درجت الشعوب على وصفها ببعض سماتها الغالبة عليها، فأهل الشمال قليلوا الحركة والكلام، والأفارقة سريعوا الإنفعالات وأهل مصر لبقوا الحديث، وأهل الجزيرة العربية يتصفون بالبداوة، وهل ليبيا بالطيبة والعناد، وفي التاريخ عشرات الشواهد على ذلك. والطيبة تعني البساطة وسهولة التعامل، والمبادرة في المساعدة، والغضب السريع مع سهولة الصفح، والرضى بالقليل، أما العناد فيتمثل في التعامل بردود الأفعال دون وجود نفس طويل، ورفض الأمر ولو كان على حق. هذا الشعب الطيب قد لا يضاهيه في طيبة قلبه إلا الشعب الصيني، فالصينيون بسطاء في الحياة وفي التعامل، لا يتسولون رغم فقرهم، ولا يتكبرون وهم أصحاب حضارة عريقة، يعتبرون غيرهم اكثر علماً وفهما من أنفسهم، وعندما يقف الغريب حائراً يتبرع العشرات لمساعدته دون مقابل، إلا أن الفرق الواضح بين الشعبين هو أن للصينيين سواعد للعمل لا تكل ولا تمل، أما الليبيون فسواعدهم فترت مع ظهور النفط وتلبست حياة الدعة، يقول الشيخ محمد الغزالي: “إن حياة الدعة والطراوة تقتل المواهب، وتطمر الملكات…والإنسان يتحرك، ويتكشف معدنه، ويغزر إنتاجه كلما أحس خطر المعارضين، أو صدمات الشدائد، كأن أسرار الحياة الكامنة فيه يستثيرها التهديد فتتحفز للدفاع عن نفسها، فتندفع إلى الأمام ناشطة آملة.
طيبة الليبيون لها مآثر ومآخذ كثيرة، فمن مآثرها سهولة فض المنازعات بين المناطق والقبائل بلا جبر للضرر وإن قتل فيها من قتل، ورأب الصدع وردم الفجوة بين المتخاصمين، وعلى المستوى الدولي حب الزائرين والوافدين لليبيا وأهلها، والرغبة في العمل بها والتعامل معها، إضافة إلى أسباب أخرى محبذه لهم مثل المناخ المعتدل والموقع الجغرافي وإنخفاض تكاليف الحياة.
هذا الشعب الطيب لعقود طويلة كان مسلوب الإرادة محروم من الحرية، ولقد ضمنت له الحكومات المتعاقبة رغيف الخبر الرخيص بسعر التُراب والبنزين بسعر أقل من الماء، مع سيارات قديمة مستعملة مناسبة لدخله السنوي في بلد لا توجد به وسائل نقل عامة، ووفرت القبضة الحديدية للنظام السابق الأمن والآمان بوضع المجرمين والمعارضين السياسيين والمخالفين العقديين جميعاً في سلة واحدة، والزج بهم في السجون، وإستنطاقهم بالحديد والنار، وبذلك أنعم العامة بحياة الكفاف دون فقر مدقع، وأمن وأمان خالية من الحُريات العامة.
بعد ثورة 17 فبراير تغير الموقف، إنهارت المؤسسة الأمنية الضامنة للأمن، ومع جرعة الحرية الزائدة، تحررت الحناجر الصادقة المكتومة، ورافق ذلك إنفلات أمني كبير، ناتج عن هروب المجرمين من السجون ومن العقاب، وحصولهم على السلاح وإستغلالهم من دواعش المال العام، وإنضم لهم النفعيون، فأنتشرت الحرابة والخطف والجريمة المنظمة، والقتل على الهوية، وعلينا أن نعترف بذلك ونتأسى بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: رحم الله إمرؤُ أهدى إلي عيوبي. وما زاد من تفاقم العيوب السابقة، التدليس الإعلامي الذي تقوم به الكثير من الإذاعات الموجهة الليبية والعربية من أجل مصالح فئوية أو إقليمية، فأوجد علل فكرية كثيرة أحدثت خرقاً كبيراً في البناء الإجتماعي الليبي، وأصبح الكثير من أفراد الشعب الطيب لا يستبين الحقيقة من الخيال، وهذا مشابه لما عبر عنه الإمام البصيري في قوله:
قد تُنكِر العينُ ضوءَ الشمس من رَمدٍ ******* وينكِرُ الفمُ طعمَ الماء من سَقَمِ
الشعب الطيب لم يعيش الحرية من قبل ولم يختار حُكامه على مر التاريخ، وعندما تنفس الصعداء، كان القادمون من المهجر في الموعد لتسلم زمام القيادة، ليبيون فر بعضهم من جور النظام السابق، وهاجر قسم منهم لأسباب إقتصادية، كان الشعب الطيب يرى فيهم النخبة المنفتحة على العالم والتي يمكن لها المساهمة في تحديث أو إعادة بناء مؤسسات الدولة، للأسف لم يكن ذلك ممكنا لأسباب كثيرة أهمها بعدهم عن الواقع الليبي وعدم معرفتهم بإدارة أجهزة الدولة، وجلبهم لإختلافاتهم العقائدية والمذهبية والجهوية والأيديولوجية في المهجر إلى ليبيا، كما تم إستقطاب بعضهم من الدول العربية والأجنبية ورجالات الحكم السابق، ولم يتفق معظم العائدين من المهجر إلا على قيمة التعويضات الباهضة عن سنوات الغُربة، وما أن نضبت خزائن الدولة الليبية، حتى قفل القادمون إلى الإلتحاق بعائلتهم بالمهجر. وكمثال صارخ لهذه النخبة (بلا تعميم) أن وزيرة الصحة قد إعترفت بأن الأموال التي دخلت حسابها كانت عمولة من شركات إستيراد الأدوية الليبية، وأنها كمواطنة إيرلندية؛ قانون البلد لا يمنع تبييض العمولات.
الشعب الطيب صدق هؤلاء وإنقسم معهم إلى إسلاميين وعلمانيين، أو رواد التغيير ورواد الردة والأمن والأمان وأصبح أبناء الوطن وكلاء ووقود للحرب الطاحنة بين قطبي الصراع على الساحة العربية وهم قطر من ناحية ومصر والإمارات والسعودية من ناحية أخرى. فالإسلاميون لن يتأخروا قيد أنملة عن أملهم في التغيير، والعروبيين العلمانيين يعلمون أن دول الخليج هي التي أنجحت إنقلاب 30 يونيو في مصر، فكيف لا تنجح في كسر إرادة الإسلاميين في ليبيا؟. وبذلك وقع أهلنا في الشرق الليبي في حبال الحاوي وقدم قرابة تسعة ألاف من خيرة شبابهم قربناً لدعوى محاربة الإرهاب من بني جلدتهم بإسم مشروع إسترداد الكرامة، وعندما تنجلي المعركة كما هي في الغرب الليبي يتاسف الجميع عما حدث، ويتسأل الجميع من أجل ماذا رُمت النساء ويُتم الأطفال وزُهقت الأرواح ودُمرت مدينة على بكرة أبيها؟ أفصح من عبر عن هذا الشعور سفير ألمانيا في ليبيا الذي تعجب كيف لشعب إنتفض على طاغية أن ينصب عليه طاغية جديد؟؟
العائدون من المهجر سنوا سنة سيئة، بإتفاقهم على التعويضات الكبيرة والمرتبات العالية والمزايا الصارخة، مع إلقاء الفتات على العامة دون محاولة بناء هيكلية إدارية وقوانين وتشريعات نزيهة، جعل العامة ينهمكون جميعاً في الفساد الإداري والمالي، بداية من سرقة كوبل الكهربا من أعمدتها إلى إستيراد الحاويات الفارغة إلى غلق المواني ومحاولة تصدير النفط خارج الشرعية ومرورا بالعلاج الجماعي لتبييض الأسنان وتحويل العملة ببطاقات الفيزا المزورة للشخص الواحد، ولن تنسى 5 مليارات من الدينارات لوظائف وهمية أو مكررة، و54 مليون دينار لأبنائنا الأنقياء الطيبون في سرت، أي أن الشعب الطيب الذي لا تفوته صلاة خارج المسجد، والذي يردد كثيراً أذكار الصباح والمساء، هو نفسه الذي لم يتورع عن تزوير 350 ألف كتيب عائلة في المنطقة الشرقية فقط جلهم للمصريين والسوريين، و83 ألف رقم الوطني مكرر على مستوى ليبيا، و409 ألف مرتب حكومي بمستندات زائفة، ناهيك عن عدم تسديد الكهرباء والماء وعدم دفع الضرائب الجمركية.
الغريب في الأمر أن الحُواة لم يتوقفوا عند جر الشعب الطيب إلى مآخذ ومزالق الدنيا فقط، بل إتسع ذلك إلى تغيير المذاهب الدينية التي سادت في ليبيا لما يزيد عن ثلاث عشرة قرناً من الزمان، فمثلاً؛ قبل سنة 1986 م ميلادي كان دعاء القنوت يصدح عند الفجر في جميع المساجد، ولم يكن هناك شخصاً طيباً واحداً يقبض يديه في صلاته أو يشمر عن كعبيه، أو يكفر من يزور الأولياء الصالحين، أو يهدم الزوايا، ناهيك عن نبش القبور وتكفير الأمة أو الإنضمام إلى داعش بدعوى أنهم أبنائنا الأنقياء. التغيير في هذا المجال كان كبيراً وفي المدن الكبرى كان أكبر، لدرجة أنك تتأمل خيراً في أن الشعب الطيب قابل للتغيير دائما وبسرعة، ولكن في أي إتجاه؟.
من الواضح أن مخططات الدول الشقيقة الداعمة لقوى الردة أكبر من خيال الشعب الطيب والحريصين منهم على إستمرار إرادة التغيير، فإنتصار قوى الكرامة بمساعدة الفرنسيين وقيادة خليفة حفتر في بنغازي ودرنة وتصفية المعارضين لهم، يحتم على جضران الإنضام إلى الكرامة في ساعات قليلة، مما يساعد على فتح المواني النفطية، وبإعاز من رجالات العهد السابق يتم إنفصال الأزلام (الدواعش الليبيون) عن الدواعش الأجانب في سرت مما يجعل سرت تتحرر في يومين على أكثر تقدير وبمجزرة لم يشهد لها تاريخ مكمداس منذ هزيمة العباسيين على يد أبوالخطاب بن السمح العافري في نفس المكان. وهذا يجعل مصراته على مرمي حجر من مدراعات النمر الإماراتية، وعندها سيهلل الليبيون الطيبون الداعمون للأمن والأمان كثيراً لإنتصارات (الجيش).
أما في المنطقة الغربية فالمتربصون كثيرون، وأكترهم من العسكريين القدامى بمجلس النواب الذين لا يتورعون من مساعدة حفتر على دخول طرابلس مضفراً منتصرا إن سمحت لهم الظروف، وستكون قاعدة الوطية مرة أخرى نقطة إنطلاق قوات ما يسمى لواء المنطقة الغربية إلى طرابلس بمساعدة غرفة عمليات فرنسية، وإن فشل المخطط في المنطقة الغربية (وهو كذلك) فسيكون نصف الحل تكوين الجمهورية العربية البرقاوية الإتحادية في الشرق الليبي برأسة حفتر والتي تتكون من برقة البيضاء وعاصمتها إجدابيا، وبرقة الحمراء وعاصمتها المرج وبنغازي، وجمهورية فزان الأفريقية بقيادة عيسى عبد المجيد في الجنوب الليبي ولها ثلات عواصم سبها وغات وأباري.
خلاصة القول لا مخرج ولا ملجاء سوى وجود حكومة وطنية جامعة تضم جميع أفراد الأمة الليبية، ومعها ينتهي دور مجلس النواب والمؤتمر الوطني وقواتهم العسكرية المشرعنة واللاشرعية، وينضم الجميع إلى مؤسسات الدولة، إلى حين إصدار الدستور الذي سيعتني بهيكلية الدولة وتحديد سلطات مؤسساتها، وقبل هذا وذاك يتوقف مصرف ليبيا المركزي (بطريقة غير مباشرة) عن دعم القوات المتقاتلة في غرب البلاد وشرقها وعن توفير السلاح لها وصرف رواتبها ودفع وتسييل أموالها من أجل شراء القنابل والصواريخ والبراميل المتفجرة لهدم المدن وزهق الأرواح وتشريد الأهالي.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً