عندما بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة قام في النَّاس خطيباً، فأعلن عن منهجه السِّياسيِّ مبيِّناً: أنَّه سيتقيَّد بالكتاب، والسُّنَّة، وسيرة الشَّيخين، كما أشار في خطبته إلى أنَّه سيسوس النَّاس بالحلم، والحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود، ثمَّ حذَّرهم من الرُّكون إلى الدُّنيا، والافتتان بحطامها خوفاً من التَّنافس، والتَّباغض، والتَّحاسد بينهم، ممَّا يفضي بالأمَّة إلى الفرقة، والخلاف، وكأنَّ عثمان رضي الله عنه ينظر وراء الحجب ببصيرته النَّفَّاذة إلى ما سيحدث في هذه الأمَّة من الفتن بسبب الأهواء، وتهالك النَّاس بعدما بويع فقال:
«أمَّا بعد: فإنِّي كلِّفت، وقد قبلت، ألا وإنِّي متَّبعٌ، ولست بمبتدعٍ، ألا وإنَّ لكم عليَّ بعد كتاب الله، وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: اتِّباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه، وسننتم، وسنَّ أهل الخير فيما تسنُّوا عن ملأ، والكفَّ عنكم إلا فيما استوجبتم العقوبة، وإن الدُّنيا خضرةٌ وقد شهيت إلى النَّاس ومال إليها كثيرٌ منهم، فلا تركنوا إلى الدُّنيا ولا تثقوا بها، فإنَّها ليست بثقةٍ، واعلموا أنَّها غير تاركةٍ إلا من تركها».
المرجعيَّة العليا للدَّولة:
أعلن ذو النُّورين: أنَّ مرجعيته العليا لدولته كتاب الله، وسنَّة رسوله، والاقتداء بالشَّيخين في هديهم، فقد قال: ألا وإنِّي متَّبعٌ، ولست بمبتدعٍ، ألا وإنَّ لكم عليَّ بعد كتاب الله، وسنَّة نبيِّه ثلاثاً: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه، وسننتم.
1ـ فالمصدر الأول هو كتاب الله. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا *} [ النساء : 105 ].
فكتاب الله تعالى يشتمل على جميع الأحكام الشَّرعية الّتي تتعلَّق بشؤون الحياة، كما يتضمَّن مبادىء أساسيَّةً، وأحكاماً قاطعةً لإصلاح كلِّ شعبةٍ من شعب الحياة، كما بيَّن القرآن الكريم للمسلمين كلَّ ما يحتاجون إليه من أسسٍ تقوم عليها دولتهم.
2ـ المصدر الثَّاني: السنَّة المطهَّرة الّتي يستمدُّ منها الدُّستور الإسلاميُّ أصوله، ومن خلالها يمكن معرفة الصِّيغ التَّنفيذيَّة ، والتطبيقيَّة لأحكام القرآن.
3ـ الاقتداء بالشَّيخين:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللَّذين من بعدي: أبي بكرٍ ، وعمر».
إنَّ دولة ذي النُّورين خضعت للشَّريعة، وأصبحت سيادة الشَّريعة الإسلاميَّة فيها فوق كلِّ تشريع وفوق كلِّ قانونِ، وأعطت لنا صورةً مضيئةً مشرِّفةً على أنَّ الدَّولة الإسلاميَّة دولة شريعة، خاضعةً بكلِّ أجهزتها لأحكام هذه الشَّريعة، والحاكم فيها مقيَّد بأحكامها، لا يتقدَّم، ولا يتأخَّر عنها، ففي دولة ذي النُّورين، وفي مجتمع الصَّحابة، الشَّريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم، والمحكوم، وطاعة الخليفة مقيَّدةٌ بطاعته لله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في المعصية، إنَّما الطَّاعة في المعروف»، وهيمنة الشَّريعة على الدَّولة من خصائص الخلافة الرَّاشدة، فحكومة الخلافة الرَّاشدة تتميَّز عن الحكومات الأخرى بعدَّة خصائص، منها:
* أنَّ اختصاصات الحكومة (الخليفة) عامَّة؛ أي: تقوم على التَّكامل بين الشُّؤون الدُّنيويَّة، والدِّينيَّة.
* أنَّ حكومة الخلافة ملزمةٌ بتنفيذ أحكام الشَّريعة.
* أنَّ الخلافة تقوم على وحدة العالم الإسلاميِّ.
حقُّ الأمَّة في محاكمة الخليفة:
الأمـر الّذي لا شـك فيـه: أنَّ سلطـة الخليفـة ليسـت مطلقـةً ، وإنَّمـا هي مقيدةٌ بقيدين:
1 ـ ألا يخالف نصّاً صريحاً ورد في القرآن الكريم والسُّنَّة، وأن يكون الإجراء الّذي يتَّخذه متَّفقاً فضلاً عن ذلك مع روح الشَّريعة، ومقاصدها.
2 ـ ألا يخالف ما اتَّفقت عليه الأمَّة الإسلاميَّة، أو يخرج على إرادتها.
وأساس ذلك: أنَّ الخليفة نائبٌ عن الأمَّة، منها يستمدُّ سلطانه، ويرجع إليها في تحديد هذا السُّلطان، ومداه، فالأمَّة تستطيع في كلِّ وقت أن توسع من هذا السُّلطان، وأن تضيِّق منه، أو تقيِّده بقيودٍ كلَّما رأت في ذلك مصلحةً، أو ضماناً لحسن القيام على أمر الله، ومصلحة الأمَّة، ويكون ذلك من خلال مجلس شورى الأمَّة، وقد أكَّد عثمان رضي الله عنه حقَّ الأمَّة في محاسبة الخليفة في قوله: إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد؛ فضعوا رجلي في القيد.
وحينما أخذت طائفةٌ عليه بعض أخطاء ـ في زعمها ـ في تصريفه لشؤون الحكم، وإسناد وظائفه، وتظاهرت عليه جموعٌ منهم لمحاسبته على أعماله، فأذعن رضوان الله عليه لرغبتهم، ولم ينكر عليهم هذا الحقَّ، وأبدى استعداداً كريماً لإصلاح ما عسى أن يكون أخطأه التَّوفيق في إبرامه.
الشُّورى:
إنَّ من قواعد الدَّولة الإسلاميَّة حتميَّة تشاور قادة الدَّولة وحكَّامها مع المسلمين والنُّزول على رضاهم، ورأيهم، وإمضاء نظام الحكم بالشُّورى، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ *} [ آل عمران : 159 ].
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *} [الشورى: 38]. وقد اتَّخذ عثمان رضي الله عنه في دولته مجلساً للشُّورى يتألَّف من كبار أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، وقد طلب عثمان رضي الله عنه من العمَّال، والقادة قائلاً: أمَّا بعد: فقوموا على ما فارقتم عليه عمر، ولا تبدِّلوا، ومهما أشكل عليكم؛ فردُّوه إلينا نجمع عليه الأمَّة، ثم نردُّه عليكم، فأخذ قادته بذلك، فكانوا إذا همُّوا بالغزو، والتقدُّم في الفتوحات الإسلاميَّة؛ استأذنوه، واستشاروه، فيقوم هو بدوره بجمع الصَّحابة، واستشارتهم للإعداد، والإقرار، والتَّنفيذ، ووضع الخطط المناسبة لذلك، ومن ثمَّ يأذن لهم، فقد قام عبد الله بن أبي سرح، بالكتابة إلى الخليفة عثمان رضي الله عنه طالباً منه أن يأذن له بأن يغزو أطراف إفريقيَّة، وذلك لقرب جزر الرُّوم من المسلمين، فأجابه الخليفة عثمان إلى ذلك بعد المشورة، وندب إليه النَّاس، كما أنَّ معاوية بن أبي سفيان حين أراد فتح جزيرة قبرص، ورودس؛ فعل الشَّيء نفسه في استشارة القيادة العليا المركزيَّة، وطلب الإذن بالسَّماح له، ولم يأته الجواب إلا بعد انعقاد مجلس الشُّورى، وبحثه في الموضوع، ومن ثمَّ السَّماح له.
وكان قادة الخليفة عثمان رضي الله عنه في إدارتهم للمعارك الحربية يتشاورون فيما بينهم.
كما شاور عثمان كبار الصَّحابة في جمع القرآن، وفي قتل عبيد الله بن عمر للهرمزان، وحول التَّدابير الكفيلة بقطع دابر الفتنة، وفي مقام القضاء، وغير ذلك من المواقف، والأحداث الّتي سيأتي بيانها في محلِّها بإذن الله.
العدل والمساواة:
إنَّ من أهداف الحكم الإسلاميِّ الحرص على إقامة قواعد النِّظام الإسلاميِّ الّتي تساهم في إقامة المجتمع المسلم، ومن أهمِّ هذه القواعد: العدلُ، والمساواة، فقد كتب ذو النُّورين إلى النَّاس في الأمصار، أن ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، ولا يُذِلَّ المؤمن نفسه، فإنِّي مع الضعيف على القويِّ ما دام مظلوماً إن شاء الله.
فقد كانت سياسته تقوم على العدل بأسمى صوره، فقد أقام الحدَّ على والي الكوفة الوليد بن عقبة (أخوه لأمِّه)، عندما شهد عليه الشُّهود بأنَّه شرب الخمر، وعزله عن الولاية بسبب ذلك، وسيأتي تفصيل هذه القصَّة بإذن الله، وقبوله بتولية أبي موسى الأشعريِّ مكانه؛ لأنَّ أهل الكوفة لم يوافقوا على تولية سعيد بن العاص خلفاً للوليد، وقد روي عنه أيضاً: أنَّه غضب على خادم له يوماً، فعرك أذنه، حتَّى أوجعه، ولم يستطع أن ينام ليلته آنذاك إلا بعد أن دعا خادمه إلى مضجعه، وأمره أن يقتصَّ منه، فيعرك أذنه، وقد أبى الخادم في بادئ الأمر، ولكن عثمان أمره ثانيةً في حزمٍ، فأطاعه.
الحرِّيَّات:
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسيَّة الّتي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الرَّاشدين، وقد طبق هذا المبدأ في خلافة ذي النورين، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحرِّيَّة العامَّة للنَّاس كافَّةً ضمن حدود الشَّريعة الإسلاميَّة، وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإسلام لحريَّة النَّاس، جميع النَّاس دعوةً واسعةً، وعريضةً قلَّما تشتمل على مثلها دعوةٌ في التَّاريخ، وفي عهد الخلفاء الرَّاشدين كانت الحريات العامَّة المعروفة في أيَّامنا معلومةً، ومصونةً، كحرية العقيدة الدِّينيَّة، وحريَّة التنقُّل، وحقِّ الأمن، وحرمة المسكن، وحرِّيَّة الملكيَّة، وحرية الرَّأي.
هذه أبرز القواعد والقيم السياسية التي سار عليها أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وساس بها الناس، وأدار بها الدولة الإسلامية، وكل هذه القواعد والقيم تنطلق من الشريعة الإسلامية وإليها تعود، وقد عاش المسلمون وغيرهم في نعمة هذه السياسة وتحت حكم عادل وقوي، أمن لهم حقوقهم وضمنها أمام الحاكم والمحكوم ولبى مطالبهم في عيش آمن وكريم.
المصادر والمراجع:
* علي محمد محمد الصلابي، تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، دار ابن كثير، دمشق، ط2، (2009)، ص 83:76.
* عارف أبو عيد، نظام الحكم في الإسلام، دار النفائس، الأردن، ط1، (1996)، ص 227.
* فتحي عبدالكريم، الدولة والسيادة، مكتبة وهبة، مصر، ط2، (1984)، ص 268 ، 379.
* أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالحكم، فتوح مصر وأخبارها، مكتبة المثنى، بغداد، ص 83.
* حمد محمد الصمد، نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، المؤسسة الجماعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، ص 149.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
وبعدين……!