يتسلى اللبنانيون بالثرثرة والكيدية لبعضهم بعضا، فيما قال السيد المسيح قبل نحو ألفي عام: “مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين! إِنَّمَا المَطْلُوبُ وَاحِد”، وعلى هذه الآية الإنجيلية لابد للبنانيين أن يدركوا مدى خطورة وضعهم، وأن الخيارات تضيق أمامهم، وأن من يستنجدون بـ”المجتمع الدولي” على بقيتهم لن يخرجوا رابحين من المنافسة، وأن الفريق الذي يراهن على “شراء الوقت” لتحقيق مطالبه لن يربح هو الآخر، ‘نما المطلوب العودة إلى انتظام المؤسسات، ووقف الانهيار الذي يأكل من لحم الشعب.
من المستغرب أن مراقبين أو محللين سياسيين يعملون على دفن رأسهم في الرمل حين يتمسكون ببيان الاتحاد الأوروبي، أو بيان “الخماسية”، ولا يرون الواقع، وأن الحل لن يبدأ إلا من الداخل، إذا نزل الجميع عن الشجرة، ورأوا الحقيقة الموجعة، أكان في ما يتعلق بالأمن الاجتماعي، أو المعيشي، أو حتى الصناعة والزارعة وانهيار الاقتصاد، وأدركوا أن التفويض المعطى لهم من الشعب لن يستمر إلى الأبد، وما جنوه، طوال العقود الثلاثة الماضية، يمكن أن يخسروه في حال وصل الناس إلى اليأس.
مؤسف، أن هذا البلد وصل إلى هذه الحال المزرية، لأنه يفتقد إلى رجال دولة، أو ما يعرف بـ”الأوادم” الذي أقصيوا عن الواجهة رغما عنهم، وحل محلهم من تمرسوا بالابتزاز، السياسي والمالي والاقتصادي، والاجتماعي.
والمؤسف أكثر أن هؤلاء يدركون جيدا أنهم حصلوا على قوتهم من ما يسمى “الأغلبية الصامتة” لأن ما عاشته من ويلات الحرب كفاها، ولا تريد المزيد، لكن لا يمكن المراهنة على هذا الأمر إلى ما لا نهاية، إذ لا شك كانت هناك فورات غضب كثيرة، خلالها تحسست جميع الطبقة الحاكمة والسياسيين أعناقهم، ولهذا مارسوا نوعا من توزيع الأدوار لشيطنة تلك الفورات، واستثمروا الغضب الشعبي عبر الابتزاز السياسي والطائفي، وتصوير أن الخطر يمس الطائفة، أو المجموعة، وإن ذلك يعني نهايتها.
فيما الحقيقة عكس ذلك على الإطلاق، وإن شعارات الترهيب والترغيب هي أداة لاستكمال السيطرة على ما تبقى من لبنان، ليس الجغرافيا ولا القوة الطائفية، إنما الاقتصاد والأموال، وفي النهاية فإن هؤلاء يستقلون طائراتهم الخاصة، أو يخوتهم، ويفرون في ليل مدلهم إلى الجنات التي أقاموا فيها ملاذات آمنة لهم، تتمتع عائلاتهم بما نهبوه، وليذهب “وطن الأرز”، و”هالكم الأرزة العاجقين الكون” إلى الجحيم.
اليوم يهولون على الناس بالدولار والليرة، فيما هم نهبوا وفقا للأرقام المنشورة، من أكثر من مرجعية أجنبية، نحو 425 مليار دولار، إضافة إلى 273 مليار دولار كانت ودائع الناس في المصارف اللبنانية لغاية العام 2019، وهذه حكاية أخرى لا يمكن السكوت عنها، لكن حين يهول على الجائع بين أمنه الاجتماعي ورغيف عيشه، أو يقال له إن الفريق الفلاني يريد اجتثاثك من الوجود، أو بين القبول بالمعالجات الخطأ يقبل أقل المرين، فيما هو يأكل العلقم يوميا، لهذا لن يضيره إذا تجرعه مرة أخرى.
تابعت الكثير من برامج “الثرثرة” السياسية في الآونة الأخيرة، وقرأنا عشرات المقالات عمن يتسبب بالأزمة، في مشهد أقل ما يقال فيه إنه “حول سياسي”، إذا أحسنا القول، بينما هو “عمى بصيرة” عما يعانيه الشعب اللبناني، لسبب بسيط جدا، وهو أن هؤلاء مدفوعين إلى قول ذلك، لمصالحهم الشخصية، ولخدمة الفريق الذي ينتمون إليه، بينما الحقيقة في الانفجار الاجتماعي الكبير، والجريمة التي تزداد يوميا، وطبعا الطبقة السياسية لا ترى هذه الحقيقة، فهي مشغولة بالمزيد من إفقار الشعب.
نعم، صدق السيد المسيح بقوله: “مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين! إِنَّمَا المَطْلُوبُ وَاحِد”، فهل يدرك الشعب اللبناني ذلك؟ رغم الشك الكبير في هذا الشأن إلا أن يبقى الأمل فيه، وأنه يستطيع الخروج من أزمته التي المستمرة منذ العام 1969 إلى اليوم.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً