ربما مبعوث الأمم المتحدة الحالي إلى ليبيا أكثر جراءة من سابقيه في تشخيص المشكلة والتلميح إلى مكامن الداء في بناء مؤسسات الدولة وأولها الإتفاق على تعديل الإتفاق السياسي، ففي وضع الخطة أوجد منافذ له لإستعمالها عندما لا يكون هناك توافق على تعديل الإتفاق وهو المؤتمر الوطني الذي لا يعلم أكثر الليبيين عن كيفية إنعقادة وما هي الأطراف التي سيتم دعوتها ولا الهدف من المؤتمر. الأمر الثاني أن هذا المبعوث حصر المشكلة في لجنة مجلس النواب التي ما فتأت من الحلف (بالطلاق) في كل مرة قربت لجنة التعديل للوصول إلى توافق حتى قال أن هذه الكلمة ” أنا أشد أكرها لهذه الكلمة”. عدم التوافق كان متوقعا مالم يتم تغيير الشخوص الفاسدة المتصدرة للمشهد الليبي، والتى سئم الشعب الليبي رؤيتها على شاشات التلفاز ولا عمل لها يذكر، ولقد عبر عنه المبعوث الأممي غسان سلامة بحزب المستفيدين المعطلين للإتفاق، الذين تصرف عليهم الدولة ما يزيد عن 350 مليون دينار سنويا كراواتب ومزايا. وحتى نكون أكثر إنصافاً أن مجلس الدولة لم يعارض الإتفاق ولم يضع شروط ولم يتبنى تغيير بنود الإتفاق، والأكثر من ذلك أنه موافق على الذهاب إلى إنتخابات مبكرة، وأنه يعقد جلساته بصورة مستمرة رغم أنها لا أهمية كبيرة لها وأنه متجانس، في حين أن مجلس النواب على النقيض من ذلك جميعا.
فالفساد السياسي منبع لكل أنواع الفساد، والذي يختلف جذريا عن الفساد المالي أو الإداري فهو الكل وغيره فروع، ففي الفساد المالي الذي يمارسه موظف الجوزات أو المصرف كالرشوة والاختلاس، يقوم بذلك موظف أو عدد من الموظفين في كل مره، والحال نفسه ينطبق على الفساد الإداري.
في حين أن الجهات الممارسة للفساد السياسي في ليبيا جلها من نواب الشعب الذين سيطرت عليهم نزواتهم الشخصية والجهوية، ففي عهد المؤتمر الوطني وضع الفاسدون مرتبات لهم تقارن بنظرائهم في السويد، وأخضعوا مؤسسات الدولة لتعويضهم عن أيام هروبهم للخارج، معظمها لأسباب إقتصادية، وحاليا مجلس النواب خضع لنزوات رئيس المجلس الواقع تحت هيمنة القوات المسلحة في المنطقة الشرقية، والتي تتصارع مع مجلس الدولة من أجل إخضاع مقدرات الشعب لها، ففي هذه الحالة يتم تحشيد الحكومة المؤقته والقبائل والمجموعات المسلحة والداعمين الدوليين ورجال العهد السابق والتاريخ والجغرافيا والحقراء والاندال وأصحاب العهر الإعلامي، وتصرف عليهم ميزانية الدولة وقروض مصرفية من أجل تبني رغبات أفراد يرغبون في إحتكار المشهد الليبي لأكبر فترة ممكنة، ويتبع ذلك بقاء المنظومة الفاسدة ما بقي الصنم.
يتمثل الفساد المالي في سرقة ونهب أموال الدولة، فيستنزف الفاسدون أمواله من خلال السرقة والنهب للمخصات المالية أو تهريب للمواد المدعومة مثل الوقود أو إستيراد حاويات فارغة وهي أعمال فردية، إلا أن الفساد السياسي يعني انحراف الطبقة السياسية عن القيام بواجباتها في السعي لتحقيق مصالح الوطن وجنوحها عن القيم الأخلاقية والوطنية بانغماسها في التقاتل لتحقيق مصالحهما الضيقة على حساب المصلحة العليا للبلاد، وهذا ما نراه في كل الإجتماعات السابقة لمجلس النواب ومجلس الدولة، وقبل ذلك مجلس النواب والمؤتمر الوطني، وهذا يعني أن السلطة أصبحت وسيلة لتحقيق النفوذ والثروة وليست وسيلة لإدارة الشؤون العامة للمواطنين وتوفير متطلباتهم المعيشية وتأمين متطلبات الحياة الحرة الكريمة للشعب وتحقيق الرفعة للوطن، و يعني جنوح الطبقة السياسية عن مبادئ الحكم الرشيد والذي يقوم على مبادئ توخي أفضل السبل وأكفأها وأكثرها استقامة في إدارة مقدرات الشعب وبما يحقق العدالة والمساواة بين أبناءه .
ما نراه من نزق التهافت السياسي على السلطة يشكل ظاهرة سيئة سينعكس أثرها حاليا بتأخر سبل الحل للقضية الليبية وإزياد تهاوي مؤسسات الدولة وسؤ حال المواطنين، ومستقبلا على الإنتخابات القادمة (إن كتب لها التحقيق)، سيصبح كل شئ من اجل الفوز في الانتخابات، الأموال المنهوبة وموازنة الدوله والمليشيات المسلحة والمجموعات القبلية والأشراف، ومصر والإمارات والكي جي بي وفرنسا والسي أي إي ومجمع البحوث بالرياض وشيوخ المداخلة ناهيك عن الفضائيات المجلجلة بالتخوين للآخر وصنع الزعامات الكرتونية للممولين وأصحاب المصالح، هذه هي الديموقراطية لأشباه المتعلمين في الدول المتأخرة، وبذلك تتحقق نبؤة الكثير من المفكرين الغربيين أن دولة الديموقراطية والحكم الرشيد ليست لها نخب عند المسلمين، وقد لا يحتاتجون لها.
إن ضرر الفساد السياسي يطال كل مقدرات البلاد البشرية والاقتصادية والمالية والثقافية والسياسية والدينية فالفساد السياسي الناجم من جراء اعتماد سياسات خاطئة مثل شرعنة الحرب في بنغازي والقائمين عليها، وتحويل المدن إلى ثكنات عسكرية، أو عرقلة الإتفاق السياسي، أو صنع مؤسسات موازية مثل المصرف المركزي (الذي أصبح متهما بغلق الحقول مع إبراهيم جضران) وحكومة البيضاء المتهمة بشراء العملة من السوق السوداء بأوراق لا قيمة لها، وقوات الكرامة التي عاثت في الارض فسادا أخرها المقبررة الجماعية (36 جثه في الأبيار)، بالمثل تمويل المجموعات المسلحة في الغرب الليبي من خزانة الدولة وتسليحها لتتقاتل فيما بينها، وتغلق الطرق وتتاجر بالبشر وتشارك في بيع مقدرات الشعب إلى دول الجوار بأتفه الأثمان، وسن قوانين غير مدروسة مثل رواتب غفراء البوابات التي تزيد عن مرتبات أستاذ جامعي بخبرة ثلاثين سنة، ورواتب المصرف المركزي والقضاء والذي لا قضاء له. هذه الصور من الفساد السياسي أدى بحياة أعداد هائلة من البشر جراء الحروب والاضطرابات والتصادم المجتمعي وانتهاك حقوق الإنسان والتهجير والفقر والمرض والجهل وتدني العلاج وفشل سياسات التعليم، وبذلك فإن الفساد السياسي يقوض ويبدد المقدرات الاقتصادية في البلاد من جراء نهب ثروة الشعب أو التخبط في إدارة الاقتصاد الوطني، والفساد السياسي يخرب ويشوه ثقافة الشعب ويستبدلها بثقافة منحرفة تهدد السلم الأهلي وتخلق حالة التصادم بين شرائح المجتمع وتثير الفرقة والتباغض والتطاحن بين أفراد وفئات الشعب مثل الفتوى الشهيرة بتكفير أتباع المذهب الإباضي من لجنة الأوقاف بحكومة طبرق، وإدماج المجموعات السلفية في الجيش، والفساد السياسي لا ينحصر في ممارسة أفعال الفساد إنما في خلق البيئة المثلى لاستشراء الفساد بكافة أصنافه؛ السياسي والمالي و الادراي والسلوكي وإعادة إنتاج وتفريخ الفساد.
قد لا نحتاج إلى قوانين جديدة لمكافحة الفساد المالي والإداري وإنما بتفعيل القوانين النافذه لمكافحة الجريمة الإقتصادية مثل قوانين تجريم الإعتداء على المال العام، مع نهج أساليب الشفافية في التعامل ولكن الفساد السياسي يحتاج إلى تغيير مجتمعي كبير وسلطة رابعة قوية تعملان على مراقبة المسؤلين وحث القضاء على التصدي لهم بل وتحريك الشارع لإسقاط مثل أولئك النفعيين المتحصنين بقوانين فصلت لحماتهم، فهل من وقفة جادة من الشعب لإسقاط كل الكينات الفاسدة والذهاب إلى إنتخابات مبكرة، أم أن الفساد السياسي سيبقى وإن كان عار وشنار، نعم إنه شرُ في الدنيا والنار في الآخرة لمن يتعظ.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً