الذي لم يسبق لليبيين أن عرفوا نظيرا له على امتداد كامل تاريخهم، وعلى كثرة تنوع تجاربهم مع الغزاة والمحتلين.

لقد بات في حكم القدر المحتوم والمعلوم لكل العالم، تحضير ترامب لإعلان عداءه الشديد وشن حروبه السياسية الباردة: الاقتصادية والدفاعية الواسعة، ضد كلا من الصينيين والأوروبيين معا خلال ولايته الجديدة، وهو ما تعززه الوقائع الجارية التي باتت تنذر بالاشتعال القريب لجبهة التواجه (الأمريكي الصيني) البارد، على المستويين الدولي منهما والبيني، وخاصة بمجال العلاقة التجارية بينهما التي تقدر بـ850 مليار دولار، والتي جمعت بين نموها المتصاعد وبين وضعها لبكين بمكانة الشريك التجاري الرابع لواشنطن، هذا إلى جانب علاقة المديونية الضخمة بينهما بديون صينية على واشنطن بلغت 750 مليار دولار، كلها قادمة من الهوس الصيني بالاستثمار بسندات الدين الحكومي الأمريكي، ما دفع العالم كله إلى انتظار تعرض السلم والاقتصاد الدوليين لأشد الأخطار منذ لحظة الإعلان عن عودة ترامب، بسبب اتجاه ترامب وبكين نحو تبادل إطلاق رياح اقتلاعية عاتية من العقوبات الاقتصادية والمواجهات الحمائية التجارية والتوظف العدائي لتايوان وكوريا الشمالية وليبيا وأفريقيا، والتوسع باستخدامات حروب الوكالة أيضا، التي يبدو أن الصينيين قد قرروا أخيرا الاتجاه إليها، من خلال توظيف علاقاتهم الاستراتيجية مع موسكو.

ولئن كان هذا هو حال العلاقة الأمريكية الصينية بعهد ترامب الجديد، فإن الصراع الأجنبي الذي لم يتوقف في ليبيا منذ تاريخ إسقاطها بلا هوادة بالعام 2011، إنما يُنتظر أن تقلبه سياسات ترامب راسا على عقب بالبلد المنكوب بإصرار واشنطن وحليفتها لندن على مواصلة إنهاكه بإغراقه المتعمد في الفشل والفوضى حتى الاستفراد بهيمنتهما الحصرية على البلاد دونا عن كل دول العالم الأخرى، واستعادة سلب كل ما استرده القذافي منهم عقب نجاح انتفاضته العسكرية في ليبيا، ويتوقع باحثون ومصادر مقربة من حملة ترامب الانتخابية، أن يقوم انقلاب هذا الأخير في ليبيا، على تحويل الصراعات الأجنبية التي تعصف بالبلاد اليوم، من صراع (أمريكي أوروبي ضد الروس)، كما كان طوال عهد بايدن، إلى صراعين آخرين مختلفين، أحدهما صراع (أمريكي – أوروبي)، والآخر (أمريكي – صيني)، ويرد الخبراء تقديرهم لخطورة ظهور وتصاعد الصراع الأمريكي الصيني في ليبيا، إلى ما بات يتوفر فعليا من قلق عميق لدى واشنطن (أو قل وكالة المخابرات الأمريكية)، من معلومات تعزز فرضية زيادة الأنشطة الصينية في ليبيا، وهي المعلومات التي دفعت الأمريكية جنيفر جافيتو – ذات الخلفية الأمنية المخابراتية – والتي كانت قد عُينت سفيرة لبلادها في ليبيا (قبل أن تُعلن مؤخرا عن تراجعها عن قبول المنصب قبل استلامه رسميا)، إلى التركيز عند إدلاءها بإحاطتها التقييمية ( للموقف في ليبيا) أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي قبل أسابيع، على خطر تمدد الأنشطة الصينية في ليبيا، وذلك بخلاف ما كان يتوقعه بعض من المراقبين الدوليين من تلك الإحاطة، وهو تركيزها على أخطار زيادة الأنشطة الروسية في ليبيا.

بيد أن هذا الطرح المفاجئ لبعض هؤلاء المراقبون، لم يكن كذلك لبعض آخر منهم، من الذين ربطوا بين إعلان بكين وموسكو عن نيتهما بتوقيع اتفاقية واسعة لتعميق وتوسيع مجال التعاون والعلاقات الاستراتيجية بينهما (والتي قاما بتوقيعها فعلا بشهر سبتمبر الماضي) لتكون امتدادا لاتفاقية “شراكة بلا حدود” التي سبق لهما وأن قاما بتوقيعها بفبراير 2022، والتي بلغت (أي الاتفاقية المحدثة) مستويات ومجالات جديدة من التعاون غير المسبوق بين البلدين.. وبين الأنشطة الروسية في ليبيا وعدد من الدول الإفريقية، التي لمحت الفورين بوليسي بعدد من مقالاتها، إلى أن الصينيين قد جعلوها  جزء مهما من شراكتهم الاستراتيجية مع موسكو، حيث ربط عدد من المحليين السياسيين الدوليين بين زيادة الطموحات والشهايا الصينية في ليبيا، وبين رصد بكين لزيادة وتوسع النفوذ والأنشطة الروسيين في هذا البلد الإفريقي الذي أفقده الصراع الأجنبي سيادته الوطنية بعد 73 عاما من تحقيق استقلاله الترابي، و55 عاما من إضافة استقلاله السياسي والاقتصادي إلى استقلاله الترابي، ليضحى ترابه الوطني يعج بالمرتزقة وقوات الاحتلال الأجنبي، التي يعود نصفها إلى واشنطن، التي تمارس احتلالها لليبيا من خلال الوجود المرتزق والعسكري لمقاوليها التركي وإلايطالي، إلى جانب وجود مفارز من قواتها العسكرية وجيوشها الشركاتية الخاصة التي تتمتع  بتعاقد طويل الـجل مع البنتاغون وأخطرهم شركة امنتيوم، ويعود نصف قوات الاحتلال الأخرى إلى موسكو التي تمارس احتلالها للبلاد بواسطة جيش فاغنر الخاص الذي طورته إلى ما باتت تسميه بالفيلق الروسي الإفريقي، وإن كان هناك ظنون باستمرار احتفاظها بالكيانين في ليبيا، إلى جانب استخدامها غير المؤكد لمرتزقة سوريين من الموالين للرئيس بشار الأسد، وعناصر إفريقية تعود إلى حكومات موالية لها بالدول الإفريقية التي باتت تتمتع فيها بنفوذ روسي واسع، هذا وتولي بكين اهتماما خاصا بليبيا لأسباب أهمها مستقبل الطاقة (الأحفورية والشمسية) الواعدة في هذا البلد المنكوب والسهل المنال لجهة التأثير والاجتياح الأجنبيين له، إلى جانب موقعه المهم كمحطة استراتيجية متميزة على مشروع طريق الحرير الصيني العملاق، إضافة إلى الأهمية الكبيرة التي يشكلها الحضور الجغرافي العبقري لهذا البلد المترامي الأطراف، نحو العمق الإفريقي لوجستيا وطاقاويا واقتصاديا وأمنيا.

وبينما يشي جمع ترامب بين رفع شعار حملته الانتخابية الذي ينادي (بأمريكا أولا، أو باستعادة عظمة أمريكا) من جهة، وبين تقديمه لنفسه لناخبيه باعتباره رجل السلام العالمي ورسول السماء لإنهاء الحروب الظالمة من جهة أخرى، وبين طبيعة فكره المكشوف من جهة ثالثة، المكون من سجل حياته البراغماتي الطويل والمشاغب حد الانحراف، وجوهر ما ورد بكل كتبه وخطاباته، بل وحتى حالات نزقه، إنما يشي كل هذا – بحسب خبراء بينهم مختصون بعلم النفس الإكلينيكي والسياسي – بأن طبيعة ذهنية ترامب لا يمكنها أبدا أن تسعى إلى (العنف المُعسكر)، إلا بقدر ما قد يضطر إليه من عمليات عسكرية خاطفة كتلك التي أطاحت بقاسم سليماني لتحقيق مكاسب الضغط على إيران، بل ولقد شملت براغماتيته هذه حتى علاقته مع الكيان الصهيوني نفسه، الذي لا يرى فيه ترامب الا مجرد محطة إنذار مبكر وأداة أمريكية لابتزاز وإرهاب المنطقة والقيام المبكر بالدفاع عن المصالح الأمريكية فيها، وذلك حد تصريحه يوما في معرض التعبير عن ازدراءه ونفاد صبره من ابتزاز النيتو لدافع الضرائب الأمريكي وهو أولهم كما قال: (بأن ما يوفره الكيان الصهيوني من حماية للمصالح الأمريكية والتصدي لأعداء واشنطن بالشرق الأوسط، هو أنفع وأكثر بكثير من تلك الحماية التي تحصل عليها أمريكا من النيتو، الذي تنفق عليه – بحسب تعبيره – أكثر مما تنفق على الأمريكيين وبناهم التحتية المتهالكة)، وعليه فإنه من المستبعد جدا بحسب الخبراء والباحثين (على صعوبة التنبوء بأفعال شخصية مضطربة كشخصية ترامب) تورط هذا الأخير بإيصال علاقة بلاده مع بكين إلى حافة الهاوية، بالدخول معها بحرب عسكرية مباشرة أو شاملة، فـ ترامب هذا، خير من يعلم أن مثل هذه الحرب ستقوض سقف العالم على رؤوس الجميع، وأولهم بلاده بل وستعجل فعلا وحتما بظهور النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب الذي تخشاه واشنطن حتى الرعب باعتبار أن ظهوره رسميا هو إعلان حقيقي عن تحول بلاده إلى مجرد اسم دولة كما هو الحال اليوم مع إيطاليا أو مصر أو أرمينيا، إضافة إلى أن ترامب (التاجر الملياردير) هو خير من يدرك أهمية الوجود الصيني للاقتصاد العالمي، بل أنه يعلم يقينا بأنه كتاجر ومعه كل رأسماليي بلاده، بل وبلاده نفسها، إنما هم من بين أوائل وأكثر الرابحين من الإبداع والتطور الاقتصادي الصيني، إلى جانب وعي ترامب أيضا بحقيقة استحالة تحقيقه (حتى وإن أراد هو ومعه كل العالم) لعرقلة الصينيين أو الوقوف بوجوههم على أي نحو كان لمنعهم من إكمال مسيرتهم نحو تحقيق تطورهم حتى النهاية.

ولعل هذا ما خلق إجماع المختصين برصد العلاقات الأمريكية الصينية، على أن هدف ترامب الرئيس من كل ضغوطه على بكين، إنما هو سعي هذا الأمريكي (الحسود) والقلق على مكانة بلاده الدولية التي حقق هو نفسه من وراء استغلالها ثروات طائلة بعدد كبير من دول العالم بينها الصين نفسها، هو إبرام صفقة كبيرة مع الصينيين ستأتي على حساب الأوروبيين واليابانيين حتما، تجعل بلاده شريكة لبكين بكل ما تحققه هذه الدولة المتألقة من تطور وصعود وثروات، وإن تضمن هذه الصفقة تعاون الصين (رغم أنه لمح إلى أنه هو نفسه لا يعرف حتى الآن كيف يمكنه تحقيق هذا!؟) على إعادة الحياة إلى مناطق حزام الصدأ الأمريكية بمساعدة صينية، باعتباره المنطقة الأمريكية العملاقة التي أخرست الفرص الصينية الواعدة قبل عقود أصوات أزيز وهدير الآلات والمصانع فيها وحولتها إلى أكوام من الخردة والحديد المتآكل، كما يطمح إلى أن تعيد إليه بكين ملايين الوظائف الأمريكية التي استولت عليها بمرونة وكفاءة الاقتصاد الصيني، وأن تساعده على ضخ استثمارات صينية ضخمة ببلاده ولو بقدر ما ضخته واشنطن بالصين عند مطلع السبعينات من القرن الماضي، وأن تجد له بكين حلا لديونها على بلاده التي بلغت 855 مليار دولار، وأن تمتنع الصين عن إبرام أي علاقات استراتيجية فردية أو جماعية على حساب واشنطن، وهنا يركز ترامب نظره على حمل الصين على التخلي عن مجموعة بريكس، أو على الأقل إلى دفعها إلى تخفيف وجودها فيه بحيث لا يتجاوز الوجود الشكلي على أسوأ الأحوال، أي أن ترامب يريد الوصول إلى شراكة استراتيجية مع بكين تحقق له مشاركتها موائدها، شرط التزامها بالاعتراف بالتفوق الدولي لواشنطن، وعلى رأسه إظهار تعاونها بالحفاظ على السيادة النقدية للدولار الأمريكي، والتعبير عمليا عن هذا الاعتراف من خلال إظهار احترامها لمكانة واشنطن الدولية، وتجنب بكين العمل على تقويض التفوق العسكري الأمريكي، أو العمل على المس بقيادة واشنطن للعالم بصورة منفردة أو مع آخرين، مهما كانت علاة القيادة الأمريكية للعالم، ومهما ملأت هذه القيادة الأرض بالظلم والدماء والدموع والخراب، بل ولقد لمح إلى الوجود الصيني في أفريقيا وإلى الحزمة الضخمة من عقود مناجم المعادن والمواد الأولية التي باتت بكين تملكها بالقارة السمراء معتبرا أن الصين (غير المتغطرسة) يمكنها أن تكون الشريك المناسب لواشنطن بأفريقيا والعالم.

ولئن كان هذا هو الحال المتوقع لمستقبل العلاقات الصينية الأمريكية، فإن ارتفاع احتمالات الصدام (الأمريكي – الأوروبي) عموما، و(الأمريكي الفرنسي) على وجه الخصوص بليبيا البلد المنكوب بهؤلاء جميعا، يمكن التأكيد على صعوبة رؤية أو تصور شيء يمكنه أن يحتويه أو أن يخفف من حدة وطأته على الفرنسيين، حتى أن مراقبي العلاقات الأمريكية الفرنسية استطاعوا وبسهولة رصد حالة الرعب التي اعترت الرئيس الفرسي وتحكمت بتعليقاته وتصرفاته فور الإعلان عن فوز ترامب، وهو ما أكد لهؤلاء المراقبون أن الصدام الأمريكي الأوروبي عموما، والأمريكي الفرنسي على وجه الخصوص، إنما سيكون من أولى الجبهات المستعرة الجديدة التي يتوقع أن يشعلها ترامب فعلا، بل وقريبا جدا، لا سيما بكلا من ليبيا وأفريقيا، ويرى المختصون برصد العلاقات الأمريكية الأوروبية بأن فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا على الوجه الأعم وفرنسا على الوجه الأخص ستكون من بين أهم الدول الأوروبية المرشحة لأن يكونوا أكبر الخاسرين من هذه المواجهة (رغم وجود آخرين أهمهم المصالح البلجيكية والهولندية بأفريقيا وإن بضرر أقل)، كما يؤكد هؤلاء المراقبون بأن هذه الدول التي لم تكن راضية على سياسات الاستحواذ الأمريكي العسكري والنفطي والمالي على ليبيا (وخاصة ما يخص الإجراءات الاستثنائية التي خاضها حليفهم بايدن مؤخرا وبقوة) وانتهت جزئيا إلى تحقيق أحكام قبضة واشنطن على البنك المركزي، بل ولقد تصاعد الغضب الأوروبي فعلا (وخاصة فرنسا) وهم يرون استمرار إظهار واشنطن لإصرارها (من خلال صبيانها المحليين) على المضي قدما (الذي لم يعطله نسبيا إلا إجراء الانتخابات الأمريكية) نحو إعداد الترتيبات والاستعداد لخلق دستور ونظام سياسي لليبيا بصورة طارئة وعرفيه، ستجعل بنهايتها من ليبيا، بالنسبة لواشنطن، مجرد جمهورية موز مدسترة بالقارة الإفريقية، ويبدو أن هذا الغضب الذي انتقل إلى النخبة الأوروبية أيضا قد دفع أحد كُتّاب الرأي بصحيفة إسبانية  إلى التلميح لغرابة القادة الأوروبيين، الذين يضيعون في ليبيا بين منافسة واشنطن لهم على النفوذ فيها من جهة، وبين مباركتهم عبر حكوماتهم والمنظمات الدولية التي يتمتعون بنفوذ واسع فيها من جهة أخرى للإجراءات الاستثنائية التي تفرضها واشنطن على ليبيا بصورة مخادعة تسوقها واشنطن كما لو كانت إجراءات محلية يحاول الليبيون أن يتجاوزا بها بعضا من أزماتهم، وتنبأ صاحب هذا المقال الذي استعرضت إحدى القنوات الفضائية مقتطفات منه، بأن مصالح الأوروبيين في ليبيا ستعاني الأمرين بحال فوز غريمهم ترامب بالمكتب البيضاوي، وهو الذي لن يجدوا لديه إلا التنمر التنافسي والإبعاد والنفور من شراكتهم والتحالف معهم، بل وتفضيله الكبير لصداقتة مع عدوهم بوتين على صداقتهم، إن كل هذا إنما يشي بقرب ركوب ترامب (لما تسميه أطراف ليبية أخذتهم العزة بالأجنبي  بإعلان ما يسمونه بحالة الطوارئ وفرض الأحكام العرفية)، ليقتلع بها ترامب وقريبا جدا (بحال سُمح لها بالتطور والمضي قدما) الحضور الأوروبي من جذوره (باستثناء الترضيات التي قد يقدمها لبعض أجناسهم الأوروبية لمكافأتهم على خضوعهم لسياسات واشنطن في ليبيا، ولزيادة الشقاق والفتن فيما بينهم وخاصة بين فرنسا وسواها من الأوروبيين).

ولعل ما سيسهل مهمة ترامب بصرع هؤلاء جميعا في ليبيا – والحديث هنا ليس عن الصينيين – هو سياسة الاستحواذ الأمريكي على ليبيا التي قطعت إدارة بايدن شوطا تمهيديا مهما بتطبيقاتها الأولى، عبر حكومة واشنطن العسكرية المخابراتية الاستحواذية المصغرة في ليبيا، المكونة من (قائد أفريكوم، ومبعوث بايدن إلى ليبيا، والقائم بأعمال سفارة واشنطن فيها، والمبعوثة الأممية، ومديرة محطة المخابرات الأمريكية في ليبيا)، وهو الاستحواذ الذي كانت أولى مؤشراته نجاح هذه الحكومة الأمريكية السرية في ليبيا بابتلاع البنك المركزي الليبي لحساب حكومة بلادها، وهو الاستحواذ الذي بدأوه بتنفيذ عملية التخلص من صبيهم منتهي الصلاحية الصديق الكبير، والتي كانت أولى عمليات سلسلة الاستحواذ التي ما تزال واشنطن تخفي حتى هذه الساعة باقي عملياتها أسفل قناع ما أسمته واشنطن، أو أسماه دبيبة والمنفي، حيث لا فرق، “بمسلسل القرارات التصحيحية”، وهو الاستحواذ الذي سنشهد له عودة جديدة وأكثر شراسة لمظاهر تصاعده الكبير والملفت، بين شهري فبراير ومارس من العام القادم كحد أقصى على أغلب الظن، ولعل ما سيضاعف من تصدع الوجود الإمبريالي الأوروبي في ليبيا تمهيدا لانهياره وتلاشيه، هو تحضير ترامب (لموجة وجيل جديد) من السياسات الأمريكية الاستحواذية على ليبيا، والتي سبق لترامب وأن كشف عن نواياه حولها بعدد من الأمثلة التي سقناها بعضها آنفا.

ولئن كانت إسبانيا من الدول الأوروبية الضعيفة التي لا يُنتظر منها أن تتجرأ على مجرد محاولة الدخول بمواجهة مع السياسات الأمريكية الاستحواذية الجديدة في ليبيا، وتفضليها على الأغلب لـ(تلقيط رزقها) من بين ما سيتركه لها ترامب من عظام على طاولة حضورها النفطي بالبلاد، ولئن كانت إيطاليا المستعمرة الأمريكية ستستمر بوقوفها أمام مكاتب ترامب استعدادا لما سيكلفها به من مهام في ليبيا، وذلك مواصلة لدورها المستمر كواحد من مقاولين عسكريين أساسيين لواشنطن في ليبيا إلى جانب أنقرة، فإن ألمانيا (المستعمرة الأمريكية أيضا) سيكون وضعها أسوأ حالا في ليبيا، لكونها تمثل بالنسبة لترامب (رغم عدم انفكاكها عن التمسح بالسيقان الأمريكية) أحد أخطر عوامل انحسار وتحلل النفوذ الأمريكي في العالم، وأحد أهم منافسي واشنطن على ثروات العالم، وأحد أخطر محركات تحول النفوذ الدولي عن الولايات المتحدة، بما باتت تملكه من مكانة اقتصادية دولية وخيارات تحالفية باتت أكثر تنوعا وغنى، كما أنه لا أحد من النخبة الأمريكية يجهل أن ألمانيا هي الخطر الكامن أو المختبئ بسكين خلف ظهره للانقضاض على واشنطن بيوم لم يحن وقته بعد، بيد أن صراع كسر العظم الأمريكي الأشد بأسا مع أوروبا، وخاصة في ليبيا اليوم، سيكون مع فرنسا، رغم أن هذا الصراع لن يقف عند حدود ليبيا (وإن كانت هي الموضوع الذي يهمنا هنا)، بل سيستشري بكل الدول الفرانكفونية ولا سيما الدول الجارة لليبيا، خاصة وأن انطلاق عودة الصداقة السياسية بين ترامب وبوتين أو التحالف الانتهازي بين عقليتين أقرب ما تكونا إلى العقلية المافيوزية، والتي سيفاجأ العالم بسرعة تبادل ورودها وقبلاتها وسيلان عسلها بين الرجلين بأسرع مما يتخيل فور استقرار ترامب بالبيت الأبيض، يكاد يجمع المراقبين على أنها ستتحول إلى كابوس حقيقي لـ باريس، التي ستجد نفسها لا محالة بقلب عواصف من الأعاصير الاقتلاعية، بكلا من ليبيا وأوكرانيا وأفريقيا (وبروكسل: حيث الاتحاد الأوروبي) و(ستراسبورغ: حيث النيتو).

ولئن كان الدور الفرنسي في ليبيا مرتعش وقزمي وضعيف من الأساس لصالح النفوذ الإنجلوسكسوني رغم الدور المركزي الذي لعبه ساركوزي بصناعة الدولة الفاشلة في ليبيا، فإن انطلاق الأعاصير الترامبية التي ستكون موجهة لرأس ماكرون بأفريقيا تحديدا، ستكون هي الأخطر على المصالح والمستقبل الفرنسيين بالقارة المحاصرة بالمخالب والأنياب الشرهة، ولكن لن تكون هذه هي النهاية الجغرافية لمد الأعاصير الترامبية على رأس إيمانويل ماكرون، حيث إن أشد ما يخشاه السياسيين الأوروبيين وصرح بعضهم بقلق بالغ (وهم يعتقدون بأنه واقع لا محالة) هو خوفهم من عدم اكتفاء ترامب بمحاصرة وخلخلة ماكرون بالداخل الليبي والإفريقي، بل لجؤه إلى إشغال كل القادة الأوروبيين الذي سيتجرؤون على عرقلة السياسات الهادفة إلى تحقيق شعار (أمريكا أولا)، وعلى رأسهم ماكرون، بصراعات سيشعلها بغرف نومهم، ولا سيما في فرنسا وألمانيا، بتقديمه لكل أشكال الدعم والمساندة للأحزاب اليمينية الأوروبية – التي تشبهه – ذات الانتشار الصاعد في أوروبا اليوم.

وإما ما يمكن اعتباره قصار القول فهو أن ترامب يعمل جاهدا على (سورنة ليبيا) لجهة الحضور الأجنبي فيها، وبحيث لا يبقى فيها إلا الروس والأمريكان لا غير، وبمستوى أقل، الاعتماد على التوظيف أو المقاولة القذرة لبعض الدول الأوروبية والإقليمية التي تنال رضاه بإظهار خضوعها غير المشروط لسياساته، كما هو الحال مع الوجودين الإيراني والتركي في سوريا، هذا ولسوف تؤجل لعبة المناقلات الشطرنجية بين ترامب وبوتين في ليبيا وأفريقيا – التي يصعب التنبوء بمآلاتها بهذا الوقت المبكر – فور خلو وجه ليبيا لهما دون سواهما، إن ترامب العائد إلى البيت الأبيض بأعلى مستويات الغرور والغطرسة ونزعات الشراهة والانتهازية، وبشعار مفخخ كشعار (فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) الذي سيمده على كتفيه وهو يقتحم العالم بما ناله من تفويض واسع من الناخبين الأمريكيين، إنما يستعد اليوم وبقوة وبالتحالف مع صديقه بوتين، لاقتسام العالم عموما، والذي سيهمنا منه حقيقة مخططات استيلاءهم على الكثير من الحصص الفرنسية والأوروبية في ليبيا والقارة السمراء.

انتظرونا فإن للحديث بقية،،،

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

عز الدين عقيل

كاتب سياسي ليبي

اترك تعليقاً