في زمن تأسيس الدولة الليبية، وبعد إنهيار هيكلية نظام الحكم السابق، وعدم وجود دستور دائم، يتلمس الليبيون طريقهم نحو بناء الدولة الحديثة، وتتوارد الأراء والأفكار وتتصادم أمواجها، حرصاً وصدقاً تارةً ورغبة في التأسيس المصلحي الفئوي تارة أخرى، ولا ضير في طرح الأراء ومناقشتها بلا فرض أو تعنٌت. مما لا شك فيه أن قراءة تجارب الحكم الليبية منذ الإستقلال، وتجارب دول الشرق الأوسط المشابهة، على درجة كبيرة من الأهمية لوضع وتطوير نظام الحكم الليبي القادم.
ما يثير القلق خلال السنوات الخمسة الماضية، أنه رغم إتفاق الليبيون على أهمية سلوك النهج الديموقراطي وتعزيز مبداء الحرية والعدالة والمساواة؛ ترسيخا للمواطنة الفعالة، إلا أن الكثير من السياسيين والمثقفين قد إنساقوا نحو سُبل بعيدة عن المبادئ السابقة، وأصبحوا حجر عثرة أمام بناء المؤسسات على أسس سليمة.
من الظواهر التي يمقتها الجميع علناً ويؤيدها الكثيرين سراً مبداء المحاصصة في توزيع حقائب الوزارات، وتقلٌد الإدارات العليا العامة، هذه الظاهرة ماثلة في جميع الحكومات السابقة بدعوى (التمثيل الجغرافي) لكل مناطق الدولة الليبية في الحكومة، وكان ذلك سبيلاً للتنازل عن الكفاءة، وخضوعاً للمطالب الجهوية والقبلية. الأخطر من ذلك أن تصبح المحاصصة من الدعائم الثابتة للحكومات الليبية المتعاقبة، وهو مأفسد الحياة السياسية في ليبيا، وأوجد مسئولون ليس لهم دراية بإدارة دفة الدولة. المحاصصة تكون سليمة وعلى أسس صحيحة في الدول الديموقراطية عندما لا يوجد حزب فائز في الإنتخابات بالأغلبية التي تؤهله لتشكيل حكومة، فيكون إتلاف أو تكتل حاكم يتم توزيع الحقائب الوزارية بينهم بالتفاوض.
المحاصصة كانت نذر شؤم عند الكثير من الدول السائرة في الطريق الديموقراطي، فالمحاصصة الأكثر وضوحا في دول الشرق الوسط هما؛ لبنان والعراق. لبنان بني نظامها السياسي منذ إستقلالها سنة 1943 م على المحاصصة الطائفية بسبب وجود طوائف كثيرة بها، ورغم المحاصصة المعلنة في الدستور، وهامش الحرية الكبير، إلا أنها عانت كثيرا من الإغتيالات والحروب ووجود جيوش طائفية، وفساد إداري ومالي كبير، مما أدى بأهلها إلى هجرها إلى دول كثيرة بداية من غرب أفريقيا إلى أمريكا الجنوبية، فأصبحت دولة تعصفها القلاقل والحروب والتفجير الذي لا ينتهي.
المثل الثاني جمهورية العراق، الدولة النفطية ذات النهرين والتاريخ العريق، فدستورها مدني (ظاهرياً) في تكوينه، إلا أن الدولة تعاني من المحاصصة الطائفية على نطاق واسع منذ سنة 2003م، فكان التسابق على إهدار مقدرات الأمة والتسابق على الفساد الإداري والمالي بين مكوناتها، وبين هذا وذاك أنشئت المجموعات المسلحة وتم دعمها بالمال الفاسد، ودخلت الدولة نفقاً رديئا لم تخرج منه بعد.
نظام المحاصصة في كلتا الدولتين العراق ولبنان جعل البلاد ساحة حرب لقوى خارجية بأيدي وطنية، وأوجد كثل سياسية متناحرة تابعة للخارج، مما أضاع المصلحة الوطنية، ولم يعد هناك أمل في بناء رأي عام جامع حتى على أبسط الأمور مثل إنتخاب رئيس الجمهورية في لبنان أو محاربة داعش في العراق، فدخول داعش إلى الموصل كان بأيدي حكومية عراقية، ومحابته بإتلاف دولي مسلح كبير.
في العهد الملكي كانت المحاصصة الوزارية بين العائلات الكبيرة التي كان لها دور قبل إستقلال ليبيا، أو الذين عادوا من المهجر كطبقة متعلمة في دولة تنتشر فيها الأمية إلى حد كبير، وبهذه المحاصصة إنتشر الفساد في مجالات كثيرة منها عقود شركات النفط والرشوة والمحسوبية، وتم إستبدال الحكومات لفترات قصيرة، حتى أن غلاف مجلة ليبيا الحديثة في نهاية الستينات كانت تحمل صورة لرئيس وزراء جديد يحمل كيسا فارغا تحث إبطه، ورئيس الوزراء المغادر يحمل كيس مملؤا فوق ظهره.
المحاصصة في عهد القذافي كانت مبرمجة، بخلق زعامات قبلية جديدة أساسها الولاء للقيادة، من جميع مناطق ليبيا، ثم تحريكها وإدارتها تبعا لإحتياجاتها، وقد تُطمس هذه الشخصيات لسنوات عديدة ثم يعاد تلميعها من جديد. وفساد الوزراء في هذه المرحلة كان مقنناً، إلا أن فساد الدولة كبير ولا حدود له، ويدخل في فساد الدولة تمويل المخربين والحروب والحركات الإنفصالية والصفقات المشبوهة، ويدير هذا المجال حفنة من المقربين من أهل الولاء لقيادة الدولة.
المحاصصة في ليبيا حاليا لا تقل خطرا على الدولة الليبية من مثيلاتها، فهي التي أوجدت لجنة دستور أعرج لم ولن تنجز دستوراً بوضعها الحالي، و المحاصصة جعلت السفارات الليبية أوكارا للعاطلين عن العمل من بعض القرى وممن لا يحسن كتابة إسمه، يتقاضون ملايين الدولارات من خزينة الدولة المشرفة على الإفلاس، بل تسببت في قتال شرس بين الفرقاء كما حدث في السفارة الليبية بمصر وروما ومالطا، والمحاصصة فتحت الباب للتدخل الأجنبي لقصف المدن الليبية، والمحاصصة، كانت الدرع الواقي للإنتهازيين ممن أغلقوا الحقول النفطية وأوصلوا الدولة إلى حافة الإفلاس. والمحاصصة تعمل على بناء إنتماءات قبلية وجهوية تمنع الوصول إلى رأي عام جامع، وتشجع على الفساد المالي والإداري لوجود حصانة إجتماعية تحول دون المسائلة.
من أجل ذلك يرنوا معظم الليبيون إلى تشكيل حكومة وطنية والتي تعني: إتفاق القوى السياسية على تشكيل حكومة تقوم بالسياسات التي تم الإتفاق عليها بين مجلس النواب والمؤتمر الوطني، وتكون حكومةكفاءات، والكلمة الأخيرة (كفاءات) تختصر المقال، فلن نجد وزيراً للثقافة يقوم بمعالجة الإقتتال القبلي أو الجهوي، ووزير الدفاع لا يحرك ببنت شفه، ولا طبيباً مكلفاً مسوفاً غارقا في فهم الخروقات الأمنية، ولا وزيراً للطاقة منغمساً في المصالحة الوطنية، ونصف البلاد في ظلام دامس لساعات طويلة.
عندما تنتهي المحاصصة تناط المسئولية تبعاً للكفاءة، فينتهي الفساد بأنواعه، عندها تضع الدولة الليبية خطواتها الأولى نحو مجمع النزاهة والشفافية والتنمية وهو السبيل إلى الرفاهية العامة.
ملاحظة: هذه الصورة من موقع البشائر تعبر عن المحاصصة بجلاء، مع تغيير ليبيا مكان العراق.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً