الجزء الأول: من ورقة حول مآلات صعود ستيفاني خوري!!
لم تكد مصادرنا الإخبارية تتلقف من موقع “أفريكا انتليجن” الفرنسي الذي ينشر أنباءه لغايات مخابراتية أكثر منها لتقديم خدمات إخبارية للجمهور، خبر انطلاق التنافس بين ثلاث مرشحين على رئاسة بعثة الوصاية الأممية على ليبيا خلفا لعبد الله باتيلي، وهم المبعوث الألماني إلى ليبيا كريستيان باك، ووزير الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة، ومدير ديوان رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي الموريتاني محمد ولد البات، حتى راحت هذه المصادر تحتفي بهذا الخبر نشرا وتحليلا.
بيد أنه لا أحد من هذه المصادر حاول أن يلامس بتفاصيل استعراضه للخبر أو بمرافعات تحليله له عوامل تحديد طبيعة الشاغر لكرسي رئيس بعثة الوصاية على ليبيا، والموزعة بين عامل التأثير العميق والمباشر للإنجلوسكسون الذين قادوا تحالف فجر الأوديسا الذي أسقط الدولة الليبية سقوطا حرا بالعام 2011 ويعتبرون ليبيا غنيمة خالصة لهم، وحقيقة الاحتلال العسكري اللقيط والمروع الذي باتت البلاد ترزح اليوم تحت أثقاله المتنوعة والمتناقضة، إلى جانب واقع ارتدادات الصراع “الإنجلوسكسوني – الروسي” المتصاعد بشدة في ليبيا وعليها، والذي أطبقت أصداءه الآفاق، إضافة إلى ما بات يعرف عن هذا المنصب من أهميته الاستراتيجية القصوى لواشنطن (وهو ما سنبين أسبابه تفصيلا ضمن سياق نقلات هذه الورقة)، حيث بلغت تداعيات هذه الأهمية الأمريكية، حد إقبال نماذج بعينها على التنافس على هذا المنصب من بين أجانب فاشلين من سياسيين وخبراء دوليين يشترك جميع المحظوظين منهم بنيل هذا المنصب بقربهم من الدوائر الأمريكية النافذة، هذا إلى جانب انتشار فكرة احتدام التنافس على هذا المنصب بين أشخاصا تترسخ لديهم فكرة ونية قدرة هذا المنصب على توفير فرصة اللعب على التناقضات الليبية بتحقيق ثروة خاصة هائلة لشاغله، ما جعلهم على استعداد لشراء هذا المنصب بأي ثمن فور عرضه للبيع ببورصة السوق المشتركة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، بيد أن ثمن الحصول على هذا المنصب لطالما كان هو ثمن بيع الفائز بالغنيمة، للغنيمة نفسها.
إن الأخذ بالحقائق والوقائع والأحداث المتدفقة في ليبيا وحولها اليوم، إنما يجعل من الأخذ بهذا الخبر على محمل الجد، أو الاعتقاد بقدرة كائن من كان على الإطاحة بستيفاني خوري لحساب مرشح آخر قبل إتمام المشروع الذي جيء بها لأجله، إنما هو شعور لن يزيد عن “أمنيات رومانسية خرقاء” بحال أحسنّا الظن وأدّبنا الخطاب، وذلك إلا بحالة استثنائية يتيمة يمكنها حصرا إخضاع واشنطن لمداولات حقيقية حول البحث عن خليفة لخوري (والتي سنأتي على ذكرها بنهاية هذه الورقة) وذلك لأن واشنطن لن تخسر بهذه الحالة تربع خوري على عرش بعثة الوصاية على ليبيا فحسب، بل وستخسر كل شيء.
ولعل أولى الحقائق الصادمة المرتبطة بطبيعة التجربة الليبية الطويلة والمريرة مع بعثة الوصاية الأجنبية على ليبيا، وتحديدا ببعدها المرتبط بالهيمنة الأمريكية المطلقة على البلاد وقادتها، هي حقيقة أنه لم تجري عملية استنساخ سياسية دولية، وبتحدي فج لما يسمى بالمجتمع الدولي، وبقرقعة تصم الآذان، وعبر تحالف معلن بين واشنطن من جهة وبين السكريتير العام للأمم المتحدة من جهة أخرى، وبصورة تجعل من عملية الاستنساخ هذه، الأكثر منافسة لعملية استنساخ النعجة دُولّي نفسها، لجهة تطابق الناسخ مع المنسوخ، كما هو حال استنساخ واشنطن وغوتيريش لعملية تربع الأمريكية ستيفاني خوري على كرسي رئاسة بعثة الوصاية على ليبيا، من ذات الخلية التي خُلِّقت منها عملية تنصيب سلفتها ستيفاني وليامز، لتصبح العملية الثانية مجرد استنساخا متطابقا تمام التطابق مع العملية الأولى.
ولأن تمكين سيدة أمريكية من السيطرة على بعثة وصاية (في ليبيا)، الأرض التي تتهافت كل الأمم على قصعتها لطيب أهميتها الاقتصادية والجيوسياسية، حد استعدادهم (وربما انطلاقهم فعلا) بالتحضير لإشعال حرب عالمية على ترابها، وبسبب من تضور واشنطن جوعا لابتلاع ليبيا منفردة، وهو التضور الذي باتت تنافسها عليه موسكو وبشدة، فإنه يظل من نافلة القول الإشارة هنا، إلى أنه لا يمكن لعاقل اتهام غوتيريش بقيامه بمساعدة وليامز وخوري على التسلل إلى كرسي رئيس بعثة الوصاية على ليبيا من الأبواب الخلفية للخدم، تطوعا أو باجتهاد شخصي منه، وذلك ليقين الثعلب البرتغالي بأن مساعدتهما على الاستيلاء على البعثة على طريقة استيلاء القراصنة على السفن، لن تكون نتائجها بصالحه أبدا، فالرجل يعلم تماما بأن هذا التمكين لا بد وأن يورطه بسخط وغضب كلا من موسكو وبكين عليه، خاصة وأنهما يتهمانه أصلا بالانحياز إلى السياسات الأمريكية، كما أن باريس أيضا، والتي هي الأقرب من بين الأوروبيين إلى منافسة واشنطن على النفوذ الدولي، وخاصة داخل ليبيا وأفريقيا والاتحاد الأوروبي لا يمكن ضمان اتقاء غضبها من التواطؤ مع هذا التلاعب الأمريكي الفج بالإرادة الدولية لمجلس الأمن، هذا إلى جانب أن غوتيريش يدرك أيضا بأن مراحل التربص التمهيدية لكلا من وليامز وخوري التي سبقت افتراس كلا منهما لـ غسان سلامة وإيان كوبيش وباتيلي، إنما تشكل مخاطرة حقيقية بتشتيت النفوذ الدولي داخل بعثة الوصاية بين المبعوث الأصلي المعين من مجلس الأمن الدولي من جهة، وبين المبعوث النافذ الذي خُلِّق بالاستنساخ الأمريكي من جهة أخرى.
هذا إلى جانب وعي غوتيريش الأكيد بأن وجود رأسين أمريكيين بالبعثة من نوع وليامز وخوري المنحدرتين من خلفيتين مخابراتيين، لابد وأن يهدد أيضا بإضعاف نفوذه وتأثيره هو نفسه على البعثة، بسبب علمه بولاء هاتين السيدتين إلى وليام بيرنز رئيس المخابرات الأمريكية، وأنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، وريتشارد نورلاند (بريمر ليبيا)، وليس للأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي أو حتى غوتيريش نفسه، لاسيما وأن كلا من وليامز وخوري تعلمان بأن واشنطن وليس غوتيريش هي التي تقف خلف وجودهما على رأس بعثة الوصاية على ليبيا، وإنهما ما جيء بهما إلى هناك إلا لتنفيذ سياسات وأوامر أمريكية وليس أممية، وهو ما أسرت به وليامز فعلا إلى بعض الشخصيات الليبية، وعليه فإن غوتيريش ما كان له أن يتورط أبدا تطوعا منه بزرع ستيفاني على حساب سلامة، قبل إعادة استنساخها هي نفسها على حساب كوبيش، ثم استنساخ خوري علي حساب باتيلي، إلا استجابة لضغوط أمريكية، من الواضح جدا أنه ما كان للثعلب البرتغالي قبل بردها على واشنطن.
بيد أنه، ورغم اختلاف البنية الجينية حتما بين كلا من وليامز وخوري، والتي لا تجعلهما بالتأكيد امتدادا للنعجة دُولّي وأمها من الناحية البيولوجية، إلا أن جينات وكروموزومات عمليتى “الاستنساخ التنصيبي” لكل منهما على رأس بعثة الوصاية في ليبيا، إنما يصادق وبقوة على صحة القول بأن وليامز تستحق أن ترقي بهذا الاستنساخ العملياتي إلى شهرة “أم النعجة دُولّي”، بينما تستحق خوري أن ترقى ولنفس السبب إلى شهرة النعجة دُولّي نفسها، وعليه فإنه من بين أشد أعراض الضلال السياسي الذي قد يظهر على أحدنا، هو تصوره لاحتمال تخلي واشنطن وقرينتها لندن – من الآن فصاعدا – على ممارسة نفس الحيل التي سبق لهما وأن مارساها ولجأ إليها بفرض ستيفاني وليامز على بعثة الوصاية على ليبيا، إلى أن أكملت مدتها المرسومة لها، والتي امتدت ما بين العامين 2018 و2021، ولقد كان من بين أخطر أساليب الخداع وتشتيت الجهود الدولية في ليبيا الذي استخدمته واشنطن لإطالة عمر ابنتها وليامز على رأس بعثة الوصاية فور إحساسها بوجود خطر يتهدد استمرار وجودها فيها قبل إتمام مهمتها المكلفة بها، هو إصرار واشنطن المفاجئ، وكان ذلك بأوائل العام 2020، على طرحها لمسألة غاية في التفاهة على مجلس الأمن الدولي – قصد اكتساب مزيدا من الوقت لوليامز – وهي ضرورة إعادة هيكلة بعثة الوصاية على ليبيا، ولقد واصلت “واشنطن ترمب” ضغوطها حتى انتهت عمليا إلى هيكلة البعثة على صورة الفارق بين (عمر والحاج عمر)!! بيد أن واشنطن كانت قد نجحت فعلا بحيلتها تلك باكتساب المزيد من الوقت لوليامز على رأس بعثة الوصاية إلى ما يقارب العام الكامل الذي واصلت فيه وليامز تنفيذ ما جيء به لأجله، بينما شغلت واشنطن العالم والليبيين بجدل عقيم وجلسات خرقاء حول تحويل بعثة الوصاية على ليبيا، من “بعثة الوصاية”، إلى “بعثة الحاجة وصاية”!!.
بل لعل بعثة الوصاية لم تكن كارثية على الليبيين كما كانت إبان ابتلاءها بتحقيق طلب واشنطن بإعادة هيكلتها على صورة مسخ براسين أو ما شابه، حيث أنه وتحت هذه الهيكلية تحديدا حولت ستيفاني وليامز الجغرافيا الليبية عبر خط هدنتها المسموم، إلى صورة جديدة للقبرصين والكوريتين أو الصومالين أو الألمانيتين قبل انهيار جدار برلين، لتصبح ليبيا بهذا مكبلة بـغلال الفصل السابع من كعبيها، وبأصفاد خط الهدنة من رسغيها، كما أعادت وليامز ليبيا تحت ظلال هذه الهيكلية الجديدة إلى ثنائية التوازي الحكومي، بعد أن كانت هذه الوليامز نفسها هي التي أبطلت ثنائية (الثني – السراج)، حيث أن وليامز لم تغادر البلاد إلا بعد أن أطمئنت عمليا على نجاح إطلاقها لجولة صراع ومواجهة جديدة لنسخة ثنائية لتوازي حكومي جديد بين (آغا ودبيبة) هذه المرة، وهو الصراع الذي ما يزال يغلي ويتطور وأن تغير عنوانه إلى ثنائية (حماد ودبيبة)، ولم تتوقف المعارك والحيل الأمريكية، أو الإنجلوسكسونية لنكون أكثر إنصافا، لمواجهة كل محاولة للإطاحة بوليامز إلا حين انتهت وليامز من تحقيق كل ما نُصّبت لأجله، وهو إيلاج ليبيا إلى مرحلة من أشد مراحلها فوضى وعنفا وتفككا وفسادا.
ولقد بلغ الفجور الإنجلوسكوني بعملية استنساخ خوري مدى لم يسبق له بلوغه من قبل، وهو إجبار باتيلي نفسه ورغما عن أنفه على تبرير استقالته المفاجئة للعالم، بتقديم نفسه وبهبرة لسانه، على أنه مبعوث فاشل وشخص ظالم وعدواني، وذلك بجمعه بين اعترافه علنا بفشله بمهمته في ليبيا التي اعتبرها تجربته الأسوأ على مدى عمره الوظيفي وبين إظهاره لقدر ظالم ومخجل من التنمر غير المسبوق ضد الليبيين من كل أسلافه الذين سبقوه إلى المنصب، خاصة وأن ما تلفظ به يعد سفها لا يمت إلى الديبلوماسية بصلة، بل ولقد تحول السفه الذي جاء به إلى وصمة عار بجبينه سيجده أمامه بكل مرة قد يعرض فيها وجهه مستقبلا لنيل منصب أممي لدى منكوبين آخرين، وأما الغريب فعلا – والذي قد يشي بتعرض باتيلي لضغوط لسب نفسه والليبيين – فهو وجود فرصة حقيقية أمام باتيلي للانسحاب من المشهد الليبي على رؤوس أصابعه كما سبقه إلى ذلك كوبلر الذي لم يكتشف الليبيين رحيله إلا عقب اقتحام وجه سلامة لحياتهم، حيث أن باتيلي لم يكن بحاجه أصلا لا إلى إعلان فشله ولا إلى ظلم وإهانة الليبيين، خاصة وأنه لم يشكل أي استثناء وعلى أي نحو كان بين كل المبعوثين الذين سبقوه، فلأن لم يخلف وراءه غير الخراب في ليبيا، فإن أحدا من الذين سبقوه وهم كثر، لم يتركوا من خلفهم غير ذات الخراب، والذي لا يعود لهم إنصافا، بقدر ما يعود برمته إلى السياسات الإنجلوسكسونية في ليبيا.
بيد أن أحد الديبلوماسيين العاملين في ليبيا والذي يعد مكلفا من سفارة بلاده برصد أنشطة بعثة الوصاية في ليبيا، يعتقد بأن واشنطن، ربما تكون هي التي تقف خلف إنزال باتيلي إلى هذا المستوى المهين الذي ختم به عمله في ليبيا، ربما عبر تهديده بكشف ملابسات انحرافات خطيرة كانت شخصية اعتبارية ليبية قد اتهمت بها باتيلي صراحة، وذلك لتوفير أفضل الظروف لخوري لإتمام قرصنتها على بعثة الوصاية على ليبيا، ولأنه كان لابد لباتيلي وأن يلعب الدور الرئيسي بالمشهد الأخير من عملية استنساخ النعجة دُولّي، فقد خرج علينا الديبلوماسي السينغالي المغدور وسط حالة من التصدع والارتباك الظاهرين، وهو يحاول تصوير نفسه وكأنه هو الذي زهد بجنة بعثة الوصاية، مؤطرا زهده هذا (وبصورة تثير الغثيان) بفشل الأطراف الليبية بتحقيق المصالحة بينها، وبتحميل الليبيين كل نتائج الفوضى الضاربة بأطنابها ببلادهم، وذلك في الوقت الذي لم تعد فيه إلا أسماك المحيطات وحيوانات غابات الأمازون وحدها – وهو الأمر المشكوك فيه أيضا – التي لربما لم تعرف بعد، بأنه ليس هناك من سبب للرعب والعار الدائرين بليبيا سوى تطور الاحتلال الأجنبي للبلاد والتدخلات الخارجية المروعة بشؤونها، والذين تمثل واشنطن ولندن الأصل والأساس فيهما حتى لغير وكلاءها، كالتدخل العسكري الروسي، حيث سبق وأن اتهمت جهات أمريكية ترمب صاحب العلاقة الاستراتيجية الخفية مع بوتن باحتمال لعبه دورا بالتدخل الروسي في ليبيا، خاصة وأن الرجلين قد اشتركا فعلا وبصورة عسكرية تضامنية مباشرة بطرد قوات الرجمة من غرب البلاد وردها إلى حيث ترابط اليوم، وحتي وإن لم يكن ترمب قد شارك بتسهيل الغزو الروسي لليبيا، فإن تورط واشنطن بتفكيك الدولة الليبية بالعام 2011 وإجبارها على البقاء دولة فاشلة تعج بالعنف والفوضى والفساد حتى ساعتنا هذه، كان لابد وأن يجعلها مسرحا لكل الطامعين، بل أنه ليس من المستبعد أبدا أن نجد الصينيين أو الكوريين الشماليين غدا وقد اقتطعوا لأنفسهم شقفا من لحم البلاد.
بيد أنه أي كانت أسباب إهانة باتيلي لنفسه ولليبيين باختيار إسدال الستار على عمله في ليبيا بهذه الطريقة المحزنة والمخزية لنفسه، فإن هذه النهاية لابد وأنها قد لاءمت واشنطن حتى النخاع بجعل سطو خوري على البعثة يبدو سلسا ومشروعا، بل وإظهاره لهذا السطو كما لو كان عملية “اقتحام إنقاذي” لنجدة شعب من نفسه ومن مبعوث أممي فاشل، بل ولقد أوحى البؤس الفاجع الذي أنهوا به وجود باتيلي في ليبيا بفرقعة غطت تماما على زحف خوري نحو عرش بعثة الوصاية، وكأن خوري هذه ستكون استثناء بين أسلافها بإحضارها لذئب الأزمة الليبية من ذيله وإلقاء جيفته بين أقدام الليبيين، وذلك بالرغم من بدايتها المتعثرة وهي على رأس بعثة الوصاية تعثر الأطفال الذين يتعلمون المشي لتوهم، فقد ظهرت بأولى اتصالاتها المحلية بمجموعات ليبية مختلفة، وبثانيها عند تقديمها لخطاب إحاطتها الأولى أمام مجلس الأمن، وهي تعاني من أشد حالات التيه والتخبط، ودون أن تفلح في شيء سوى في تمثيلها لإرادة واشنطن خير تمثيل من خلال دفاعها المستميت عن رغبة واشنطن المفجعة بإجبار الليبيين على الجمع بين (ميزانية وحكومتين)، وهو العبث الذي يعكس استعداد واشنطن لركوب أقصى درجات الجنون واللامعقول طالما كان هذا يحقق مصالحها، ومهما كانت هذه المصالح شائنة ولا أخلاقية، ولبالغ الأسف فإنه بينما قُدمت أجواء نحر باتيلي أمام العالم وكأن هذه الخوري ستكون الفارسة الأسطورية التي طارت على جوادها المجنح إلى ليبيا لإنقاذ الليبيين من قادتهم (بحسب ما يسوق له الإنجلوسكسون) فإن معطيات الواقع الليبي الأليم السياسية والعسكرية لا تنتهي لبالغ الأسف إلا إلى حقيقة دخول “النعجة دُولّي” على البلاد وهي على شفا اشتعال حرب عالمية بين بلادها والروس، وأن تكدس عشرات المدخلات العسكرية اللوجستية التفصيلية الأخرى التي باتت تراكماتها تحاصر البلاد من كل جانب، لا تشي إلا بأن هذه الخوري ما جاءت إلا للتعجيل باشتعال هذه الحرب!!.
وبينما انعقد لسان باتيلي وعجز عجزا مخزيا على رد الكيل بمكيالين لواشنطن، المسؤولة الحصرية بمسألة الغدر به وطرده من النعيم الليبي، باكتفاءه (لشدة خوفه منها أو طمعه فيها) بانتقاد الدور الأمريكي في ليبيا، والذي لا ينال نصيب الأسد بحجم الاحتلال والهيمنة الأجنبيين والتدخلات الخارجية في ليبيا بل نصيب “قطيع من الأسود”، بإدغامه للدور المركزي الأمريكي بتأجيج الأزمة الليبية مع غيره من أدوار قوى الاحتلال الأجنبي والتدخلات الخارجية الأخرى والتي لا يزيد جلهم عن مجرد وكلاء لواشنطن، وذلك باختزاله لكارثة الوجود الأجنبي المسلح بالبلاد وحجم التدخلات الخارجية المروع بشؤونها، بعبارة استنكارية ضعيفة وهلامية ومبنية للمجهول، حذر فيها من تأثير ما اسماه بصراع المعسكرين الأجنبيين المتنافسين في ليبيا على مستقبل الحل في البلاد.. وصمت.
لقد بدا واضحا جدا أن باتيلي الذي كان يعاني عقب الساعات الأولى من إبلاغه بالاستغناء عنه إما من ضغوط شديد لتغليط نفسه، أو من اكتئاب غبن إخراجه من جنة المنصب الذي كان يرفل فيه، بنعيم مرتب يتجاوز المائة ألف دولار، وبحياة قصور مخملية كان يتمتع بالعيش فيها وهو يتنقل بين المنطقة الأمريكية الخضراء الواقعة بقرية النخيل الطرابلسية المحمية بقوات أجنبية، وبين مقاره الفخمة بالعاصمة التونسية، إلى جانب استخدامه لمواكب مهيبة من سيارات الدفع الرباعي الفارهة داخل المدن الليبية التي تشل شوارعها لأجل مواكبه، ويحشر ويحجز الليبيين فيها لأجل راحته وسلامته كما لو كانوا مجرمين أو كانوا بمعسكر اعتقال أو لاجئين من جبهة حرب، بل لطالما شلت حركة الناس في الشوارع بينما مايزال باتيلي يفرش أسنانه بمرحاض جناحه الملكي، إلى جانب نعيم قطع رحلاته الجوية بطائرة خاصة غالبا ما تنتهي إلى امتداد السنة السجاد الأحمر تحت نعليه بمداخل أبواب أهم قصور القادة الإقليميين والدوليين التي تُفتح بوجهه على مصاريعها “لأجل عيون البهية ليبيا”، وعليه فإن باتيلي هذا لم يجد وهو يقع تحت وطأة الضغوط أو اكتئاب الشعور بفداحة خسارته، وخوفه من جلاده، للانتقام لنفسه، إلا بركوب الحمار الأقصر، وهو القادة الليبيين الذين صب عليهم جام غضبه باستخدام انتقادات ظالمه ولغة جبانه ركزت على تحميل القادة الليبيين المسؤولية الكاملة عن استدامة الصراع وتقسيم البلاد لخدمة مصالحهم الشخصية، ومنددا بما أسماه بغياب الإرادة السياسية وحسن النية لديهم، وواصما إياهم بالسعداء بالمأزق الذي تقع فيه بلادهم.
وبينما لم يكن القادة الليبيين الذين هاجمهم باتيلي بأكثر من مجرد نتيجة للصخيرات وبرلين، أو مجرد سلعا انتجت فيهما بأيدي أجنبية، فإن باتيلي قد صدح مناديا بلسان الواعظ الضال، بضرورة إنهاء تصميم القادة الليبيين الأناني على الحفاظ على الوضع الراهن للبلاد، من خلال ما أسماه، بالمناورات وتكتيكات المماطلة التي يقترفونها على حساب الشعب الليبي، ولقد كال باتيلي بهتانه هذا ضد القادة الليبيين، وكأن الليبيون وليس الإنجلوسكسون ومركز الحوار الإنساني المشبوه والأمم المتحدة وبرناندينو ليون، هم الذين صمموا اتفاق الصخيرات المنهار، الذي خلق نظاما سياسيا كاملا لا علاقة له بالنظام القائم بالإعلان الدستوري، ومدد لحكم عقيلة باسم ما يسمى بالشرعية الدولية، وخلق مجلس الدولة العرفي، بل وسمي أول رئيس له قبل حتى أن يولد ويرى النور، ونصب وبصورة صاعقة المدعو السراج رئيسا للمجلس الرئاسي والحكومة من خارج قوائم الأسماء المقترحة ممن يسميهم باتيلي والإنجلوسكسون بطرفي الصراع، وكأن ثلاثي المنفي وحكومة الدبيبة قد انتخبهما الليبيون فعلا ولم يصنعهما برلمان عرفي موازي صنعته ستيفاني وليامز من 75 شخصا، ظلت حتى ساعة مغادرتها البلاد وهي عاجزة عن إجابة الليبيين عن سؤالهم حول معايير اختيارها لأعضاء برلمانها العرفي هذا!؟ أو وكأن ما جرى ببرلين من صنع نظام سياسي ثالث لا علاقة له هو الآخر لا بالنظام الأصلي الوارد بالإعلان الدستوري ولا بنظام الصخيرات الذي كان قد انهار فعلا، وما اقترن به أيضا من تمديدات جديدة لحكم القادة التشريعيين وإنتاج قادة جدد بينهم المنفي والدبيبة، كان هو أيضا من تصميم وصنع القادة الليبيين وليس منتجا أجنبيا يمثل الإرادة الخارجية الخالصة!؟.
بل وكأن الليبيين الذين لم يوجد بينهم شخص واحد لم يرحب ولم يعمل لصالح انتخابات 2021 هم الذين قوضوا هذه الانتخابات تحت ما أسموه بالقوة القاهرة، وليس الصدام الذي تصاعد فجأة بين واشنطن ولندن من جهة، وبين موسكو ومن خلفها بكين من جهة أخرى حول مشاركة سيف القذافي بالانتخابات عقب نجاح هذا الأخير باختراق كل مصائد الطعون القضائية التي زرعوها بطريقه!؟.
بل وكأن باتيلي هذا قد نسى فعلا بأنه قد تحول هو نفسه إلى أحد أرخص الأدوات بأيدي القوى الأجنبية المهيمنة على البلاد بنجاح هذه القوى فعلا ولمرتين على الأقل – بحسب ما ظهر حتى الآن – بتوريطه بتنفيذ أوامر مقوضة ومعرقلة لتحقيق الاستقرار في البلاد، والتي كانت أولاهما بتسليطه على قاعدة 6 زايد 6 الانتخابية التي قال فيها فور صدورها الذي توافق مع إحاطة له بمجلس الأمن، ما لم يقله مالك في الخمر، بل ولقد تمادى هذا الباتيلي أكثر بتحقيق الإرادة الأجنبية بتسلطه بثاني المرتين الذين تدخل فيهما صراحة لخنق نواة فرصة لحل أزمة البلاد بتقويضه المبكر لمبادرة الجامعة العربية التي جمعت القادة الرئيسيين للبلاد، وذلك باتهام باتيلي للمبادرة ومن فوق منصة مجلس الأمن الدولي أيضا بالأحادية الجانب، مع أنها لم تكن أحادية إلا لجهة غياب باتيلي نفسه ومعه الإنجلوسكسون عنها، ولقد دفع هذا الموقف الباتيلي الغريب خبراء أممين إلى التساؤل باستنكار عن معنى الأحادية الذي يعنيه باتيلي بمبادرة تجمع كلا من عقيلة والمنفي وتكالا، وهم الذين يمثلون كل الأطراف الذين تصر واشنطن ولندن وباتيلي على تسميتهم بـطراف الصراع في ليبيا!!؟…… تابعونا بالجزء الثاني والأخير من هذه الورقة فإن للحديث بقية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً