تسببت زيارة الداعية يوسف القرضاوي، المصري المنشأ والقطري الإقامة والجنسية، في تعميق الاختلافات بين التونسيين إلى حد ما يشبه الفتنة في وقت تطالب فيه القوى الديمقراطية بـ “الوحدة الوطنية” وتدعو الحكومة إلى النأي بالبلاد عن الاستقطاب السياسي بين الإسلاميين والعلمانيين.
وأثارت زيارة القرضاوي الذي يرأس الإتحاد العالمي للعلماء المسلمين سخطا في الأوساط الحداثية والعلمانية التي رأت فيها “صك غفران لحركة النهضة” ودعما لها على حساب القوى الفكرية والسياسية المعارضة.
وبدأ الداعية المقرب من أمير قطر الشخ حمد ال ثاني بدعوة من رئيس حركة النهضة الإسلامية الحاكمة راشد الغنوشي، وسط احتجاجات عديد من الحقوقيين، ومن القوى العلمانية واليسارية التي استقبلته بشعارات تدعو إلى “رفض الفتنة بين التونسيين” وتؤكد رفضهم للاحتفاء بـ”رمز من رموز الفكر السلفي” الذي كثيرا ما تهجم على تجربة الحداثة في تونس وخاصة “مكاسب المرأة التونسية”.
وحين وطئت أقدام الشيخ تحسس أن تونس المتعددة سياسيا وفكريا تمقت دعاة الفتنة والتشدد الديني لذلك حرص على الإدلاء بتصريح في مطار قرطاج الدولي مؤكدا أنّ “تونس متجذرة في هويتها العربية الإسلامية، وهي السّبّاقة في إسقاط الأنظمة الاستبدادية، والتي سارت على منوالها بعض الشعوب العربية الأخرى”.
لكن “رسالة الطمأنة والاستمالة” اصطدمت برفض قاطع للزيارة كما اصطدمت بوعي السياسيين التونسيين الذي اعتبر زيارة القرضاوي “هي زيارة سياسية تهدف إلى حشد وتعبئة الناس لمناصرة حركة النهضة تمهيدا للانتخابات التي ستجري في ربيع 2013.
وشدد حزب العمال الشيوعي التونسي على أن “القرضاوي يزور تونس وكأنه عرّاب الثورة التونسية، والحال أنه من خبراء ومستشاري النظام القطري وقناة “الجزيرة” ملاحظا أنه “لا مكان لفكره السلفي في تونس لأنه يروّج لمفاهيم وفتاوى تجنح نحو التشدد والتزمت”.
وأضاف الشيوعي التونسي أن الشيخ القطري “متقلب في مواقفه” حيث “سبق أن امتدح الرئيس بن علي” خلال زيارته إلى تونس عام 2009 بمناسبة افتتاح تظاهرة “القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية”، و”للأسف فهو اليوم يأتي إلى تونس ليمتدح الثورة التونسية، في شخصية تبدو متقلبة مع الظروف السياسية، وهذا يدل على أنه شخصية سياسية بامتياز، و”القشرة” الدينية ما هي إلا لتسويق سياسات معينة”.
ويقول السياسيون التونسيون إن حركة النهضة تستثمر علاقاتها مع مراكز النفوذ الديني والسياسي لكسب “تأييد” دول المشرق وخاصة دول الخليج في مسعى لمساعدتها ماديا واستدرار الضخ المالي الكفيل بمساعدة الحكومة من الخروج من أزمة خانقة قد تهدد أهداف الثورة.
وقال حمة الهمامي الأمين العام للحزب الشيوعي التونسي “إن القرضاوي هو شخصية سياسية بامتياز ومثل هذه الشخصيات الدينية لا تقدم شيئًا إلى الشعب التونسي، وبالتالي فالثورة التونسية ليست في حاجة إلى مثل هذه الشخصيات المتقلبة وإلى مثل الشخصيات التي تروّج لها الفضائيات ووسائل الإعلام العربية المعروفة بنهجها السياسي العام”.
واتهم الهمامي حركة النهضة بـ “الخبث السياسي” لأنها بدأت تمهد للانتخابات القادمة من خلال دعوة عدد من “الدعاة” الذين “يشحنون قطاعات من التونسيين ضد القوى الديمقراطية والعلمانية من جهة ويستميلون مشاعرهم لتجييشها لصالح النهضة من جهة أخرى”.
ولاحظ الهمامي أن إصرار حركة النهضة على تنظيم زيارة خاصة للقرضاوي وفتح أبواب المساجد ومنابرها أمامه هو إصرار ظاهره ديني وباطنه سياسي فـ “القرضاوي يمكن أن يمثل صلة الربط بين حركة النهضة والنظام القطري، ويمكن أن يكون الأداة القادرة على لعب دور لمساعدة حكومة حركة النهضة للنهل بسهولة من منابع مال البترودولار القطري”.
وتابع “هذه الزيارة ذات دواعٍ انتخابية لمصلحة حركة النهضة، باعتبار أنها لقاءات سينظمها أنصار للقرضاوي في عدد من ولايات تونس وبمشاركة راشد الغنوشي، من أجل التمهيد للحملة الانتخابية”.
وبرأي الأوساط الديمقراطية والعلمانية فإن تونس اليوم التي تمر بمرحلة حرجة من تاريخها الوطني في أمس الحاجة إلى زيارات ناشطين حقوقيين وشخصيات ديمقراطية لها ثقلها تدافع عن أفكار وقيم تقدمية وتساهم في تأمين سلامة عملية الانتقال الديمقراطي وهي ليست بحاجة إلى الشخصيات التي تعود بالثورة إلى مفاهيم متخلفة، ولا يمكنها إلا أن تعود بالثورة إلى الوراء.
لكن مدير المكتب الإعلامي لحركة النهضة قال إن “القرضاوي من رموز التسامح والاعتدال، فهو شيخ الوسطية، الأمر الذي يجعل من زيارته لتونس بمثابة الحدث الداعم لقيم التعايش والحرية وقبول الآخر المخالف، والرجل ينأى بنفسه عن التدخل في الشأن التونسي”.
وحرص رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي شخصيا على ترتيب برنامج زيارة القرضاوي ووصفه لدى استقباله في مطار تونس قرطاج الدولي بأنه “شيخ الثوريين”.
وألقى القرضاوي خطبا في عدة مدن منها تونس العاصمة والقيروان وسوسة ونظمت له النهضة اجتماعات جماهيرية.
وخلال الكلمات التي ألقاها حاول القرضاوي التخلص من “الخطاب الوهابي” الذي تبثه قناة “الجزيرة” ليبدو وكأنه يعدل خطابه على خطاب “أخيه” راشد الغنوشي المشحون بما هو “سياسي” أكثر منه خطاب “ديني”.
إذ لم يتردد القرضاوي في القول إن “الديمقراطية ليست كفرا كما يدعي البعض بل هي التوبة ذاتها مضيفا “أن الديمقراطية التي أتت بها الثورات العربية هي ديمقراطية الله لعزة الإسلام”.
وبدا الشيخ مدافعا عن مشروع حركة النهضة الذي تسعى من خلاله إقناع التونسيين بأنها “حزب مدني ذو مرجعية دينية” وأنها تؤمن بالديمقراطية وتضمن الحريات.
ولم يقتنع الفاعلون السياسيون والنشطاء التونسيين بمثل تلك الخطب وردوا عليه في وسائل الإعلام بأنه “لا مكان لعلماء السلطان وفقهاء الناتو في تونس” بل إن الإمام الخطيب بجامع عقبة بن نافع بالقيروان رفض اعتلاء القرضاوي لمنبر الجامع.
ورفض الصحفي نزار كريشان “استغلال حركة النهضة مناخ الحرية في تونس لتدعو دعاة من الشرق يبثون أفكارا وفتاوى غريبة عن المجتمع التونسي مضيفا أن تونس اليوم في حاجة إلى النأي عمن كل ما من شأنه أن يعمق الانقسامات والاختلافات، وقد سبق لزيارات سابقة لبعض الدعاة والمشايخ أن أثارت جدلاً بين التونسيين، وساهمت في العديد من المشاكل”.
من جهته دعا الصحفي والمحلل السياسي، محمد معالي القرضاوي إلى “التقيد باحترام الثقافة السياسية والنمط المجتمعي الذي يميز تونس، وأن لا يتحول إلى طرف في الشأن التونسي، مثلما حصل في زيارات سابقة لبعض الدعاة”.
وأضاف “إن التونسيين يرفضون كل ما من شأنه أن يساهم في تغذية الاختلاف والانقسام بينهم، عبر تقسيم الشعب إلى مؤمن وكافر، فكلنا تونسيون مسلمون، ولا يمكن توظيف مثل هذه الزيارات إلى حملة دعائية أو انتخابية لطرف سياسي بعينه”.
وبحسب مصادر قيادية من حركة النهضة فإن القرضاوي سيفتتح أول مقر للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في تونس كما سيطرح على رئيس الحركة راشد الغنوشي فكرة خلافته على رأس الاتحاد.
وبرأي محللين سياسيين فإنه في حال ترأس الغنوشي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وابتعاده عن إدارة النهضة فإن الحركة ستتعمق فيها الخلافات التي بدأت تسري في مفاصلها.
ويضيف المحللون أن النهضة يشقها تياران واحد قريب من دولة قطر مقر الإتحاد تقوده القيادات الشابة مثل وزير الخارجية رفيق عبد السلام وثان قريب من المملكة العربية السعودية تقوده الصقور الأكثر تشددا وفي مقدمتهم الصادق شورو.
وفجرت زيارات الدعاة الإسلاميين من المشرق العربي جدلا سياسيا حادا حول دعمهم لحركة النهضة.
وكانت زيارة الداعية غنيم، قد ساهمت في تعميق حالة الاستقطاب السياسي والإيديولوجي، التي تميز المشهد السياسي في تونس منذ قيام الثورة، والتي زادت حدتها أكثر بعد فوز حزب حركة النهضة بانتخابات المجلس التأسيسي.
اترك تعليقاً