قبيح بالمرء أن يحيا للذته العاجلة، وينشط ويدور- على حساب مصلحة أمته – حول مصلحته الآنية.. وقلّما يأبه أو يذكر ما يؤول إليه أمره – فيما بعد – من تقلبات الدهر، في أيامه الخافية – التي يداولها الله بين الناس، فيغني فقيرا، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، وينصر مظلوما، ويأخذ ظالما، ويذهب بدولة، ويأتي بأخرى.. – أو ما ينتظره من سوء المصير في آخرته الباقية!!
ولقد نعي القرآن الكريم على هؤلاء الذين حصروا أنفسهم في حب العاجلة، وذروا ما وراء ذلك من مآلات جِسام وتبعات ثِقال.. {إِنَّ هَؤُلاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا} (الإنسان: 27)
وما أجمل ما ذهب إليه صاحب (الظلال) في تفسير الآية الكريمة: (إن هؤلاء، القريبي المطامح والاهتمامات، الصغار المطالب والتصورات.. هؤلاء الصغار الزهيدين الذين يستغرقون في العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا. ثقيلا بتبعاته. ثقيلا بنتائجه. ثقيلا بوزنه في ميزان الحقيقة.. إن هؤلاء لا يطاعون في شيء ولا يتبعون في طريق ولا يلتقون مع المؤمنين في هدف ولا غاية، ولا يؤبه لما هم فيه من هذه العاجلة، من ثراء وسلطان ومتاع، فإنما هي العاجلة، وإنما هو المتاع القليل، وإنما هم الصغار الزهيدون)!
إن هبوط الهمة، وقصر النظر، والوقوف عند حدود الدنيا والركون إليها، كل ذلك يجعل المرء في عمي وغفلة عن آيات الله في كونه، وعن عبر الزمان في خلقه.. {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (يونس: 7-8)
والأدهى من ذلك، أن يغترّ الإنسان بإمهال الله له، ويظنُّ أنّ الجوَّ قد خلا – من الرقيب – وصفا له، فيزداد طمعه وجشعه، ويمتد طغيانه وظلمه، ويكون كما قال القائل:
يا لك من قبَرَةٍ بمَعْمَرِ … خَلاَ لَكِ الجوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أن تُنَقِّرِي … قَدْ رَحَلَ الصيادُ عنك فابْشِرِي
وَرُفِعَ الفَخُّ فمَاذَا تَحْذَرِي … لا بُدَّ من صيدك يوماً فاصْبِرِي
كذلك كان (فرعون) الذي ذهب به طغيانه وكِبره إلي أن علا في الأرض وقال: {.. مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي..} (القصص: 38)
ولما تعاظم في نفسه وادّعي الألوهية، تمادي في الاستبداد فقتل الرجال وذبّح الأبناء واستحيي النساء..، وظنّ أن الجوّ قد خلا له، وامتلك كل شيء، فذهب به الغرور وقال: {.. أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي..} (الزخرف: 51)
وغفل عما ينتظره من شر المآل وسوء المصير، وأن الذي أجرى الأنهار – التي اعتز بها واختال – سيجريها من فوقه {.. حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس: 90)
ولما كانت صحوته وقت ما حاق به من سوء المآل – الذي ما خطر بباله قط – جاء الرد القرآني: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (يونس: 91-92)
وأصبح فرعون وقومه سلفا ومثلا سيئاً، لمن جاء بعدهم.. {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلْآخِرِينَ} (الزخرف: 55- 56)
وكذلك كان (قارون) الذي آتاه الله من الكنوز والأموال، ما إن مفاتيح خزائنه لتنوء بحملها العصبة من الرجال أولي القوة، بيد أنه بغي على قومه وأفسد في الأرض، ولم يأبه لنصيحة قومه، وركن إلى ما عنده – من دون المنعم المتفضل – واغترّ وقال {.. إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي..} (القصص: 78)
ولم يعتبر بمآل الطغاة المتجبرين الذين أهلكهم الله مِن قبله من القرون، مّن هم أشد منه قوة، وأكثر جمعا، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ..} (القصص: 79)
وفي نشوة فرحته وزهوه، ابتلعته الأرض وابتلعت داره وماله وجموعه، وأصبح وما يملك في جوف الأرض، التي طالما تكبّر عليها، واختال، ونسي الكبير المتعال! {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} (القصص: 81)
ولما كان أكثر آلام البشرية الدامية، ومعاناتها القاسية – عبر التاريخ – من الحكم الفردي المتأله الذي يمثله (فرعون) ، والطغيان المالي المتوحش الذي يمثله (قارون) ، أكّد القرآن – في نهاية الحديث عنهما – تلك الحقيقة الواحدة، وهي:
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83)
وإذ قررت الآية السابقة تلك الحقيقة في الآخرة – التي جعلها الله للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا – فإن الحقيقة التي استقرت في الأرض أن (الكفار أو الطغاة – كما جاء في التفسير الواضح في مقدمة سورة القصص، بتصرف يسير – مهما كانوا علي جانب من القوة والجاه والعلم والمال فمآلهم الخسف من الله والإبادة، ولذلك ضرب الله مثلا لهذا بفرعون ذي القوة والبطش، وبقارون ذي العلم والمال، وكيف كان مآلهما.. ؟!).
ومع استقرار تلك الحقيقة – التي تزاحم الشمس في وضوحها – التي تؤكّد أن عاقبة الظلم وخيمة مظلمة، وأن عاقبة الصبر جميلة مشرقة، إلا أن الكثير من الناس عامة، ومن الطغاة والمتجبرين منهم خاصة، عن هذه الحقيقة لغافلون!، فقد غرّهم الإمهال، وظنوا أن يومهم قد خلا – من الحسيب الرقيب – لهم وصَفَا!، ونسوا أو تناسوا ما ينتظرهم من بشاعة المصير وسوء المآل …!!
ولله درّ مَن قال:
قُلْ للطغاةِ الحاكمين بأمرهم .. إمهالُ ربي ليس بالإهمال
إن كان يومُكم صحَتْ أجواؤه .. فمآلُكم – واللهِ – شرُّ مآل!!
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً