العقل الجمعي أو ما يسمى تقليديا بالرأي العام، على درجة من الأهمية للدول التي إختارت نهج الدولة المدنية كوسيلة لبناء المؤسسات والحكم الرشيد، ومنطلقات العقل الجمعي لهذه الدول، المواثيق والأعراف الأممية التي لا تتعارض مع الثوابت الوطنية العامة مثل إطلاق الحريات العامة، والتداول السلمي للسلطة، وإحترام مؤسسات الدولة، والفصل بين السلطات، فالشعوب في تلك الدول المتحضرة، تعلم جيداً حدود حقوقها وواجباتها وثوابتها الوطنية، وتتحرك في نطاقها لأجل الرقي بمستوى المواطن وبالتالي مستوى الدولة.
الرأي العام السليم يعبر عن رأيه من خلال جموع المواطنين وترفع لوائه الصحافة كسلطة رابعة، ومن خلالهما تُدعم شخصيات وحُكومات نزيهة، وتسقط أخرى فاسدة، وتُلغى برامج لا شعبية لها، وتصدر قوانين صائبة من أجلها. أما الرأي العام في دول القمع بداية من روسيا إلى جل الدول العربية فهو كسيح سقيم مُدجن، ويتم ذلك بوسائل شتى، منها تدجين الشعب بالمهايا والعطايا (في حالة الدول النفطية الغنية) أو تحويل النشطاء إلى عملاء للنظام يقمع الشعب من خلالهم إعلاميا، وقد يصمت الجميع بإستخدام الحديد والنار كما في الدول القابعة تحت نير العسكر، وفي كل حالات العقل الجمعي السقيم يستمر الفساد ونهب الثروات بلا حسيب ولا رقيب، بل ويشارك الشعب في مسلسل الفساد والنهب حتى لا تقوم للدولة قائمة.
العقل الجمعي يحتاج إلى ثوابت إستراتيجية وطنية يتفق عليها جل الشعب الليبي، وهذه لا تتغير بفعل تغير الحكومات، ولقد نوهت إلى ذلك في عدة مقالات سابقة منها http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=530914 وهذه الثوابت تمثل قاعدة الهرم للسلم الأهلي ولكتابة الدستور لاحقاً، بحيث يصونها الجميع ويدافع عنها والخارج عنها خارج عن القانون، فمن هذه الثوابت وحدة الدولة، ومدنية حكمها فلا لحكم العسكر ولا للإمارة ولا للخليفة، بل تداول سلمي للسلطة، والحريات مكفولة للجميع، والتعددية السياسية والثقافية للجميع، ومبداء المواطنة لكل الليبيين، والثروات للجميع بلا تمييز ولا تهميش. أما السياسات المتغيرة فهي تلك التي تتعلق ببرامج الحكومة مثل برامج البنية التحتية أو برامج التشغيل للشباب أو السياسة المالية والنقدية للدولة أو برامج النهوض بالتعليم والصحة.
معظم الدول المتقدمة لها دساتير تم الإستفتاء عليها، وأعراف ومواثيق غير مكتوبة رسخت في ذهنية المواطن عبر ممارسة الحقوق المدنية لسنوات طويلة، ولذا نجد ثوابت و روى متوافقة عند الملايين من مواطني الدولة الواحدة، فمثلا لو أنفقت المليارات للدعاية من أجل تبني تأسيس إمارة دينية أو تمثيل المدن سياسيا أو توزيع الثروة جغرافيا أو تعيين حاكم عسكري لمنطقة أو مدينة لن تجد لذلك صدى في أمريكا أو حتى في بولندا، ناهيك عن الديموقراطيات العريقة مثل بريطانيا وفرنسا، ولن تجد من يتظاهر معك لتأييد رئيس أو تلميع شيخ قبيلة أو قائد عسكري متقاعد جلب شتى أنواع الطيران الأجنبي للمشاركة في ماراثون الدمار والقتل والسحل بمختلف المدن الليبية.
العقل الجمعي الذي أعياه المرض يفعل كل ذلك وأكثر، فبدلا أن يكون منارة يُهتدى بها صانع القرار النزيه المحق، ورادع للمسئ الفاسد، يصبح بضاعة تباع وتشترى بأبخس الأثمان، رغم أن الكثير من التعاليم الدينية الإسلامية تدعم العقل الجمعي السليم الحكيم، فيقول الرسول الكريم ” لا تجتمع أمتي على ضلالة” ويقول “من رأى منكم منكرا فليغيره…” وكذلك ” خيركم خيركم للناس “، و”خيركم خيركم لأهله.. “.
ما يثير الإنتباه أن هذه التعاليم الإسلامية القويمة تترك جانبا ولا يسترشد بها عند الجموع، أما الطقوس التعبدية فهي الأكثر إنتشارا والأعظم تأثيرا على العقل الجمعي لليبيين خاصة، فمثلا قبل سنة 1986م لم يكن في ليبيا مصليا يتبع المذهب الحنبلي (سوى جماعة قندهار) وكان المذهب المالكي هو السائد مع المذهب الإباضي في بعض مدن الساحل وجبل نفوسة، بعد هذا التاريخ وقع النظام السابق تحث قصف وضغوط دولية جعلته يتنازل عن مقارعة نشطاء المذهب الحنبلي الذين قاموا خلال عقدين من الزمان بتحويل جموع الليبيين إلى هذا المذهب لمعظم المدن الكبرى بالساحل الليبي، فأصبح قبض اليدين، والفرجة بين القدمين، ولباس الجلباب، وتشمير الثياب، وصلات النفل عند الغروب، ومنع دعاء القنوت من الثوابت في الكثير من المساجد التي يؤمها المنتمين للمذهب السلفي وهي تصرفات شكلية شخصية، ولكن الأدهى من ذلك نبش القبور وهدم المزارات وتبديع المخالف وتكفير أهل الذمة، والتهرب من تسديد الضرائب بدعوى أن لا نص بشأنها، وتجميد حركة البنوك، ومبايعة الطغاة، وتكفير الإنتخابات ومعارضة قيام الدولة المدنية بل وتكفير من يدعوا إليها، وهذا جميعاً ساعد على شق الصفوف وإشاعة الفرقة بين المواطنين وخلق فوضي في المفاهيم وظهور تيارات مناوئة لقيام الدولة وبسط سيطرتها. والجدير بالذكر أن معرفة هؤلاء للمذهب السلفي الحنبلي الوهابي العلمي أو المدخلي أو حتى الداعشي سطحي إلى حد كبير، فإن الغالبية العظمى من مريديي المذهب السلفي لم يطلع على كتب إبن تيمية ولا محمد إبن عبد الوهاب وبالتأكيد لا يعلمون شئ عن مسند الإمام أحمد، وهذا التناقض مع الدين السمح والفطرة السليمة والمواثيق الدولية من أكثر الأسباب المحبطة والمثبطة لتكوين عقل جمعي فاعل في ليبيا.
قد يفسر هذا التناقض بين سرعة تكوين عقل جمعي طقوسي (وليس ديني) من جهة وفشل تكوين عقل جمعي مدني إلى مقولة إبن رشد الذي قال ” إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني”، وهو قول يفسر نضوج العقل الجمعي في الدول المتحضرة المتقدمة، وغفلة العقل الجمعي للشعوب المتأخرة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً