من مقاصد القرآن الكريم تقرير حقوق الإنسان، فحقوق الإنسان في الإسلام ليستْ منحةً من ملك، أو حاكم، أو قراراً صادراً عن سلطة محلية أو منظمة دولية، وإنّما هي حقوقٌ ملزمةٌ بحكمِ مصدرها الإلهي لا تقبل الحذفَ ولا النسخ ولا التعطيل، ولا يُسمحُ بالاعتداء عليها، ولا يجوزُ التنازل عنها، ومن هذه الحقوق:
1ـ حقُّ الحياة:
حياة الإنسان مقدَّسةٌ، لا يجوز لأحدٍ أن يعتدي عليها، قال تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
ولا تُسْلَبُ هذه القدسية إلا بسلطانِ الشريعةِ، وبالإجراءات التي تقرُّها، وكيانُ الإنسان المادي والمعنوي حِمًى تحميه الشريعة في حياته وبعد مماته، ومن حقه الترفُّق والتكريم في التعامل مع جثمانه.
2 ـ حقُّ الحرية:
حرية الإنسان مقدسةٌ -كحياته سواء -وهي الصفةُ الطبيعيةُ الأولى التي بها يولد الإنسان، ويجب توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد، ولا يجوزُ تقييدُها أو الحدُ منها إلا بسلطان الشريعة، وبالإجراءات التي تقرّها، ولا يجوزُ لشعب أن يعتدي على حرية شعب آخر، وللشعب المعتدَى عليه أن يردّ العدوان، ويستردَ حريته بكلّ السبل الممكنة،
قال تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: 41].
وعلى المجتمع الدوليّ مساندة كلِّ شعب يجاهد من أجل حريته، ويتحمل المسلمون في هذا واجباً، ولا ترخّص فيه، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الحج: 41].
3 ـ حقُّ المساواة:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. فالناسُ جميعاً سواسية أمام الشريعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا فضلَ لعربيٍّ على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى» ولا تمايز بين الأفراد في تطبيقها عليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمّدٍ سرقت لقطعتُ يدها» .
والناس كلهم في القيمة الإنسانية سواءٌ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم لآدم، وآدم من تراب» .
وإنما يتفاضلون بحسب عملهم، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأحقاف: 19]
وكلُّ فكر، وكلُّ تشريع، وكل وضع يسوّغُ التفرقةَ بين الأفراد على أساس الجنس، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الدين، هو مصادرةٌ مباشرةٌ لهذا المبدأ الإسلامي العام.
ولكل فرد حقٌّ في الانتفاع بالموارد المادية للمجتمع من خلال فرصة عمل متكافئة لفرص غيره، قال تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15]، ولا يجوز التفرقة بين الأفراد كمَّاً وكيفاً، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].
4 ـ حقُّ العدالة:
من حق كلِّ فردٍ أن يتحاكم إلى الشريعة، وأن يتحاكم إليها دون سواها، قال تعالى:﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59].
وقال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: 49].
ومن حقِّ الفرد أن يدفع عن نفسه ما يلحقه من ظلم، قال تعالى:﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ [النساء: 148]، ومن واجبه أن يدفع الظلم عن غيره بما يملك.
ومن حق الفرد أن يلجأَ إلى سلطةٍ شرعيةٍ تحميه وتنصفه وتدفع عنه، ما لحقه من ضرر أو ظلم، وعلى الحاكم المسلم أن يقيمَ هذه السلطة، ويوفّر لها الضمانات الكفيلة بحيدتها واستقلالها.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58]. وقال تعالى:﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26].
5 ـ حقُّ الفرد في محاكمة عادلة:
البراءةُ هي الأصل، وهو مستصحَبٌ ومستمرٌّ حتى مع اتّهام الشخص ما لم تثبتْ إدانتُه أمامَ محكمةٍ عادلةٍ إدانةً نهائيةً، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15].
ولا يحكم بتجريم شخص، ولا يعاقب على جرم إلاّ بعد ثبوت ارتكابه له بأدلة لا تقبل المراجعة أمام محكمة ذات طبيعة قضائية كاملة، قال تعالى: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: 28].
ولا يجوز بحال تجاوزُ العقوبةِ التي قدَّرتها الشريعةُ للجريمةِ، قال تعالى:﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: 229].
ولا يؤخذُ إنسانٌ بجريرةِ غيره، قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء: 15]، وكل إنسان مستقل بمسؤوليته عن أفعاله، قال تعالى:﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور: 21] .
ولا يجوزُ بحال أن تمتدَّ المسألةُ إلى ذويه من أهلٍ وأقاربٍ أو أتباعٍ وأصدقاءٍ، قال تعالى: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾ [يوسف: 79].
6 ـ حقُّ الحماية من تعسف السلطة:
لكل فردٍ الحق في حمايته من تعسف السلطات معه، ولا يجوزُ مطالبته بتقديم تفسيرٍ لعمل من أعماله، أو وضعٍ من أوضاعه، ولا توجيهُ اتهام له إلا بناءً على قرائنَ قوية تدل على تورطه فيما يوجه إليه، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58].
7 ـ حقُّ الفرد في حماية عرضه وسمعته:
قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ [الحجرات: 11] .
عِرضُ الفرد وسمعته حرمةٌ لا يجوزُ انتهاكها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرامٌ كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» .
ويحرم تتبع عوراته، ومحاولة النيل من شخصيته، وكيانه الأدبي، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].
8 ـ حقُّ اللجوء:
من حقِّ كلِّ مسلم مضطهَدٍ أو مظلومٍ أن يلجأ إلى حيثُ يأمن، في نطاق دار الإسلام، وهو حقٌّ يكفُلُه الإسلامُ لكلِّ مضطهَدٍ، أيَّاً كانت جنسيته، أو عقيدته، أو لونه، ويتحمُّل المسلمون واجب توفير الأمن له متى لجأ إليهم.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة: 6].
وبيتُ الله الحرام ـ بمكة المشرفة ـ هو مثابةٌ وأمنٌ للناس جميعاً، لا يُصَدُّ عنه مسلم،
قال تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: 97]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [البقرة: 125].
9 ـ حقوق الأقليات:
الأوضاع الدينية للأقليات يحكمُها المبدأُ القرآني العام، قال تعالى:﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256].
والأوضاع المدنيةُ والأحوال الشخصية للأقليات، تحكمُها شريعةُ الإسلام إن هم تحاكموا إلينا، قال تعالى: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: 42]، فإن لم يتحاكموا إلينا كان عليهم أن يتحاكموا إلى شرائعهم ما دامت تنتمي
– عندهم -لأصل إلهي: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [المائدة: 43]. وقال تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾ [المائدة: 47].
10 ـ حق المشاركة في الحياة العامة:
من حقِّ كل فرد في الأمة أن يعلمَ بما يجري في حياتها، من شؤون تتصل بالمصلحة العامة للجماعة، وعليه أن يُسْهِمَ فيها بقدر ما تسمح له قدرته ومواهبه إعمالاً لمبدأ الشورى، قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38]، وكل فرد في الأمة أهلٌ لتولي المناصب، والوظائف العامة، متى توافرت فيه شرائطهـا الشرعية، ولا تسقط هذه الأهليةُ أو تنقصُ تحت أيِّ اعتبار عنصري أو طبقي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمونَ تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم».
والشورى أساسُ العلاقة بين الحاكم والأمة، ومن حق الأمة أن تختار حكّامها بإرادتها الحرة، تطبيقاً لهذا المبدأ، ولها الحقُّ في محاسبتهم وفي عزلهم إذا حادوا عن الشريعة، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «إنِّي ولِّيتُ عليكم، ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني وإنْ أسأتُ فقوّموني، الصدقُ أمانةٌ، والكذبُ خيانةٌ… أطيعوني ما أطعتُ اللهَ ورسولَه، فإذا عصيتُ اللهَ ورسولَه، فلا طاعة لي عليكم».
هذه بعض الحقوق التي قررها القرآن للإنسان ولا نقول أعلنها، إذ كان الأمر أكبر من إعلان، إنّه بلاغ من رب الناس للناس، أُسِّست عليه عقيدةٌ، ونهضت على أساسه ثقافة وتربية، وبُنيَ عليه فقه وتشريع، وقامت عليه دولة وأمة، وامتدت به حضارة وتاريخ.
المصادر والمراجع:
١. علي محمد الصلابي، سلسلة أركان الإيمان: الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية، 102:98.
٢. محمد الغزالي: حقوق الإنسان، ص 176.
٣. عبد العزيز الحميدي: التاريخ الإسلامي، 9/28.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً