تفتقر الإنسانية اليوم لرجل مسؤول صادق وحازم في عالم تتقاذف حكوماته عمالة مغلفة بأنانية مفرطة، يستحلون فيه الكذب على شعوبهم، وينتهجون البرغماتية المعجونة بالميكافيلية المقيتة لاستمرارية بقاء سلطانهم على شعوب بأغلبية مسلمة.
وفي ظل الحياة المعاصر التي استفرد فيها اليوم الغرب المسيحي، ومعه روسيا، بدفة القيادة وبالسيطرة تقريباً على أغلب دول العالم الإسلامي مع استمرارية الصراع ضد المنافس التنين الصيني الأسيوي الكونفشيوسي.
وأكبر إنجاز نجح فيه الغرب هو ابتداع إسلام جديد متطرف يخدم مصالحه ويضر بالإسلام والمسلمين. فكانت الوهابية السلفية الحنبلية، للإطاحة بالدولة العثمانية الحنفية النقشبندية، وكان الجهاد الإسلامي والقاعدة لطرد الروس من أفغانستان، وداعش “السنية” لتحريك التمدد الشيعي للسيطرة على الشعوب “السنية”، وهم واحد، وإجهاض الثورات التحررية “الربيع العربي”، والذئاب المنفردة لتوجيه الرأي العام، بالإضافة إلى الكثير من التشكيلات الجهادية بمناطق عديدة وخاصة بالشرق الأوسط وأفريقيا وظفت لخدمة الصراع فيما بين الدول الغربية نفسها بعد أن جعلت من ساحات الدول الإسلامية حلبة لاستعراض فنونها القتالية وأسلحتها التدميرية، ولا نبالغ بالقول: لاختبار بعض الأسلحة المحرمة دولياً.
ظاهرهم الوحدة وخلافهم حقيقة:
صحيح يوجد بعض التباين، في كراهية الغرب للإسلام، فهناك فرق بين دول العالم الغربي الأوروبي القديم وبين دول العوالم الجديدة: أمريكا، كندا، أستراليا، ونيوزيلندا إلا أنها تتفق في الأتي:
- تجمعها الديانة المسيحية، بغض النظر عن المذهب: أرثودكسي، كاثوليكي، بروتستنانتي، وغيرها من المذاهب المتعددة.
- معظم سياسات الدول الغربية ترى في الإسلام هو العدو اللدود وأي مهادنة من جانبها هي لتجنب إغضاب الشارع الإسلامي، وضمان اصواته الانتخابية، الذي هو متغلغل تقريباً بجميع الدول الغربية وبدرجات متفاوتة.
- سعت جاهدة معظم الدول الفاعلة أن تشارك في تنصيب حكاماً على الدول الإسلامية يكون ولاءهم للغرب وممثلاً لحماية مصالح الدول الغربية، وخاصة تلك التي استعمرتهم، أو خانعين وخاضعين لسياسات تلك الدول الاستعمارية لتمص مواردهم الطبيعية بأبخس الأثمان، مقابل دعم استمرارهم في السلطة.
- ترى في دول العالم أجمالاً والإسلامي خاصة مصدراً لمواد خام لمصانعها ومصادر طاقة لتحريك عجلة اقتصادها بل وسوق استهلاكية لما تنتجه مصانعها.
- لا تستطيع أي دولة غربية مواجهة أي شعب أغلبيته مسلم فلجأ الجميع لصناعة عملاء، وتفنون في خلق طوابير من العملاء لإحلال البديل عند الحاجة.
- استخدام جمعيات حقوق الإنسان وحقوق الأقليات كواجهات لتسلل استخباراتهم، وكمصادر للمعلومات.
- دعم الاحتلال الإسرائيلي لأراضي فلسطينية والسكوت عن المجازر ضد الشعب الفلسطيني، وهدم بيوتهم وبناء مستوطنات فوق أراضيهم.
- تضخيم الاختلاف المذهبي والعرقي بين المسلمين وتوظيفه لخلق نزاعات وحروب بين الأشقاء في الوطن الواحد.
الدول الغربية ليست سمن على عسل!
بالطبع المسألة نسبية فيما ذُكر أعلاه، فلا يعني أن الدول الغربية على قلب رجل واحد ولكن تكتيكهم السياسي يتعاطى بنفعية ودبلوماسيتهم ترقى لمستوى المسؤولية لخدمة أوطانهم. وهي تتحد فقط ضد الإسلام ومصالح المسلمين. وحتى نكون منصفين اللوم الأكبر يقع على شعوبنا التي لم تتنفس الصعداء، نتيجة الاستبداد من حكامها، لتساهم في بناء دولها. فعندما تطمئن الدول الغربية على انشغال المسلمين ببعضهم، تظهر مناكدات، وحروب على أراضينا، نتيجة خلافاتهم المذهبية والتي هي بعدد اناجيلهم، بل وأعراقهم الأنجلوسكسونية واللاتينية إضافة إلى تعصبهم اللغوي وغيرتهم من هيمنة اللغة الإنجليزية.
مأساة شعوبنا الإسلامية:
بلعت شعوبنا الإسلامية طعم أن الدول الغربية تقف إلى جانب الشعوب المناصرة للحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان. فمع تثبيت الطغاة كحكام لشعوبنا فتحت ذراعيها ليهرع عندها شبابنا الحر والمناصر لحقوق الإنسان ليكونوا تحت السيطرة والمراقبة. فمن خلال الأنظمة المستبدة هرب المتميزين من العلماء والأكاديميين بعد أن صرفت لهم من أموالهم منح دراسية. زد على ذلك فتح المجال لتهريب رؤوس الأموال لتستقر بالدول الغربية وتستثمر في تنمية شعوبها. بلعت شعوبنا طعم الدول الغربية ربما بسبب قلة خبرة ومعرفة شعوبنا الاسلامية بالدول الغربية، التي منحتها ثقتها ظناً منها أنها صادقة في ادعائها بدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ووصل حد الاستغلال أنه بأموالنا وعقولنا كمسلمين نقوي لهم اقتصادهم ونطور لهم صناعاتهم على مختلف الصعد، بما في ذلك أسلحتهم التي يدمرون بها بلداننا.
تركيا نموذج يحتذى به:
قد تكون تركيا من الدول التي استطاعت أن تواكب الحياة المعاصرة وتستوعب الدرس بعد أن حاولت أن تواكب وتجاري التطور الذي تعيشه الأمة الإنسانية. فربما ما اكتسبته تركيا من حداثية متطرفة احياناً، مع بداية القرن التاسع عشر، رسخها مصطفى كمال أتاتورك بمقولته: “إن الأمة التي لا يمارس فيها العلم ليس لها مكان في الطريق العالي من الحضارة”، مبالغة اتاتورك في الحداثة بالتمسك بالقبعة ورفع الآذان باللغة التركية والتمسك بتتريك لغة القرآن، وغيرها. وما فرضته بريطانيا وفرنسا وهولندا من سيطرة على اقتصادها بعد توقيع معاهدة لوزان (2) بإنشاء المصرف المركزي العثماني بلندن وارتهان اقتصاد تركيا كلياً للتخطيط البريطاني المالك للحصة الأكبر. العلاقة المعادية للإسلام كانت مصدراً وملهماً لظهور حركات تصحيحية محافظة تمسكت بلغتها التركية، وبدون تطرف، بهويتها الإسلامية وبتاريخها الإسلامي كإمبراطورية لعدة قرون. ولأنها ديمقراطية محافظة تسعى إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي.
ويستمر الكيد لتركيا وأردوغان يقاوم بتركيا:
تنصب فخاخ الدول الغربية لتركيا، وبغض النظر من هي تلك الدولة، لكن ما تسعى إليه جاهدة هو إفشال المشروع النهضوي الحداثي الذي يتبناه حزب العدالة والتنمية الذي تأسس في 2001 وهو امتداد لحزب الفضيلة 1998.. فالعدالة هي الطريق للتنمية، والتنمية تعني الاستقلالية عن مخططات الدول الغربية، وهذا يعني للغرب الحرب على الإسلام قبل المسلمين، والعمل على استمرار تقوية إسرائيل واضعاف الفلسطينيين. مما يتطلب من الدول الغربية إضعاف تركيا والعمل على:
- استبعاد تركيا، التي عضو في الناتو ومشاركة بأكبر ثاني جيش بعد أمريكا، من تجمع مصنعي طائرات أف-35 بعد شرائها لمنظومة الدفاع الروسية أس 400، ورفض أمريكا حصول تركيا على 100 طائرة منها.
- تدخل 9 دول أعضاء في حلف الناتو: أمريكا، وفرنسا، وكندا، والمانيا، والسويد، وهولندا، والدانمرك، والنرويج، وفنلندا، التدخل في محاكمة رجل الأعمال عثمان كافلا. والذي هو يوناني الأصل مسيحي وقد هبت الدول المسيحية لنجدته.
إلا أن أردوغان، ومن خلال حزب العدالة والتنمية، يعمل جاهداً لتفكيك مفخخات الدول الغربية وأخرها كان انقلاب أوغلو في 2016 الذي تحضنه أمريكا عندها. ويعمل أردوغان على الدفع بتركيا واقتصادها بما يحررها من التبعية الغربية. واليوم يطفو على المشهد السيد عثمان كافالا المولود بباريس والحاصل على ماجستير في الاقتصاد من جامعة مانشستر. وهو الذي سجنته السلطات التركية في 2013 وأفرجت عنه بعد تبرئة القضاء التركي له هو وثمانية آخرين، إلا أنه بعد تورطه في معاونة فتح الله أوغلو في انقلاب 2016 فأسفر ذلك عن سجنه لتاريخ اليوم. هذا الرجل اتخذ من العمل الخيري ضمن “مؤسسة ثقافة الأناضول” واجهة له وبعد اكتشاف أردوغان بأن هناك ضغط قد مورس على القضاء التركي لتبرئة كافالا لذلك طلب المدعي العام فتح تحقيق ولوح بالتهديد بطرد الدبلوماسيين لعشرة دول غربية مسيحية.
تركيا قوية اليوم بحزم السيد أردوغان وشعبية حزب العدالة والتنمية الذي ألتف حول غالبية الشعب ونجح في صياغة رؤيا اعتمدت على الأتي:
- الانفتاح على العالم وتبنى الحوار والتسامح مع الجميع واحترم الحريات الفكرية والدينية والمذهبية.
- يوافق على النظام العلماني الذي أسس أتاتورك ولا يعارضه.
- بالرغم من عدم الرضى لبعض الجوانب يوافق على سياسات صندوق النقد الدولي ويسعى لتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي.
- صيانة التنوع بتركيا سواء كان دينياً أو لغوياً أو عرقياً.
- تستمر الدبلوماسية التركية في التعاطي مع دول تكشف لها أجهزتها الاستخباراتية عن عملاء عرب يعملون لصالح الموساد الإسرائيلي ولا تقطع علاقتها مع إسرائيل، كذلك تكتشف تركيا تدخل دبلوماسيين لعشرة دول غربية لتبرأة السيد عثمان المتهم بضلوعه في انقلاب 2016 فتطردهم، استنداً لاتفاقية فيينا مادة (41)، ولا تقطع علاقتها مع دولهم.
الدروس المستفاد:
يمكن تلخيص الدروس المستفادة في النقاط التالية:
- البنك العثماني المركزي ومن بعده البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أدوات سيطرة استعمارية لذا يجب التعامل معهم بحنكة، وروية، وذكاء. ومع أن تركيا كانت قد وقعت في الشرك إلا أنها تسعى للتحرر منه بتقوية اقتصادها وتشجيع مصانعها على الإنتاج والتصدير، وقد اشترت البنك العثماني مجموعة مالية تركية في عام 1996، وبعدها بعامين تأسس حزب الفضيلة وبعد حظره في 2001 كان حزب العدالة والتنمية في نفس السنة.
- تتطلب الدبلوماسية فتح قنوات تواصل وعلاقات دولية مع معظم الدول الفاعلة، ومع التمسك بوحدة البلاد وسلامتها من التفكك يجب الحزم وعدم الانجرار لأي ردة فعل عاطفية. والتمسك بالحق والقانون الذي أجبر جميع السفارات بإصدار بيان تعلن فيه تمسكها باتفاقية فيينا وتراجعها عن البيان الصادر في 18 أكتوبر بشأن عثمان كافالا.
- دور الاستخبارات مهم جداً في توفير المعلومات الدقيقة والصحيحة لصاحب القرار بحيث يكون القرار حازم ونهائي، كما حصل مع قرار السيد أردوغان مما استدعى اعتذار تلك الدول. لذلك قال وبكل ثقة: “أنا في موقف هجومي ولا يوجد في قاموسي كلمة تراجع أبداً”.
- بالرغم من أن الإعلام التركي ليس بالمستوى المطلوب، لكن حضور تركيا ومشاركتها على الأرض ضمن فضائها الإقليمي الملتهب وصولاً إلى أفغانستان شرقاً وليبيا غرباً، هو أصدق من يتكلم عنها ويُعرف بها لباقي دول العالم الإسلامي قبل العالم الغربي والأسيوي.
- بالتأكيد لموقعها الجغرافي الفاصل بين أوروبا، وأسيا، وروسيا يمنح تركيا ودبلوماسية أردوغان بالضغط على، بل ووقف، شبق الدول الغربية للسيطرة على الموارد الطبيعية، وسلب إرادة الشعوب المسلمة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً