ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية من صراع بين البيت الأبيض الذي يقوده الرئيس الأمريكي جو بايدن وبين دونالد ترامب الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية، وتتصدر أخباره جميع وسائل الإعلام العالمية، وتستضيف له محللين وسياسيين من شتى بقاع العالم للتحدث حول ذلك الصراع، هو انعكاس لرؤيتين مختلفتين عن تيارين سياسيين داخل الطبقة الحاكمة الأمريكية حول مكانة الولايات المتحدة الأمريكية العالمية على الصعيد الاقتصادي والسياسي كدولة إمبريالية تطل برأسها في الداخل الأمريكي.
غبار وسائل الإعلام الذي يتصاعد على أثر الصراع بين بايدن وترامب يطمس الحقيقة، ومفادها أن أمريكا سبعة العقود المنصرمة، لم تعد أمريكا اليوم، وما كانت تجنيها الشركات والمؤسسات المالية الأمريكية من الصفقات التجارية والصناعية والتطور التكنولوجي من رؤوس أموال، عبر الهيمنة الإمبريالية الأمريكية على العالم، وضخها بالداخل الأمريكي ليبني الرخاء الاقتصادي بدأت تتقوض، وبدأت شمس دولة إمبريالية جديدة تشرق على العالم تسمى الصين.
إن ذلك الرخاء الاقتصادي شكل “الحلم الأمريكي” وهو النموذج الذي سوق له منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتدشين حقبة الحرب الباردة في مواجهة الكتلة الشرقية، سواء على الصعيد الرخاء الاقتصادي الذي تمتعت به الولايات المتحدة الأمريكية لعدة عوامل منها عدم خوضها الحرب العالمية الأولى التي أنهكت بقيت الدول الإمبريالية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وخوضها لحرب عالمية ثانية بعيدة عن أراضيها بعشرات الآلاف من الكيلومترات، أو على الصعيد السياسي في الترويج لنظامها الديمقراطي وطالما تفاخرت به، وحاولت تبرير هيمنتها الإمبريالية عبر قيادة نشر نموذجها وفرضها على العالم، إما عن طريق وكالة مخابراتها المركزية (سي آي أي) لتمويل ودعم وتدبير الانقلابات العسكرية في القرن المنصرم، كما حدث في إيران -مصدق والعراق – عبد الكريم قاسم وإندونيسيا – سوهارتو وتشيلي -سلفادور اليندي وعشرات الأخرى من بلدان أمريكا الجنوبية وآسيا، أو عن طريق الثورات الملونة في بلدان الكتلة الشرقية بعد طي صفحة الحرب الباردة.
وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية بحسم نموذجها الاقتصادي والسياسي وفرضها على العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، وفرض نظام عالمي أحادي القطب بقيادته عن طريق عسكرتاريتها، وابتكرت تكتيكات وسياسات لتبرير حروبها وتدخلاتها في العالم، مثل الثورات الملونة والربيع العربي والنظام العالمي الجديد الذي دشن بحرب الخليج الثانية ثم احتلال أفغانستان وبعد ذلك غزو واحتلال العراق ومشروع الشرق الأوسط الجديد.. إلخ، إلا أن المرحلة الانتقالية إذا صح التعبير عنها، استغرقت ما يقارب ثلاثة عقود مرت بها العالم، وقد وصلت إلى نهايتها، وإن الحرب الروسية على أوكرانيا هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وأسدلت الستار على تلك المرحلة، وفتحت صفحة جديدة عنوانها أفول النظام العالمي بقيادة أمريكا والدخول في مرحلة مخاض عالم متعدد الأقطاب.
عالم الهيمنة السياسية لأمريكا والتي تعني بنهاية المطاف الهيمنة الاقتصادية ينعكس اليوم على أوضاع أمريكا الداخلية، ورياح العولمة الرأسمالية التي بشر بها الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أتت بما لم تشته سفنها، فدولة مثل بريطانيا التي كانت تحتل المركز الخامس في مصاف الدول الصناعية التي تسمى (جي 20) تتدحرج إلى الخلف لتحل محلها الهند، وفي قطاعات عديدة بدأت أمريكا تفقد ريادتها لصالح الصين مثل -الدفاع، والفضاء، والروبوتات، والطاقة، والبيئة، والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الصناعي، وتكنولوجيا الحاسبات- تقرير المعهد الأسترالي للسياسة الإستراتيجية (ASPI) -، ويتوقع الخبراء الاقتصاديون بأن الصين ستزيح الولايات المتحدة الأمريكية خلال عشر السنوات القادمة، أي بعبارة أخرى ما كانت تجنيها الولايات المتحدة الأمريكية من هيمنتها الاقتصادية التي ساهمت برخائها الاقتصادي وانعكاسه على الداخل بدأ يتقوض شيئا فشيئا، وبدأ (الحلم الأمريكي) يتحول إلى سراب أمريكي.
التيار الذي يمثله ترامب ويلتف حوله الغالبية العظمى من الحزب الجمهوري يسعى في إعادة احياء (الحلم الأمريكي) عبثا، أو بأصح العبارة إعادة إنتاج وهم (الحلم الأمريكي) لتعبئة المجتمع حوله وإزاحة الجناح الآخر في الطبقة السياسية الحاكمة، عن طريق تقوية النزعة القومية المحلية، ورفع شعار (أمريكا أولا) الذي جاء في حملته الانتخابية الأولى، واستطاع لف أقسام اجتماعية واسعة وكبيرة في أمريكا وخاصة في صفوف الطبقة العاملة في المناطق الصناعية التي شهدت تدهور كبيرا على صعيد انخفاض الأجور وتدهور الحالة المعيشية، أو في المناطق التي غادرتها الشركات الأمريكية إلى الصين والمكسيك وغيرها من البلدان التي تتوافر فيها أيدي عاملة رخيصة، وكذلك في المناطق الريفية، ووجه ترامب تهديدات عندما كان في البيت الأبيض للشركات الأمريكية في العالم وخاصة في الصين من أجل إعادتها إلى الداخل الأمريكي، وبموازاته فرض العقوبات الاقتصادية على الشركات الصينية واستغل انتشار وباء كوفيد – 19 لتنظيم حملة سياسية ضد الصين التي كانت مصدر الوباء إلى العالم، واتبع سياسة مغايرة تجاه الحلف الأطلسي أو الناتو، حيث أعلن بأن الولايات المتحدة الامريكية غير قادرة على تمويل الحلف، وعلى الدول الأعضاء إذا كانت بحاجة إلى حماية أمريكا فعليها زيادة مشاركتها في التمويل، حيث طالب ألمانيا برفع الدعم إلى 2% من دخلها القومي التي رفضت حينها، وعلى إثرها سحب ترامب قوات عسكرية كبيرة من قاعدتها في ألمانيا، ولكن بعد الحرب الأوكرانية أصبح اقتصاد الحرب له الأولوية، وزادت جميع الدول الأوروبية من مساهمتها المالية للحلف.
ويجدر بالذكر، خطاب باراك أوباما في تجديد ولايته الثانية، فهو ركز على مسألتين، الأولى بأن الولايات المتحدة غير قادرة على إدارة العالم وبحاجة إلى شركاء، والثانية بأن سياساته ستتركز على المحيط الهادئ لاحتواء الصين، وكانت قرارات الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط وأفغانستان منذ عهد إدارة أوباما هو امتداد لسياسة جناح محدد داخل الطبقة الحاكمة في أمريكا سواء مثلها أوباما أو بايدن أو ترامب، ويعي بالتالي انحدار الدور الأمريكي في العالم وعدم قدرته على المنافسة الاقتصادية والتجارية مع الدول الصاعدة وخاصة مع الصين، ولذلك أن جميع التيارات السياسية داخل الطبقة الحاكمة متفقة بأن الصين هي أكبر تهديد للولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا ما تتبعنا الصراع الذي حدث حول رفع سقف الدين بين الديمقراطيين والجمهوريين، وانتهى بصفقة أجمع عليها الحزبين، هو الإبقاء على موازنة الدفاع التي تُقدر بما يقارب ترليون دولار مع التخفيض في القطاعات الأخرى التي تشمل الصحة والتعليم والبنية التحتية وغيرها، وهذا يزيد من المردود السلبي على الرفاه والرخاء الاقتصادي الذي تمتعت بها الولايات الأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وانعكس على الأوضاع الاقتصادية لعموم المجتمع الأمريكي.
وقد بات الانقسام الاجتماعي الحاد داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وطفو اليمين العنصري على السطح، والإشهار بسلاحه دون أي تردد وخوف في المجتمع، ضاربا بعرض الحائط كل المؤسسات القانونية والأمنية كما حدث في احتلال كابيتول بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ناهيك عن أعمال القتل التي تحدث بين الفينة والأخرى ضد السود، يعكس وضعا اقتصاديا وسياسيا محددا الذي هو انعكاس مباشر لما وصلت غليه مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم على الصعيد الاقتصادي والسياسي.
وتثبت تجارب تاريخ النظام الرأسمالي على الأقل خلال القرن المنصرم على المعادلة التالية؛ بقدر اشتداد الأزمة الاقتصادية، بنفس القدر تتقوى التيارات القومية والعنصرية اليمينة وتصبح بديل سياسي واجتماعي مقبول في المجتمع، والأمثال كثيرة على ذلك مثل صعود النازية والفاشية في أوروبا التي أشعلت حربا عالمية كارثية على الإنسانية، أو ما يحدث اليوم من انتعاش اليمين القومي والعنصري في عموم أوروبا.
فتلك التيارات هي الملاذ الأخير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه للطبقة البرجوازية الحاكمة في ترحيل أزمتها الاقتصادية عبر طريقين، الأول تحميلها على كاهل الطبقة العاملة وعموم الشرائح الاجتماعية المسحوقة مثل تشريع سياسات التقشف وشد الأحزمة على البطون، والثانية عن طريق حرف أنظار المجتمع وخاصة الطبقة العاملة التي هي دائما وقودا لحروبها سواء العسكرية أو الاجتماعية، وإشاعة أوهام قومية في صفوفها وبأن سبب أزمتها الاقتصادية هم اللاجئون والمهاجرون والسود والمرأة كما نراه اليوم بشكل واضح في الولايات المتحدة الأمريكية.
إن الصراع الذي يسوق له الإعلام بين تيار يمثله بايدن حيث يحوم حوله تهمة تلقيه رشوة بقيمة 5 ملايين دولار من مسؤولين أوكرانيين عندما كان نائب للرئيس أوباما وتستره على فساد ابنه بإقالة المدعي العام الأوكراني عندما كان يحقق بقضايا الفساد عبر الضغط السياسي والابتزاز المالي على المسؤولين هناك حسب قناة (فوكس نيوز) اليمينية الأمريكية، وآخر يتصدره ترامب المتهم بالابتزاز والتحرش والاغتصاب الجنسي وعدم دفع الضرائب، فأقل ما يوصف بالمهزلة السياسية التي تحدث اليوم في أمريكا، وتكشف على زيف النظام الديمقراطي الفاسد الذي طالما تفاخرت بها الولايات المتحدة الأمريكية، في صراعها مع الدول التي لا تدور خارج فلكها، وليس عبثا أو سخرية عندما يصرح ترامب مرة بأنه سيجفف المستنقع في واشنطن عندما وصل إلى سدة الرئاسة في عام 2016، وتصريح آخر عندما صرح به بعد الجلسة الأولى لمحاكمته بتهمة 37 قضية ومحورها الاستحواذ على وثائق سرية دون وجه قانوني، عندما قال بأنه سيدمر الدولة العميقة إذا ما فاز برئاسة ثانية.
وإن ما يميز الحملة الانتخابية لبايدن وترامب اليوم التي بدأت مبكرا عن المنافسة الانتخابية بين ترامب وهيلاري كلينتون في نهاية عام 2015، كما قلنا سابقا إذا كان الخيار الأخير هو الخيار بين الجدري والطاعون، فإن خيار اليوم أي بين بايدن وترامب هو الخيار بين الطاعون والطاعون.
وعلى الرغم أن استطلاعات الرأي الأخيرة تبين أن الغالبية العظمى من الأمريكيين لا يريدون بايدن أو ترامب، إلا أنه ليس أمامهم أي بديل سياسي آخر قادر على انتشال المجتمع الأمريكي من المستنقع الذي يقبع عليه، من كراهية السود والنساء والمثليين والمهاجرين واللاجئين وإعادة أمجاد العرق الأبيض والتفوق العنصري.. إلخ، بسبب النظام (System) الموجود حيث يسلب حق اختيار كل من ليس له قدرة على دفع تكاليف لدعايته الانتخابية عند الترشيح، التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات، ولا تقف خلفه المؤسسات المالية والشركات العملاقة الكبيرة، فشخص مثل (بيرني ساندرز) ويعتبر من يسار الحزب الديمقراطي أطيح به مرتين في السباق التمهيدي الرئاسي داخل الحزب الديمقراطي بسبب برنامجه الاقتصادي، الذي يشمل التقليل من موازنة الدفاع وإنفاقه على التعليم والصحة والخدمات وتوفير فرص العمل على حساب نفوذ الشركات والمجمع الصناعي الحربي وحروب الهيمنة الأمريكية، مرة عندما تم اختيار هيلاري كلينتون في انتخابات 2016 وأخرى عندما تم اختيار جون بايدن في انتخابات 202، فما بالك إذا أراد أي عامل أن يرشح نفسه للسباق الرئاسي، أو شخص منحدر من الطبقات الكادحة!.
وأخيرا نقول إن الطبقة السياسية الحاكمة التي تمثل مجمل الشركات والمؤسسات المالية والمجمع الصناعي العسكري والمدني منسجمة حول رؤية واحدة، إلا أنها لا تفصح عنها، بأن ما يحدث لأمريكا حول العالم يجد انعكاسه في الداخل الأمريكي، وأن أفول الهيمنة الاقتصادية والسياسية للقطب الواحد سيعمق الانقسامات الاجتماعية، وأن ما يُشاع بإمكانية انزلاق المجتمع الأمريكي نحو حرب أهلية أو في أفضل الأحوال تتحول أمريكا إلى واحدة من جمهوريات الموز، ويأتي هذا على لسان عدد ليس قليل من المحللين والسياسيين الأمريكيين ومراكز الدراسات والأبحاث بمن فيهم صناع القرار، ويحمل بين طياته جانب من الصواب، ولكنه ليس حتميا إذا ما ظهر بديل تقدمي وتحرري يطرح نفسه أمام البديلين المقيتين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً