تمثل منطقة البحر الأحمر ممراً مائياً استراتيجياً حيوياً يربط بين الشرق الأوسط، أفريقيا، وآسيا لطالما كانت هذه المنطقة محوراً للتنافس الجيوسياسي بين القوى العالمية والإقليمية على حد سواء وفي السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات الصينية الإيرانية تطوراً ملحوظاً، مما زاد من تعقيد الديناميكيات السياسية في المنطقة حيث أن إسرائيل، بوصفها دولة ذات مصالح استراتيجية مباشرة في استقرار المنطقة، تجد نفسها أمام تحديات جديدة ناجمة عن هذا التحول في موازين القوى والأزمات التي تشهدها منطقة البحر الأحمر، سواء كانت متعلقة بالأمن البحري،أو النزاعات الإقليمية، أو التواجد العسكري الأجنبي، تلقي بظلالها على الأمن القومي الإسرائيلي وتطرح تساؤلات معقدة حول كيفية تموضع إسرائيل في هذا المشهد المتغير.
أولا العلاقات الصينية الإيرانية:
هي العلاقات الثنائية بين جمهورية الصين الشعبية وإيران و تتميز هذه العلاقات بالتعاون الاقتصادي والاستراتيجي والسياسي، وتعود جذورها إلى العصور القديمة عبر طريق الحرير ففي الوقت الحاضر، تعتبر الصين أكبر شريك تجاري لإيران، وتستورد منها النفط والغاز، وتصدر إليها السلع والتكنولوجيا. كما تدعم الصين موقف إيران في القضايا الدولية، مثل الاتفاق النووي والعقوبات الأمريكية وفي مارس 2021، وقعت الصين وإيران اتفاقية شراكة استراتيجية لمدة 25 عامًا، تتضمن تعزيز التعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتجارة والاستثمار والأمن والثقافة ويهدف هذا الاتفاق إلى تعزيز النفوذ الصيني في المنطقة وتقديم الدعم الاقتصادي لإيران في مواجهة الضغوط الامريكية
ثانيا العلاقات بين الصين وإسرائيل:
تاريخيا كانت العلاقات معقدة ومتغيرة حيث تعود بداياتها إلى عام 1947، عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين. وقد امتنعت الصين، التي كانت تحت حكم القوميين بقيادة(( تشانغ كاي شيك)) إبان تلك الفترة، عن التصويت على القرار، بينما صوتت 33 دولة لصالحه و13 ضده و10 دول امتنعت وواحدة غابت. وبالتباعية كانت العلاقات بين الصين القومية وإسرائيل جيدة في البداية، لكنها تغيرت بعد إعلان إسرائيل قيامها على أراضي دولة فلسطين في مايو 1948.
ففي مارس 1949، اعترفت الصين القومية بإسرائيل ودعمت انضمامها للأمم المتحدة وفي أكتوبر من نفس العام، أطاح الشيوعيون بالقوميين وأسسوا جمهورية الصين الشعبية وكانت إسرائيل أول طرف في الشرق الأوسط يعترف بالصين الشعبية ففي يناير 1950 قام وزير خارجية إسرائيل ( موشيه شاريت) بإبلاغ نظيره الصيني بأن إسرائيل تعتبر الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة للصين ومع ذلك، بقيت العلاقات بين الصين وإسرائيل باردة لمدة 40 عاما، من الخمسينيات إلى التسعينات. وكان السبب في ذلك هو الصداقة والتحالف بين إسرائيل والولايات المتحدة والغرب، ومحاولة الصين كسب ود الدول العربية.
بعد التطرق إلى الجوانب التاريخية للعلاقات بين الصين وإيران والصين وإسرائيل، سنحاول تصور سيناريو محتمل وهو تأثير سلاسل الإمداد الصينية على إسرائيل ودور إيران في عرقلتها.
فالصين هي أكبر شريك تجاري لإسرائيل، وتصدر إليها العديد من السلع والمنتجات، خاصة في مجالات التكنولوجيا والاتصالات. وتستخدم إسرائيل موانئها البحرية، مثل ميناء حيفا وميناء أشدود، لاستقبال هذه الشحنات من الصين، والتي تمر عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وهذا المضيق هو نقطة استراتيجية حيوية، حيث يفصل بين شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي، ويعتبر ممراً ملاحياً مهماً للنفط والتجارة العالمية. وتحاول إيران، التي تعاني من العقوبات الأمريكية والعزلة الدولية، تعزيز نفوذها في المنطقة، وتحدي الولايات المتحدة وحلفائها، من بينهم إسرائيل. وتدعم إيران الحوثيين في اليمن، الذين يسيطرون على الساحل الغربي للبلاد، والذي يطل على مضيق باب المندب.
وقد شن الحوثيون هجمات على السفن الحربية والتجارية في المضيق، مما أثار المخاوف من تعطيل حركة الملاحة والتجارة. وتمتلك الصين شركات عديدة تعمل في مجال البنية التحتية والنقل في إسرائيل، وتدير بعض الموانئ الإسرائيلية، مثل ميناء حيفا. وقد أثار هذا الأمر قلق الولايات المتحدة، التي تخشى من أن تستخدم الصين هذه الموانئ كمنصات للتجسس أو التأثير على الأمن القومي الإسرائيلي. ولذلك، فإن أي تهديد لسلاسل الإمداد الصينية في المنطقة قد يؤثر سلباً على العلاقات بين الصين وإسرائيل، وقد يزيد من التوترات بين إيران وإسرائيل، وقد يضع الولايات المتحدة في موقف صعب بين حليفيها.
فبعد أسابيع من الهجوم الإسرائيلي على غزة، حذر ، أحد مؤسسي وحدة السايبر في الموساد، في رسالة موجهة إلى يولي ادلشتاين ، رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست، من التأثير السلبي للتوغل الصيني في الاقتصاد الإسرائيلي و نشرت صحيفة الكالكليست الإسرائيلية الرسالة في بداية يناير 2024، وركزت على المشاريع الصينية في البنية التحتية الإسرائيلية، مثل محطة الحاويات في ميناء حيفا، التي تديرها شركة صينية. أبدى عضو وحدة السايبر قلقه من أن تستخدم الصين هذه المشاريع لتعطيل العمليات الحيوية في إسرائيل. وهذا ما حصل عندما أوقفت شركة كوسكو الصينية، العملاقة في مجال الشحن، جميع سفنها عن الرسو في الموانئ الإسرائيلية، مما أثار الفوضى في الاقتصاد الإسرائيلي و بررت الشركة قرارها بالخوف من هجمات الحوثيين في اليمن على سفنها، لكن إسرائيل رفضت هذا التبرير واعتبرته ذريعة للضغط على إسرائيل والتضامن مع غزة حيث رأت إسرائيل أن قرار كوسكو يحمل دوافع سياسية أكثر من اقتصادية.
فالتساؤل هنا ما هي الأهداف الصينية من وراء هذا القرار؟ وما هي تداعياته على إسرائيل؟ وهل يمكن أن يؤدي إلى أزمة خطيرة؟
في مارس 2015، وقع وزير المواصلات الإسرائيلي(( يسرائيل كاتس)) عقداً مع مجموعة شنغهاي الدولية للموانئ لإدارة محطة جديدة ستبنى في خليج حيفا واعتبر كاتس ذلك اليوم تاريخياً في تاريخ إسرائيل، وأبدى تفاؤلاً بالتعاون مع المجموعة الصينية التي تدير أكبر ميناء حاويات في العالم وهو ميناء شنغهاي ورغم اعتراضات الولايات المتحدة على الاتفاق، إلا أن إسرائيل نفذته وبعد ست سنوات، انتهت إسرائيل من بناء المحطة الجديدة في خليج حيفا وسلمتها للشركة الصينية في عام 2021 لتشغيلها وإدارتها لمدة 25 عاماً حتى عام 2046 وفي 28 أغسطس، أرسلت الصين سفينة ((كوسكو شيبنج البز)) التابعة لعملاق الشحن الصيني كوسكو للرسو في المحطة الجديدة، وذلك لإظهار إمكانيات وقدرات المحطة الجديدة أمام العالم حيث تزن هذه السفينة نحو 154 ألف طن وتستوعب حوالي 14568 حاوية مكافئة، مما يجعلها أكبر سفينة حاويات تزور الأراضي المحتلة على مدار التاريخ. وقامت السفينة بتحميل الحاويات الفارغة التي كانت متراكمة في الموانئ الإسرائيلية طوال فترة وباء كورونا.
ومن خلال ما سبق، يمكننا القول إن الصين أصبحت تلعب دوراً حيوياً ومهماً جداً في قطاع النقل البحري الإسرائيلي، حيث دخلت سوق العمل من أكثر من جانب. فدخلت في تشغيل خط الموانئ وأيضاً في خطوط الشحن من وإلى الموانئ الإسرائيلية. واستمرت هذه العلاقة وتطورت بشكل متزايد على مدار عامين وعلى إثر ذلك، أعلنت شركة كوسكو في مايو 2023 عن فتح خط ملاحي جديد مع ميناء إيلات الإسرائيلي لنقل السيارات الصينية إلى السوق الإسرائيلي.
وكان عمل كوسكو محصوراً في نقل البضائع من خلال سفن الحاويات فقط، ولكن لغرض دعم رواج السيارات الصينية في السوق الإسرائيلي، قرر الصينيون تشغيل الخط الملاحي الجديد المتخصص في نقل السيارات إلى ميناء إيلات على البحر الأحمر وكانت هذه الخطوة منافسة مباشرة من الصين مع شركة سيم الإسرائيلية التي كانت تسيطر على حركة الشحن البحري للسيارات الصينية إلى السوق الإسرائيلي ولكن على حين غرة، تحولت هذه المنافسة إلى تعاون مشترك بين الشركتين الصينية والإسرائيلية واستقرت هذه العلاقة حتى نوفمبر 2023.
حيث في هذا الشهر بدأ الحوثيون في اليمن أو جماعة أنصار الله باستغلال موقعهم الاستراتيجي في البحر الأحمر لمهاجمة السفن المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي ومع إعلانهم أن الوضع سيستمر حتى انتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اتسعت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وشملت أي سفينة متجهة إلى الموانئ الإسرائيلية مهما كانت جنسيتها، مما تسبب في اضطرابات كبيرة في حركة الملاحة في واحد من أهم ممرات الملاحة والشحن في العالم حيث أن شركات الشحن العالمية حتى إن كانت غير متجهة إلى إسرائيل أصبحت تتجنب المرور من البحر الأحمر فقامت كوسكو في ديسمبر الماضي بتغيير اتجاه سفنها الي رأس الرجاء الصالح بدلاً من مضيق باب المندب، مما زادت تكلفة أسعار الشحن والأخذ بالاعتبار فارق الوقت.
ومن أجل ذلك، جاء قرار كوسكو بوقف التعامل مع موانئ إسرائيل وهذا القرار يعتبر مضراً للاقتصاد الإسرائيلي، فبإعتبار كوسكو رابع أكبر شركة في العالم لشحن الحاويات، يمكن أن يشجع قرارها شركات دولية أخرى على التخلي عن علاقتها مع إسرائيل في سياق الملاحة والشحن وبالأخذ بالحسبان أن الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد علي النقل البحري بنسبة 99% من تجارته، لا يستطيع احتمال هذه التبعات أبدا فميناء إيلات أصبح شبه متوقف بسبب هجمات الحوثيين، وميناء أسدود وعسقلان أصبحا غير مستقرين بسبب هجمات المقاومة في غزة مما جعل ميناء حيفا في الشمال هو أهم ميناء إسرائيلي في الوقت الحالي وأهم محطة موجودة في ميناء حيفا حالياً هي المحطة التي يتم تشغيلها من قبل شركة شنغهاي الدولية الصينية أيضاً أهم شركة تعمل في هذه المحطة هي كوسكو الصينية مما يجعل هذا الوضع المعقد أكبر ضربة للميناء الإسرائيلي في هذا الوقت الحساس.
و يري المحللون الإسرائيليون أن الصين ليس لها أي مبرر لقرارهم، ويصرون على أن أكثر السفن أماناً هي السفن الصينية. ودليلهم على ذلك هو أنه لم يتم استهداف أي سفينة تابعة لكوسكو الصينية في البحر الأحمر وهذا الشيء تؤكده البيانات الرسمية فمند بداية الأزمة وحتى شهر يناير 2024، تم استهداف ما لا يقل عن 26 سفينة من جانب الحوثيين في البحر الأحمر، ولم تكن من ضمنهم أي سفينة صينية أو تابعة لكوسكو وهذا يعني أن الصين تتبع سياسة مزدوجة تجاه إسرائيل، فهي تستفيد من العلاقات التجارية معها، وفي نفس الوقت تدعم القضية الفلسطينية وتعارض العدوان على غزة. وهذا يضع إسرائيل في موقف صعب ومحرج، فهي تعتمد على الصين في مجالات حيوية، ولكنها تخشى من تأثيرها السلبي على أمنها ومصالحها. وهذا يطرح سؤالاً مهماً: هل تستطيع إسرائيل الاستمرار في التعايش مع الصين، أم أنها ستضطر إلى مواجهتها؟
فحسب صحيفة جلوبس الإسرائيلية انتقدت بشدة قرار شركة كوسكو الصينية بوقف التعامل مع موانئ إسرائيل، وأرجعته إلى الروابط القوية بين الصين وإيران، الحليف الرئيسي للحوثيين في اليمن وأوضحت الصحيفة أن الصين تستورد أكثر من 90% من نفطها من إيران، مما يجعل سفنها الصينية آمنة من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، بينما تتعرض باقي السفن المتجهة إلى إسرائيل للخطر وهذا يطرح تساؤلات حول الدوافع الحقيقية للقرار الصيني، وهل هو قرار تجاري أم سياسي.
((يمكن القول أن القرار الصيني يندرج ضمن سياسة خارجية تدعم إيران وتعارض إسرائيل، خاصة في ظل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ولكن مهما كانت دوافع كوسكو، فإن إسرائيل تواجه واقعاً جديداً وصعباً، وهو أنها أصبحت مقاطعة من قبل شركة شحن عالمية عملاقة، وهو ما يهدد اقتصادها وأمنها. وهذا يحتم على إسرائيل إيجاد حلول بديلة للتغلب على هذا التحدي))
و يمكن القول إن اسرائيل بدأت من مدة في البحث عن بدائل حيث أثارت أنباء وردت مؤخراً عن وصول أولى شحنات البضائع التجارية من دبي إلى إسرائيل عبر جسر بري جديد، يمر عبر الأراضي السعودية والأردنية، و الكثير من الجدل وسط تقارير تؤكد نجاح المشروع التجريبي، فيما نفت سلطات أخرى وجود مثل هذا الممر وبحسب تقرير لموقع “واللا” الإسرائيلي، فإن 10 شاحنات أولى وصلت بنجاح إلى ميناء حيفا الإسرائيلي قادمة من موانئ دبي وبعد رحلة برية عبر السعودية والأردن. ويبلغ طول الرحلة حوالي 2550 كم وقد تستغرق 4 أيام، بتكلفة 1.2 دولار للكيلومتر الواحد، ما يجعلها أكثر تكلفة قليلاً من الشحن البحري التقليدي ويأتي هذا المشروع في محاولة لتوفير بديل عن طرق الشحن عبر البحر إلا أن مسؤولين أردنيين نفوا هذه التقارير، مشددين على عدم وجود مثل هذا الجسر البري، وأكدوا التزام الأردن الثابت تجاه قضية الشعب الفلسطيني وتبقى تفاصيل هذا المشروع غير واضحة، في ظل التضارب بين مزاعم بنجاحه وبين النفي الرسمي من السلطات الأردنية إلا أنه يظل مؤشراً على محاولات إيجاد بدائل لطرق التجارة العالمية المعتمدة على البحر الأحمر، وسط تصاعد التوترات الأمنية في المنطقة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً